عدد رقم 3 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الأخت سارة  


   هي قصة اختبار نفس تعلقت بالرب، فلم يكن ما يسعدها في العالم سوى محضره، ولا ما يشقيها سوى أن لا تجده، وزال كل هدف في الحياة من أمامها سوى أن يتمجد هو.  هي الأخت سارة زوجة رجل الله الراحل وخادمه الأمين القس جرجس روفائيل، الذي كان قد رُسم راعيًا للكنيسة الإنجيلية بملوي إبان السبعينات من القرن التاسع عشر.  كانت الكنيسة الإنجيلية في أيامه معقل وملاذ الأتقياء، وكان ما عندهم من نور هو ألمع ما وصل إلى المؤمنين في مصر، وقد سلكوا بحسب النور المُعطى لهم، وكان القس جرجس روفائيل أمينًا في التمسك بما عنده.

   كانت الكنيسة الإنجيلية في ملوي تضم نُخبة من الرجال الأتقياء، وكان بينهم عدد من المقتدرين ماليًا والأسخياء في العطاء، وكان القس جرجس روفائيل محبوبًا منهم جميعًا لما ميزه به الله من تقوى وموهبة تعليمية وأمانة للحق الذي عندهم، كما مَنَّ الله عليه بزوجة كانت بالحق "معينًا نظيره"، فقد كانت جيدة الفهم، لا تقل في تقواها عنه.  كانت سارة طالبة في القسم الخاص في كلية الأمريكان للبنات بأسيوط عندما اختارها القس هوج لتكون زوجة لتلميذه جرجس، لما وجده من توافق في التقوى والاهتمامات الروحية بينهما.  كان القس هوج رئيس الإرسالية الأمريكية بمصر والتي كان مقر رئاستها في أسيوط، والتي تتبعها مدرستها، كما تتبعها كذلك كلية الأمريكان للبنين حيث كان جرجس روفائيل يدرس في قسم اللاهوت في أوائل السبعينات من ذلك القرن.

   في تلك الأيام، وكمكافأة للأمناء من المسيحيين في مصر، أرسل الله إليهم نورًا أعظم، حين خرج خادمه التاعب الأمين بنيامين بنكرتون، الذي لما عرف الحق الخاص بالرب يسوع والانفصال إليه، والاجتماع باسمه، انفصل عن الإرسالية الأمريكية، ومضى في خدمة الرب معتمدًا على أمانة سيده فقط، كارزًا بما تعلمه من حق، وناشرًا ما له من نور، فكان القس جرجس روفائيل من أوائل المنفصلين إلى الرب بمجرد ما وصله النور الجديد، وكان ذلك حوالي عام 1883.

   لكن انفصاله عن الكنيسة الإنجيلية كان يعني أن يفقد مصدر رزقه الزمني الوحيد، فهو ليس صاحب حرفة ولا من ذوي الأملاك في الدنيا، وها هو يترك كل شيء ليتبع الرب.  واجتاز هذا البيت الفاضل ضائقة مادية شديدة بعد سعة لا بأس بها.  ولكن كان قصد الله أن يخرج من ورائها رحيق طيب ناردين خالص كثير الثمن، كانت تقوى هذه المرأة تختزنه في قارورة إنائها الخزفي.

التجربة الأولى: امتحان التقدير لمحضر الرب

   بدأ القس جرجس في التجوال في نواحي ملوي وديروط كارزًا بالحق الذي تعلمه، مؤسسًا كنائس محلية حيثما يرسله الرب، ولكنه كان يطوي داخله ألمًا بسبب الضائقة المادية التي صاحبت انفصاله، لاسيما وأنه عاد ذات مرة من جولة خدمة، فوجد أن زوجته اضطرت لبيع قطعة من أثاث البيت لتطعم أولادها، فكان ضغط التجربة شديدًا عليه، بينما كانت زوجته تهون عليه الأمر وتشد أزره ليستمر في خدمته.  ولكن البطل وهنت قوته وضعفت عزيمته، فقد كان هو رب البيت المسؤول عن توفير سبل العيش الكريم له، وكان يعلم أن زوجته قد نشأت في "بيت عز" ولم تتعود على الضيق المادي.

   كان القس جرجس بعد انفصاله عن الكنيسة الإنجيلية قد ظل محتفظًا بعلاقة المحبة الأخوية مع المؤمنين فيها، فقد كان يُميز جيدًا بين رابطة المحبة التي تربط المؤمنين جميعًا، وبين الانفصال في عبادة الرب وخدمته عن كل ما لا يتفق مع الحق.  وفي جلسة حبية بينه وبين أحد شيوخ الكنيسة الإنجيلية طرح الأخير عليه فكرة أن يعود إلى كنيسته الأولى، وينادي هناك بما تعلمه من مبادئ كتابية عن الانفصال إلى الرب وحرية العبادة والخدمة، ورئاسة الرب للجماعة التي تجتمع باسمه، ولا غضاضة في شرح الحقائق النبوية الخاصة بمجيء المسيح والملك العتيد، فقط يلتزم بمبدأ الكنيسة الإنجيلية في أن لا يشكر على مائدة الرب سوى القس الرسمي.

