عدد رقم 4 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
مهندس في صناعة المُقدَّسات  

  «وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: انْظُرْ! قَدْ دَعَوْتُ بَصَلْئِيلَ بْنَ أورِي بْنَ حُورَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بِاسْمِهِ وَمَلأتُهُ مِنْ رُوحِ اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ صَنْعَةٍ، لاخْتِرَاعِ مُخْتَرَعَاتٍ لِيَعْمَلَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَنَقْشِ حِجَارَةٍ لِلتَّرْصِيعِ وَنِجَارَةِ الْخَشَبِ. لِيَعْمَلَ فِي كُلِّ صَنْعَةٍ. وَهَا أنَا قَدْ جَعَلْتُ مَعَهُ أهُولِيآبَ بْنَ أخِيسَامَاكَ مِنْ سِبْطِ دَانَ. وَفِي قَلْبِ كُلِّ حَكِيمِ الْقَلْبِ جَعَلْتُ حِكْمَةً لِيَصْنَعُوا كُلَّ مَا أمَرْتُكَ» (خر31: 1-6). 

   أعمال عظيمة ودقيقة طلب الرب أن تُعمل في صنع أجزاء خيمة الاجتماع؛ ذلك البناء الفريد والثمين.  ولم يترك الرب موسى مُتحيرًا بعد أن أراه النموذج الذي سيصنع الخيمة على مثاله، بل حدد له مَن الذي يقوم بالعمل، وكيف سيُتممه.

   لم يكن الأمر متروكًا لموسى الذي تهذب بكل حكمة المصريين، الذين أبدعوا في الصنع وتفوقوا في البناء.  ربما سأل موسى نفسه، أين تلك الأيادي الماهرة والعقول الواعية التي تتمم هذا العمل الفريد؟ كيف تُصنع هذه المقدسات الثمينة والدقيقة بأيدي أناس ليست لديهم خبرة بالعمل في الذهب ونقش الحجارة الكريمة؟ ما أبعد هذه الحِرف الدقيقة والفنون الراقية البديعة عن هؤلاء العبرانيين البسطاء الذين كانوا يعملون في الطين وأعمال الحقل.  في معاجن الطين نشاطهم، وفي جمع التبن خبرتهم التي فيها كدُّوا، واستهلكت قواهم الجسدية وأرهقت نفوسهم وتمررت.  نعم، من هو كفؤٌ لهذه الأمور؟

   لكن الرب اختار وهيأ وأعدَّ الرجل الذي يستخدمه، فدعا بصلئيل بن أوري من سبط يهوذا؛ السبط الذي يريد أن يكرمه.  وأصبح بصلئيل المهندس المشرف على هذا العمل العظيم.  وعيَّن أيضًا مساعدًا له، فاثنان خيرٌ من واحد، كما كان السيد يرسل تلاميذه.  فاختار أهوليآب بن أخيساماك من سبط دان؛ السبط الأقل كرامة.  رغم اختلاف كرامة عضو عن الآخر في الجسد الواحد لكن يُسر الله بهذا المزيج لكي يهتم الكل اهتمامًا واحدًا.  «لَكِنَّ اللهَ مَزَجَ الْجَسَدَ مُعْطِياً النَّاقِصَ كَرَامَةً أَفْضَلَ،  لِكَيْ لاَ يَكُونَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَسَدِ بَلْ تَهْتَمُّ الأَعْضَاءُ اهْتِمَاماً وَاحِداً بَعْضُهَا لِبَعْضٍ» (1كو12: 24، 25).

   أرجو أن ننتبه لهذه الكلمات المفتاحية الهامة التي تلقي الضوء على موضوع الخدمة: 

« قد دعوت...ملأته... ليعمل في .. وجعلت معه ...»

1- الرب هو الذي يدعو للخدمة: خدمة الرب لا نأخذها من إنسان ولا نستحسنها لأنفسنا.  

2-  الرب يؤهل المدعوين للخدمة: إذ يعطي الإمكانيات والقوة اللازمة لإنجاز الخدمة.

3- الرب يُحدد مجال ومكان الخدمة: حيث أنها أعمال سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها.

4- الرب يُرتب أيضًا شركاء الخدمة: يحرك الذين يعاونون الخادم في إنجاز خدمته.


وإذ نتأمل في معانى الأسماء أيضًا، سنجد بعض الصفات الرائعة التي حبذا لو توفرت في رجال دعاهم الرب ليخدموه:

"بصلئيل" ومعناه "في ظل الله"، واسم أبيه "أوري" ومعناه "نوري" وفيهما نجد ثنائية رائعة تؤكد ضرورة الشركة القوية مع الله. 

"أهوليآب" ومعناه "أبو الخيام" أو "الآب خيمتي".  وأبيه "أخيساماك" معناه "أخ يعين".  وفي هذه الثنائية يلمع موقف المؤمن من الشهادة في العالم؛ العالم بنظامه والنفوس التي فيه.

أولاً: رجل في ظل الله:

تحت حماية الله وفي حضرته، في ظل الله ليصنع ظلالاً لأمور مجيدة وسامية تحمل رموزًا بديعة الجمال عن شخص الرب يسوع المسيح، بل يكون ذلك الصانع الحاذق الماهر هو نفسه رمزًا باهتًا للسيد الكريم باني الكنيسة، والمشرف العظيم علي تكوينها وتقديسها، والضامن لها «على هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت16: 18)، «إِنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ فَبَاطِلاً يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ» (مز127: 1).

