عدد رقم 3 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الإنجيل الأخلاقي (4)  


   بنعمة الرب سنحاول البحث في كلمة الله لنعرف ما الذي تقوله بشأن النقاط الخمس المذكورة في المقال السابق التي تشكل البنيان الأساسي لفكر الفريق الثالث الذي تبنى تقديم الإنجيل الأخلاقي.

   لقد لاحظنا أن هذا الإنجيل ركز على عنصر واحد في طبيعة الله وهو المحبة، لكن الرسول يوحنا الذي اختصه الروح القدس بالكلام عن طبيعة الله قال ليس فقط أن الله محبة لكن أيضًا إن الله نور (1يو1: 5)، مما يعني أنه القدوس الذي لا يمكن أن يتوافق مع أقل دنس، كما أن صفاته المطلقة تتضمن أنه كلي السلطان، فعندما خلق الإنسان لم يكن القصد فقط هو الدخول في علاقة معه، لكن الأساس الذي في ضوءه نستطيع أن نفهم تاريخ معاملات الله مع الإنسان فهمًا صحيحًا هو أن الله خلقه وجبله وصنعه لمجده (إش43: 7)، فو إن كانت هذه العبارة قيلت في سياق نبوي عن البقية الأمينة من الأمة الإسرائيلية التي ستُجمع من كل الأمم التي تشتت إليها لتدخل الأرض الألفية، إلا أنها قابلة للتطبيق على كل ما خلقه الله بما في ذلك الإنسان بوجه عام، ومن ثَمَّ فإن سلطان الله هذا يضع الإنسان تحت المسؤولية أمامه ليحقق مجده، وإذا حدث ولم يصب الهدف يصير بهذا خاطئًا مستوجبًا الموت طبقًا للقانون الذي أرساه الله في جنة عدن (تك2: 17).  إن تجاهل مسألة سلطان وحقوق الله على الإنسان لكونه مخلوقًا أوجد الخالق فيه الحياة، يؤدي لأن يشعر الإنسان بأن سعيه للعلاقة الصحيحة مع الله أمر اختياري، وأن كل ما سيجنيه إذا رفض تلك العلاقة هو خسارة صديق حميم ومحب ألزق من الأخ مثل الله، وأن الخطية شيء يؤذيه ويشوه إنسانيته الجميلة التي خلقه بها الله.  لكن حقيقة الأمر أن الله وإن كان أعطى الإنسان الإرادة الحرة في جنة عدن ليختار طريق طاعة الله برهانًا منه على اعترافه بسيادة الله على حياته، إلا أن هذا لا ينفي أن فعل الإنسان لإرادته الذاتية المستقلة والمغايرة لإرادة الله يمثل سلبًا لحقوقه وإنكارًا لسلطانه المطلق، مما يجعل للخطية بُعدًا أهم وأكثر خطورة من كونها تُسبب له عواقب وخيمة في حياته على الأرض، لكن لا بد أنها تتسبب في ما هو أبدي، أعني الطرح في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت إلى أبد الآبدين، باعتبار أن فعل الخطية هو بمثابة إعلان رسمي من الإنسان عن تبعيته لإبليس، مما يجعل حكم الله عليه أن يذهب لذات مكان العذاب الذي سبق الله وأعده لإبليس وملائكته (يو8: 44 و مت25: 41).

   يجب أن نفهم أيضًا أن الإنسان بعد السقوط خسر الإرادة الحرة التي بها يختار طريق طاعة الله، فالإنسان قد صار عبدًا للخطية (يو8: 34)، والعبد وإن كان يفعل إرادة سيده بعقله الواعي إلا أن وظيفته كعبد أفقدته أي خيار آخر غير تنفيذ أوامر سيده، لذا فالإنسان لا يملك القدرة على تحرير نفسه إذا وُضع  تحت ناموس إلهي راغبًا في أن يخضع له، وهذا كان حال اليهود (غل2: 15، 16)، أما الأمم إذ تجنبوا عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم (أف4: 18) لم يرغبوا أصلاً في الخضوع لله بل وفي الاعتراف به كإله (رو1: 21)، لذلك لا نستغرب أن نقرأ عن حقيقة أن الله هو البادئ في إنشاء العلاقة مع الإنسان وليس العكس، إنه يُشرق في ظلمة قلبه لأن الظلمة لا تملك القدرة من ذاتها على إيجاد النور (2كو4: 6)، وهذا ما يُسمى الولادة الجديدة، ولقد أطلق عليها الوحي لفظ "ولادة" لأن الولادة لا تتم بإرادة المولود بل بإرادة الوالد الذي هو الله، فبالولادة الجديدة تنشأ الرغبة عند الإنسان للدخول في علاقة حقيقية حية مع الله.  إن الإنجيل الأخلاقي يعول كثيرًا على وجود الجانب الأخلاقي في الإنسان حتى بعد السقوط مفترضًا أن هذا يصلح أن يكون أساسًا لتكوين علاقة حقيقية مع الله، بينما ما نتعلمه من كلمة الله أن الإنسان – بغض النظر عن أخلاقياته -  يحتاج عملية ولادة جديدة لكي يتمكن من الوجود في تلك العلاقة الجديدة مع الله (يو3: 3-7).

