المشهد الثامن: في أورشليم مرة أخرى
(2صم16: 15-17: 23)
(2)
عندما هرب داود من وجه أبشالوم ابنه، صرخ إلى الرب: «يَا رَبُّ، مَا أَكْثَرَ مُضَايِقِيَّ! كَثِيرُونَ قَائِمُونَ عَلَيَّ. كَثِيرُونَ يَقُولُونَ لِنَفْسِي: لَيْسَ لَهُ خَلاَصٌ بِإِلَهِهِ» (مز3: 1، 2). ولكن الحقيقة أنه كان له خلاصٌ بإلهه. ومن المُمتع أن نتتبع سلسلة الأحداث، وظهور الأعوان الذين أرسلهم الرب لتشجيع داود، وتعزيته في محنته، وخلاصه منها فيما بعد، وأيضًا «لِيُنْزِلَ الرَّبُّ الشَّرَّ بِأَبْشَالُومَ» (2صم14: 17).
لم يشأ الرب أن يجتاز داود هذه الاختبارات وحيدًا منفردًا. وأي شيء أغلى وأعز من المحبة التي تربط قلوب الذين هم للمسيح أثناء مسيرهم في طريق الإيمان «اِثْنَانِ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدٍ ... لأَنَّهُ إِنْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا يُقِيمُهُ رَفِيقُهُ» (جا4: 9، 10). وكان لداود أصدقاء أوفياء في وقت الشدة؛ منهم مَنْ كان دورهم نقل الأخبار بأقدامهم السريعة وتصرفهم الحكيم، ومنهم مَن كان دوره إحضار الإمدادات من الطعام واحتياجات الحياة الضرورية لداود ومَن معه، ولكن الكل كان مُستخدمًا من قِبَل الرب، مِن أجل خادمه داود في محنته الصعبة.
وما أكثر المرات التي نجد فيها الرب يهتم حتى بالتفصيلات الصغيرة للقديسين في تجاربهم وظروفهم الصعبة، ويُرسل مَنْ يهتم بهم. ودعونا نُلقي نظرة على أصدقاء داود الأمناء، فشذى خدمتهم يُعطر هذا المشهد، وكل واحد يتعاون مع الآخر في هذا النشاط، لكي يُعطوا سَيِّدهم المكان الصحيح اللائق به، والمركز الذي انتزعه منه أبشالوم الشرير.
ويأتي على رأس القائمة ”حُوشَايُ الأَرْكِيُّ“، وهو كان معروفًا - حتى في بلاط أبشالوم - باعتباره «صَاحِبَ (صديق) الْمَلِكِ» (2صم15: 37؛ 16: 16؛ 1أخ27: 33). هذا كان الأول في مواجهة الخطر، وأيضًا الأداة الأولى للانتصار، وكان تواقًا للاتصال بداود لإبلاغه بمشورته ومشورة أخيتوفل لأبشالوم. وكانت الأخبار يجب أن تصل لداود، وكان يجب أن يُحذَّر من الخطر. فرغم أن مشورة ”حُوشَاي“ كان من شأنها أن تمنح داود وقتًا لكي يجهز صفوفه، ويختار أنسب الأماكن للقتال، لكن كان من شأنها أيضًا أن تجعل أبشالوم يحشد أعدادًا كبيرة، ليُهاجم بها داود، وهو ما كان يجب أن يُنبه إليه داود.
وكان على داود أن يهرب إلى شرق الأردن ليكون في وضع أفضل ضد هجوم أبشالوم. ولكن كان يجب أن يظل ”حُوشَايُ“ في أورشليم، ولا يذهب بنفسه إلى داود، لئلا يتطرق الشك إلى أبشالوم ورجاله.
وهنا يأتي دور ”صَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ“؛ أول المؤتمنين على أسرار داود «وَقَالَ حُوشَايُ لِصَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ: كَذَا وَكَذَا أَشَارَ أَخِيتُوفَلُ عَلَى أَبْشَالُومَ وَعَلَى شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ، وَكَذَا وَكَذَا أَشَرْتُ أَنَا. فَالآنَ أَرْسِلُوا عَاجِلاً وَأَخْبِرُوا دَاوُدَ: لاَ تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي سُهُولِ الْبَرِّيَّةِ، بَلِ اعْبُرْ لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ الْمَلِكُ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ» (2صم17: 15، 16).
وكان مع صَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ ابناهما ”أَخِيمَعَصُ لِصَادُوقَ، وَيُونَاثَانُ لأَبِيَاثَارَ“، اللذان كانا على أهبة الاستعداد للإسراع لنقل الأخبار إلى داود. لقد وقفا عند ”عَيْنِ رُوجَلَ“، متأهبين للإنسلال في ظلام الليل، ولكن كان عليهما أن يتفادا عيون جواسيس أبشالوم ورجاله. ولكن كيف ستصل الأخبار إليهما عند ”عَيْنِ رُوجَلَ“ (ع17).
وهنا تظهر في المشهد حلقة هامة جدًا: ”جارية بسيطة مغمورة“ (ع17)، كانت تخص في الأرجح أحد الكاهنين؛ صَادُوق أو أَبِيَاثَارَ. هذه بدورها حملت رسالة ”حُوشَاي“ إلى ”أَخِيمَعَصُ وَيُونَاثَانُ“. وبالرغم من أن وجودهما هناك لم يكن يحمل في ذاته أية شبهة، ولكن «رَآهُمَا غُلاَمٌ وَأَخْبَرَ أَبْشَالُومَ» الذي أمر عبيده بتتبعهما (ع18).