والخادم الذي يكون في ظل الله يتمتع بحمايته.  «اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ ... بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي» (مز91: 1-4)، ويتمتع بالشبع من الحبيب المتفرد الجمال «كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ كَذَلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ. تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي»(نش2: 3).  ويتمتع بالفرح، «لأَنَّكَ كُنْتَ عَوْناً لِي وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَبْتَهِجُ» (مز63: 7)، حينئذ يكون تكريسه كاملاً. 

ثانيًا: رجل يعيش في نور الرب:

الخادم الذي يسلك في نور الرب لا يهاب ظلام العالم بفلسفاته وسخافاته، وبنور الرب يرى نورًا.  وهو يهتدي في خدمته بكلمة الله، «لأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِصْبَاحٌ وَالشَّرِيعَةَ نُورٌ» (أم6: 23)، وبذلك السراج المنير يستنير الذهن ويُضاء السبيل.  فهي نعم الدليل، بل زاد الطريق والسلاح الكامل. بعيدًا عن الكتاب يفتقد الخادم للتمييز وتتشوش رؤيته.  فلاسفة العالم يتخبطون في الظلام، بينما ينهل الخادم من نبع الحكمة، فطالبو الرب يفهمون كل شىء.

   الإنسان الطبيعي يسلك في نور العُرف السائد في مدينته أو حتى عائلته كما نجد فريقًا من شباب المؤمنين يرون أن رفقاءهم من شباب كنيستهم المحلية هم المقياس فيحددون ما هو لائق أم لا حسب ما يرونه شائعًا في الأوساط الروحية حولهم، ولسان حالهم: أليس الكل يفعل هكذا!  يريد البعض أن يرتقي في أدائه فيجعل المقياس الفاصل هو ما يشير به أحد المؤمنين المتقدمين يكون موثوق فيه ومقرب لقلبه.  أما المؤمن الأمين السالك في نور الرب تجده يومًا فيومًا ينمو في النعمة وفي معرفة الرب، إدراكه لعظمة الله وجلال صفاته يزداد، وتمييزه لأمور الله واعتبارات مجده يزداد أيضًا.  «أَمَّا سَبِيلُ الصِّدِّيقِينَ فَكَنُورٍ مُشْرِقٍ يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إِلَى النَّهَارِ الْكَامِلِ» (أم 4 : 18).


ثالثًا: رجل يسلك سلوك الغريب:

"أهوليآب" معنى اسمه "أبو الخيام" أو "الآب خيمتي"،  وقد دعاه الرب ليشارك في بناء خيمته، خيمة الله التي تتنقل مع ترحال الشعب وتذكرهم بأنهم غرباء.  وقديسو الرب فى كل التدابير عاشوا كغرباء ونزلاء.  وعندما حاول العالم أن يغريهم بعطاياه وهباته رفضوه، وداسوا بعز على مغرياته، عاشوا باتكال على الرب المُتكفل بهم مُدركين أنهم سياح السما.  لكن أيضًا يسلك الخادم كالغريب المشتاق للوطن، كما قال الرسول بولس للمؤمنين في فيلبي: «لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً. وَلَكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي الْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ» (في1: 23، 24)، فالخدمة لن تُطفئ الأشواق المتأججة في قلب الخادم الأمين للقاء الحبيب، بل هي دافع قوي للاجتهاد فى خدمة السيد.

يهيم فؤادي ليوم الرحيل     كفى يا غريب غياباً طويل

كفاني فحبي لذاك الوطن     يشوق نفسي لقرب الزمن

فما لي قرار هنا في وجودي .. غريب الديار


رابعًا: رجل يحب النفوس ويقدر قيمتها:

   معنى "أخيساماك" هو "أخ يعين"، وهل يوجد دلالة عن الحب والاهتمام والتقدير مثل هذه.  ليس فقط أخ، بل نافع ومستخدم، وهذا معناه أنه يحب النفوس.  والخادم الذي لا يقدر قيمة النفوس ولا يُحبها بإخلاص، قد يكون له من النشاط والاجتهاد الكثير، لكنه مع الأسف يخلو من التأثير.  فلن يجذب النفوس عُظم مواهبنا ولا مهارة إنجازاتنا، لا عُمق خبراتنا أو غزارة معلوماتنا، بل صدق محبتنا.  الخدمة تنجح لا بالمواهب المتألقة والأنشطة الجبارة، بل تبدأ عندما تكون لنا ذات مشاعر ومحبة سيدنا تجاه النفوس الغالية.

   الخادم الذي يحب الرب بصدق، حتمًا ستكون له أحشاء سيده؛ سواء محبة للنفوس الهالكة فيسعى جاهدًا لكى يقدم لها ماء الحياة الأبدية، أو محبة لنفوس إخوته القديسين والأفاضل الذين كل مسرة الرب بهم، فيرعاهم ويُعلِّمهم، أو حتى يوبخهم وينذرهم، لكن بدافع المحبة الخالصة للرب ولهم. 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com