  هذا ينقلنا إلى قضية أخرى ذات أهمية قصوى، هل فعل الخير أو حب الإنسانية هو الدليل على حدوث الولادة الجديدة، إن المكتوب يخبرنا بغير ذلك إذ يقول: " بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس. كل من لا يفعل البر فليس من الله وكذا من لا يحب أخاه" (1يو3: 10).  لقد سبق وقلنا أن طبيعة الله هي مزيج من عنصرين هما النور والمحبة، وهكذا كل من هو من الله أي وُلد منه لا بد يحمل في طبيعته الجديدة التي أخذها من الله إذ صار شريكًا في الطبيعة الإلهية (2بط1: 4) تلك البصمة المزدوجة، أي النور والمحبة، وفي هذه الآية نرى البر كتوجه حياة ناتج عن كون الإنسان مولود من الله باعتباره النور، كما أننا نرى المحبة واضحة في هذه الآية، والحقيقة إن فعل الخير لا يمثل في حد ذاته البر أو المحبة، فالرسول بطرس يميز بين فعل الخير والبر قائلاً: " فمن يؤذيكم إن كنتم متمثلين بالخير. ولكن وإن تألمتم من أجل البر فطوباكم" (1بط3: 13، 14).  إن فعل الخير لا يتسبب في بغضة العالم لنا، أما العيشة بالبر تفعل ذلك لأنها تكشف الفساد الذي في أهل العالم، فقد صرَّح اليهود ذات مرة أن مشكلتهم مع المسيح لم تكن فعله للخير (يو10: 32) لكن المسيح سبق وأعلن سبب بغضتهم له، وهو أن الناس أحبت الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة (يو3: 19)، أما عن المحبة فنلاحظ أنه يسلط الضوء على المحبة لإخوتنا في عائلة الله، وهنا يجب أن نميز بين محبة الله للعالم ومحبة الآب – نظرًا لأن هذا يختص بأقنوم الآب تحديدًا – لأولاده، فمحبة الله للعالم أوصلته لأن يبذل ابنه (يو3: 16)، أما محبة الآب لنا جعلته يدعونا أولاده (1يو3: 1)، ولما كانت الولادة الجديدة تدخلنا في علاقة مع الآب، الأمر الذي ليس متاحًا في التدابير السابقة واللاحقة للكنيسة، فيمكننا القول بأن فعل الخير هو نابع من محبتنا لجميع الناس، على أن هذا يمكن أن يوجد ما يشابهه لدى غير المولودين من الله نظرًا لتوفر رقي المشاعر الإنسانية النبيلة في البعض منهم، الأمر الذي لا يُعد مؤشرًا على الإطلاق لوجود الحياة الإلهية فيهم، لكن ما يستحيل توفره عند الإنسان الطبيعي غير المولود من الله هو وجود نوع خاص من المحبة يربطه بشكل عائلي مع باقي أفراد عائلة الله الذين يمتلكون ذات صنف الحياة الإلهية فيهم، وهذه الجاذبية الطبيعية الناتجة عن الانتماء لعائلة الله الواحدة تستطيع أن تتخطى جميع الحواجز الاجتماعية أو المادية أو الجغرافية بل وحتى الفكرية الناشئة عن انقسام عائلة الله إلى طوائف متعددة.  صديقي القارئ إن أردت أن تمتحن نفسك لتعرف ما إذا كنت مولودًا من الله أم لا، فلا تظن أن اتباعك القيم الإنسانية ورغبتك الحثيثة لفعل الخير أدلة قاطعة على وجود حياة الله فيك، لكن ابحث عن حياة البر العملي التي تجلب عليك عار المسيح من قِبل أهل العالم، وابحث أيضًا عن رابطة المحبة التي تشعرك بالدفء العائلي بين من امتلكوا حياة الله.

