عدد رقم 3 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المطوبة مريم (9)  

                                        

قبول للتبعية

واحترام للخدمة

                                                         

نواصل تأملاتنا في مواقف أبرزت لنا خصائص وصفات رائعة في تلك المطوبة بين النساء ومن جميع الأجيال: مريم أم يسوع.  وقد توقفنا في الحلقة الماضية عند مشهد أول آيات السيد ومعجزاته في عُرس قانا الجليل (يو2)، واليوم نتوقف أمام مشهدين لاحقين أبرزا لنا كيف أن المطوبة مريم كانت – ومنذ البداية الباكرة - تعرف أن ابنها البكر ليس مجرد إنسان عادي، ومشاهد طفولته وصباه كلها كانت تحفظ أمورها في قلبها وظلت تتبع النور السماوي المشرق خطوة بخطوة، فتمت فيها كلمات الكتاب: «أَمَّا سَبِيلُ الصِّدِّيقِينَ فَكَنُورٍ مُشْرِق، يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إِلَى النَّهَارِ الْكَامِلِ» (أم4: 18)

·        قبول للتبعية:

بعد مشهد قانا الجليل حيث حول يسوع الماء إلى خمر منقذًا العُرس من مأزق كبير وحيث كانت هناك أم يسوع شاهدة على أولى آياته بعد خروجه له المجد للخدمة الجهارية (يو2: 1-11) وحيث آمن به تلاميذه هناك.  يقول الكتاب: «وَبَعْدَ هذَا انْحَدَرَ(يسوع) إِلَى كَفْرِنَاحُومَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتَلاَمِيذُهُ، وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّامًا لَيْسَتْ كَثِيرَةً» (يو2: 12).  وهي تذكرنا بإشارة  أخرى لتبعية أمه المخلصة له منذ بداية خدمته وارتباطها به وردت في(مت13)، عندما بدأ السيد أولى عظاته في مجمع الناصرة إذ يقول الكتاب: «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا وَقَالُوا:  

مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟  أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟  أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟  أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟  فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟  فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ.  وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهُمْ:  لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ.  وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ» (مت13: 54-58).

وهنا من الواضح أن المطوبة مريم كانت ليس فقط مرتبطة به بحسب النسب والإقامة في الناصرة حيث كان قد تربى هناك (لو4: 16)، ولكن المؤكد أنها كانت تُسر أن ترافقه مثلما رأينا في (يو2) عندما تحرك من قانا الجليل إلى كفرناحوم ليقيم هناك أيامًا حيث نرى المطوبة ليست فقط مرافقة له في تبعية مخلصة، ولكن أيضًا في قيادة واعية وحكيمة لسائر "العائلة" "أمه وإخوته" خلف السيد، واضعًا في الاعتبار ملاحظتين:

الأولى: أننا لا نعود بعد نقرأ في الأناجيل عن "يوسف" رجل مريم، الأمر الذي يجعلنا نستنتج غيابه ورحيله قبل ذَلك التاريخ المرتبط ببداية خدمة الرب وله نحو 30 عامًا من العمر مما أضاف الى مسؤوليات المطوبة مريم مسؤولية قيادة الأسرة بعد غيابه، ويالها من قيادة رائعة في تبعية كاملة للمسيح!

 

والثانية: أننا نفهم لاحقًا من البشيرين أن إخوته لم يكونوا يؤمنون به وهذَا يجعلنا واثقين أن المطوبة مريم كانت لها شخصيتها الروحية التي أهلتها لأن تقود أسرتها خلفه من قانا الجليل إلى كفرناحوم.  ويا له مثالاً يُحتذى لكل أم بل ولكل أب أيضًا أن يقودا أولادهما وعائلتهما خلف المسيح حتى وإن كانوا في البداية لا يؤمنون به قلبيًا، فنحن مسؤولون عن كل من يقع داخل دائرة مسؤوليتنا الأسرية أن نقوده إلى الرب وإلى تبعيته.  ومن هذه الملاحظة يمكننا القول إن تبعية المطوبة مريم ليسوع كانت  - نظير كل تبعية مخلصة – تبعية مكلفة، لسببين على الأقل:

الأول، وهو سبب خارجي – أن السيد لم يواجه إلا بالرفض ونادرًا ما قُوبلت خدمته بالاستحسان وبني وطنه قرروا رفضه نهائيًا وهذا لم يؤثر قط على تبعية أمه له.