   أمام ضغط التجربة والضائقة المادية، وإقناع شيوخ الكنيسة الإنجيلية له بأنهم يرحبون بتعليمه، ظن عبد الرب الفاضل أن هذه فرصة لنشر الحق وتعليم المؤمنين هناك، ولِمَ لا؟ ألا يمكن أن يستخدم الرب وسيلة كهذه؟ وترك الرجل مكانه وعاد إلى ما خرج منه، وبدأ يشرح ويعلم الحق، ولكنه اكتشف أنه لساميعه كشعر أشواق لجميل الصوت يحسن العزف، فكلما تكلم عن حق يبدون الإعجاب بالكلام، ويطلبون المزيد والتكرار، ولكن لا يعملون به، فالكلام يسكن الأذهان وليس القلوب، وليس هناك من هو على استعداد لأن يسلك بموجبه.  وأما الضائقة المادية فانفرجت، وسعة العيش عادت.

   لكن هذه التجربة كان لها وقع آخر على نفس أمته التقية سارة، التي كان قلبها قد تشبع بالحق، ورأت من خلاله رب المجد الذي ظهر قديمًا لأبرام، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي، تاركًا خلفه مجد أور الكلدانيين وكنوزها، فقد كان يكفيه أنه سيسجد هناك لإله المجد.  وكزوجة تعرف وضعها الصحيح بحسب كلمة الله نصحت زوجها كثيرًا أن لا يُقدِم على هذه الخطوة، ولكنها أمام الأمر الواقع تبعت زوجها طائعة خاضعة.  إلا أنها كانت تشعر كما لو أنها سُبيت من أرض الرب إلى أرض بعيدة، فحل الحزن مكان الفرح، والبكاء مكان التسبيح، وكيف ترنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ فكان أنها تذللت وصامت كثيرًا، وظلت تطلب إلى الرب حتى لا تطول أيام السبي.  كانت ترى في الضيق المادي إكرامًا للسيد تسعد بتقديمه، فلم يكن هذا ضيقًا عندها، وأما الآن فهي محرومة من محضر السيد وسط تلاميذه، وكانت هذه هي الضيقة الحقيقية عندها.

   مرت الأيام، وكل يوم يثبت لخادم الرب الفاضل أن هذه ليست طريق الرب.  وتساءل في نفسه: ألم أخدم الرب خدمة مباركة في هذه الطائفة من قبل حين لم يكن عندي هذا النور وهذه المعرفة، فلماذا ذهبَت القوة مع أنني صرت أعرف أكثر، وأتكلم بحقائق أسمى؟ لِمَ لا تأثير لخدمتي الآن كما من قبل؟ ولم يترك الرب عبده في حيرته كثيرًا، فأرسل إليه بعض الإخوة، الذين لما زاروه حنت روحه إلى محضر الرب وانتخس ضميره، لاسيما عندما قال رجل الله بنيامين بنكرتون عبارته التي صارت قولاً مأثورًا بين الإخوة: "الضمير الصالح أمام الله يساوي كل شيء".

   قرر الخادم الأمين العودة إلى حيث الخيمة والمذبح، واعترف أمام إخوته بأنه قد أخطأ إذ لم يسلك بحسب النور الذي أُعطي له.  كان قبل أن يعرف هذا الحق يخدم الرب بما عنده من نور، فصادق الله على خدمته وباركها، ولكنه الآن صار له نور أعظم، فعليه أن يسلك بحسبه، فإن لم يسلك هكذا، ولو تكلم عن هذا الحق، فإن الله لا يصادق على خدمة كهذه.  كذلك أدرك من خلال هذه التجربة أن خدمته لا تكون فعالة ما لم يسلك بحسب ما يُعلِّم به، فإن تكلم عن وجوب الانفصال إلى الرب، وهو ينطوي تحت مظلة طائفية، فمن يسمع له وهو يراه لا يطبق ما يتكلم به من حق على نفسه؟

   وكم كانت فرحة زوجته الأخت سارة برجوعه، لقد رأى الرب دموعها، ونظر إلى تذللها، فأعادها إلى راحتها التي لا تجدها سوى عند قدميه، وأنقذها من ضيقتها التي جازت فيها حين كانت مضطرة كزوجة خاضعة لزوجها أن تبتعد عن مائدة الرب.  حينئذ نظمت هذه الترنيمة الرائعة:

ما أعجب حب العلي
وسؤل قلبي أعطى لي

 

حل قيودي فكني
وجوده قد عمني

من ضيقتي أنقذني
في حضنه قد ضمني

 

لما رأى تذللي
وقلبه قد رق لي

لراحتي أرجعني
نعمته تحفظني

 

أفضاله لي تزاد
رحمته إلى الأباد

فهو معي كل الطريق
ينقذني من كل ضيق

 

نعم وأعطاني سلام
مخلصًا إلى التمام

   إن هذه الترنيمة واختبار كاتبتها يبين مدى تقديرها لمحضر الرب والوجود عند قدميه، فقد كانت هذه الأخت تحمل في محبتها ملامح محبة مريم المجدلية في التمسك بالمحبوب إلى النهاية، حتى ولو كانت كل الظروف تقف ضد ذهابها وراءه.  كما كانت تحمل ملامح محبة مريم أخت لعازر في تقديرها للرب وفهمها للحق، واستعدادها لسكب الثمين من الطيب على رأسه وقدميه، حتى ولو لم يقدِّر أقرب الأقربين إليه ذلك.  لقد كسرت التجربة القارورة، فامتلأ البيت من رائحة الطيب، ولا زلنا نشتمه كلما ترنمنا في اجتماعاتنا بهذه الترنيمة التي مر عليها أكثر من مئة وعشرين عامًا، ولا تزال جديدة.  وإنني شخصيًا أتمنى أن يهبني الرب تقديرها للحق، وليس لي فقط، بل لكل من عرف الحق.

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com