ولكن حلقة من سلسلة أعمال العناية الإلهية لا يمكن أن تنكسر. فعندما لاحظ ”أَخِيمَعَصُ وَيُونَاثَانُ“ تتبع جواسيس أبشالوم لهما «ذَهَبَا كِلاَهُمَا عَاجِلاً وَدَخَلاَ بَيْتَ رَجُلٍ فِي بَحُورِيمَ وَلَهُ بِئْرٌ فِي دَارِهِ، فَنَزَلاَ إِلَيْهَا» (ع18). وأصبح صاحب البيت وامرأته حلقة مهمة في سلسلة أعمال العناية الإلهية «فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ وَفَرَشَتْ سَجْفًا عَلَى فَمِ الْبِئْرِ وَسَطَحَتْ عَلَيْهِ سَمِيذًا فَلَمْ يُعْلَمِ الأَمْرُ» (ع19). لقد كانت هذه المرأة تقوم بمسؤولياتها المنزلية المؤتمنة عليها لترعى بيتها، وقامت بخدمة الرسولين ”أَخِيمَعَصُ وَيُونَاثَانُ“، ورتبت لهما مكانًا خفيا بحيث لا يتمكن العدو من اكتشافهما. كان غرضها المباشر يتجه إلى الرسولين، غير أن خدمتها كانت لأجل مسيح الرب داود.
«فَجَاءَ عَبِيدُ أَبْشَالُومَ إِلَى الْمَرْأَةِ إِلَى الْبَيْتِ وَقَالُوا: أَيْنَ أَخِيمَعَصُ وَيُونَاثَانُ؟ فَقَالَتْ لَهُمُ الْمَرْأَةُ: قَدْ عَبَرَا قَنَاةَ الْمَاءِ» (ع20). لقد وجهت رجال أبشالوم إلى الاتجاه الخطأ، وبعد ذهابهم، خرج ”أَخِيمَعَصُ وَيُونَاثَانُ“ من البئر، ذهبا وأخبرا الملك داود بالأخبار، وبما أشار به أخيتوفل على أبشالوم «فَقَامَ دَاوُدُ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ وَعَبَرُوا الأُرْدُنَّ. وَعِنْدَ ضُوءِ الصَّبَاحِ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ لَمْ يَعْبُرِ الأُرْدُنَّ» (ع22).
كان لداود احتياجات عظيمة، ولكن كان له إله عظيم عطوف يهتم به. وكان لإله داود خدامه الكثيرين في كل مكان. ومن أجل داود عبده استدعى الرب للخدمة رجل مشير حكيم؛ ”حُوشَايُ الأَرْكِيُّ“، واثنين من الكهنة؛ ”صَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ“، وابنيهما ”أَخِيمَعَصُ وَيُونَاثَانُ“، وجارية بسيطة مغمورة، ورجل ريفي مجهول الاسم مع زوجته المغمورة. وكل واحد من هؤلاء كان له دوره الخاص الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لتصل الأخبار إلى داود.
وفي هذا المشهد توجد سلسلة من الخدمات مرتبطة ببعضها البعض لتحقيق غرضٍ واحدٍ. ولو غابت حلقة منها لأصبح داود فريسة لأبشالوم. وكان تكريس الجارية الفقيرة الشابة له أهميته للملك، مثل مشورة وحكمة تصرف ”حُوشَاي“ صَاحِبَ الْمَلِكِ. لا شيء يُمكن أن يُحتقر، وربما الأكثر تواضعًا هو الأجمل مكانًا.
وليست فقط الخدمات المتنوعة كيفما كانت تُكوّن مجموعة واحدة معًا عندما يكون لها ذات الهدف، بل ما يستحق الملاحظة أيضًا أن خدمة الواحد تتطلب خدمة الآخر، وكل منها يتحرك بالذي سبقه.
ليتنا – باعتبارنا أحباء وأصدقاء الرب يسوع المسيح، المرفوض والمُحتقر الآن من العالم – أن لا نعتبر أية خدمة أصغر من أن نقوم بها، أو أن نعتبر أنفسنا غير مستحقين أن نخدم مع مَنْ هم أكثر مِنا إمكانيات أو مواهب. إن افتقاد أية خدمة بسيطة يُمكن أن يُعوّق وصول الأخبار المفرحة إلى مَن هم في أمس الحاجة إليها. آه لو علم الأخ صاحب الخدمة البسيطة التي تبدو له كأنها قليلة الأهمية، أن صاحب الخدمة البارزة لا يستطيع أن يستغني عن تلك الخدمة البسيطة، بل «هِيَ ضَرُورِيَّةٌ» (1كو12: 22)، لارتاح ولخدم راضيًا.
أيها الأحباء: مَنْ ذا الذي يحتقر الأمور الصغيرة؟! ليعطنا الرب نعمة لندرك أن قيمة أية خدمة تتوقف على تقدير الله لها، وأن أقل خدمة وأبسط خدمة إنما تستحق منا كل اهتمام وتكريس الفكر والقلب مادام الله هو غرضها وهو الذي وضعها على قلوبنا. والخدمة العظيمة ليست هي التي تظهر لها المظاهر العظيمة هنا، لأن الله كثيرًا ما يسمح أن لا تكون لخدماتنا نتائج ظاهرة لكي يختبر إن كنا راضين أن نسير بالاختفاء أم لا، ولكن الخدمة العظيمة هي أن نجد سرورنا في إرضاء سَيِّدنا. وباب هذه الخدمة مفتوح أمام كل واحد مِنا: الصغير والضعيف، كالقوي وصاحب المواهب.