الثاني: أن من قادتهم المطوبة مريم من عائلتها خلف المسيح لم يكونوا في ذلك الوقت يؤمنون به، مما جعل مثل هذه القيادة نحو التبعية ليست أمرًا سهلاً أو عاديًا بكل تأكيد.

هل نحن على استعداد اليوم نظيرها أن نتبع مسيحًا مرفوضًا في عالم هالك؟  وهل نحن على استعداد لدفع الكلفة عندما نقود بيوتنا خلفه؟  ليتنا نفعل وبإخلاص!

 

·        احترام للخدمة:

ثمة مشهد آخر مهم تطالعنا به البشائر بصدد المطوبة مريم إذ نقرأ «وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ.  فَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا، يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْكَ.  فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا» (لو8: 19-21).  ويقول البشير متى: «وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ.  فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ.  فَأَجَابَ وَقَالَ لِلْقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتي؟  ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتي.  لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (مت12: 46-50).

وهنا يهمنا التأكيد على أن السيد يقينًا لم يكن يهمل عائلته التي اعتبرته "الكبير" الذي يلجأون إليه في كل أمر يخصهم، وبالأخص بعد غياب "يوسف" رجل مريم عن المشهد كما أشرنا، ولعل مشهد الصليب الذي سنتأمله لاحقًا إن شاء الرب وعشنا سيوضح لنا بكل جلاء اهتمام السيد بأمه، لكن الرب كان يحيا عمليًا ما يُعلم به نظريًا وهو أن الاهتمام الأول له هو فيما لأبيه (لو2: 49) وأن طعامه هو أن يعمل مشيئة الذي أرسله ويتمم عمله (يو4: 34).

وهذه الأولوية الروحية لدى المسيح لم تسبب للمطوبة مريم مشكلة على الإطلاق، بل على العكس.  نراها هنا تُقدر خدمته له المجد وتحترمها.  فعندما لم يمكنها مع سائر إخوته أن تصل إليه وهو يتحدث لسبب الجمع لم تحاول اقتحام المشهد أو تقوم بأي حركة تشوشر بها على خدمته بينما هو يعلم الجموع.  بل في وقار بالغ وتقدير جدير بالملاحظة للخدمة التي يقوم بها «وقفت خارجًا» وأرسلت إليه رسولاً بكل هدوء ووقار وتحكم في مشاعرها وفيمن معها أيضًا!  ونحن إن كنا لا نعلم على وجه اليقين ما هو سبب طلبها للمسيح في هذا المشهد بالتحديد، إلا أننا يمكننا أن نتفهم الموقف بالتأكيد، فالحياة العائلية مليئة بالتحديات التي لا يعفينا منها الإيمان، ولكن في كل الأحوال الرب قريب لكل الذين يدعونه بالحق (مز145: 18).  وإن كان الوحي قد أمسك عن الإفصاح عن سبب الطلب هذا، فلكي يتيح لنا المجال كأرباب أسر أن نطبق ذات المبدأ على كل أمورنا: اللجوء إلى الرب أولاً وعاجلاً وفي كل شيء.

ونلاحظ أن الرب له المجد – كعادته دائمًا – استخدم الموقف لمزيد من تعليم الجموع والتلاميذ، أن العلاقات الروحية هي الأهم والأبقى، وهذا ما لم تعترض عليه المطوبة مريم، في وعي واحترام للخدمة الروحية من جانب، وفي إدراك ويقين أن اتزان السيد وأولوياته لن تحمل معها أبدًا إهمالاً لها أو لعائلتها من جانبه له المجد.

وياله درسًا عمليًا رائعًا تقدمه لنا جميعًا المطوبة مريم، أن نحترم خدمة من أوكلهم الرب على خدمته في عائلاتنا، وأن نقدر عاليًا دورهم الروحي وأولوياتهم التي تضع الرب وعمله أولاً وقبل كل شيء آخر، وأن نُعبر عن هذا التقدير بقبولنا عمليًا أن نكون في دائرة الاهتمام اللاحقة لا السابقة على الله وعلى عمله.

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com