   أخيرًا نناقش القضية التي أرى أنها كانت السبب الرئيسي في ظهور هذا الإنجيل، وهي حيرة البعض من جهة معضلة أن الإنجيل الحقيقي لا يمكننا أن ننكر أنه لم يصل لجميع أنحاء المسكونة، أرى أن عدم قدرة البعض على الحصول على إجابات شافية في هذا الصدد اضطرتهم أن يخترعوا الإنجيل الأخلاقي لكي يجدوا مخرجًا لله من تلك القضية، وهكذا نجد دائمًا أن الإنسان كلما حشر نفسه في أمور الله مُحلِّلاً أي قضية بعيدًا عن معطيات كلمته المقدسة يُضل نفسه والآخرين معه.  وأنا لا أدَّعي أنني سأدخل في هذه القضية في هذا المقال، لكني سأحاول توضيح جانب صغير منها، وهو حتمية وصول الله بمن بدأ فيهم عملاً حقيقيًّا للإيمان بالمسيح، إننا ببساطة يجب أن نتفهم أننا نعمل مع الله (1كو3: 9) ولسنا فقط نعمل ما يريده الله، بمعنى أن الله لا يوجهنا فقط لما يريد أن يعمل بل إنه بنفسه يعمل، إنه يعمل لكي يعوض عجزنا في بعض الأحيان أو تخاذلنا في أحيان أخرى، فالله الذي وصل لإبراهيم وهو قابع في عقر دار الوثنية واقتاده نحو اللجوء للذبيحة كأساس للقبول بل والسجود، يستطيع أن يصل لمن لم يصل لهم نور الإنجيل ويعرفهم بقيمة ذبيحة المسيح، لكن من غير المقبول إطلاقًا أننا نسمع البعض يتكلمون عن أشخاص غير مسيحيين بأنهم من الممكن أن يكونوا قد نالوا الخلاص أو أنهم مقبولين أمام الله نظرًا لأخلاقياتهم، فمحاولة تضخيم قيمة الأخلاق والتقليل من شأن ما يؤمن ويعترف به الناس بدعوى أن كثيرين ممن لهم إيمان مسيحي تظهر فيهم سلوكيات أسوأ ممن ليس لهم ذات الإيمان، هو نوع من خلط الأوراق يهدف للترويج لإنجيل آخر يُبعد الناس عن المسيح، وكالعادة لا يجد الشيطان أفضل ممن يدَّعون أنهم أتباع المسيح خدامًا له يحققون أغراضه، لدينا نصوص كتابية صريحة تؤكد وجوب الإيمان بالمسيح كوسيط وحيد مقبول أمام الله (يو3: 36 و رو10: 9،10 و أع4: 12 و 1تي2: 5).

   في النهاية أقول إن الذين ينادون بالإنجيل الأخلاقي لا يستطيعون أن يتقبلوا حكومة الله البارة التي تُحَجِّم شر الإنسان من حينٍ لآخر، وأن الله لا يمكن أن يترك الأرض التي خلقها ليعبث فيها الشيطان كما يشاء مستخدمًا الأشرار.  إن حكومة الله رمدت مدينتي سدوم وعمورة لشرهما المتزايد، كما أن الله اختار شعبًا يحكم من خلاله الأرض، لقد تأنى الله أربع مئة سنة بعد إعطاء الوعد لإبراهيم بامتلاك نسله أرض الموعد حتى يكتمل مكيال إثم الأموريين، وعندئذٍ نفذ القضاء عليهم، إنني أستطيع أن أتفهم عدم قدرة البعض من إخوتي في جسد المسيح على قبول حقيقة حرفية ملك المسيح الألفي نظرًا لعدم تمييزهم بين الكنيسة وإسرائيل، وهو المفتاح الأهم لفهم كلمة الله، لكن ما أراه الآن على الساحة في بلادنا المصرية يُنذر بظهور أولئك الذين قال عنهم بطرس الرسول إنهم قوم مستهزئون يخفون بإرادتهم على أنفسهم حقيقة مجيء الرب.  إن الإنجيل الأخلاقي لا يقوم على إنكار الحقائق لكن يروِّج لأفكار تنقض حقائق، وهو في طريقه في بلادنا ليهدم ركائز أساسية في إيماننا المسيحي، وهي حتمية ذبيحة المسيح وقرب مجيئه للدينونة وحرفية وحي الكتاب المقدس.

   إنني لا يسعني إلا أن أنتظر رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com