عدد رقم 6 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
النار الغريبة (لاويين ص10)  


"وأخذ ابنا هارون: ناداب وأبيهو، كل منهما مجمرته وجعلا فيهما نارًا ووضعا عليها بخورًا، وقربا أمام الرب نارًا غريبة لم يأمرهما بها.  فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما.  فماتا أمام الرب" (لا10: 1،2) 

   لا يوجد فصل أو مشهد نظير ذلك الفصل يعطينا صورة واضحة عن رهبة وجلال الاقتراب إلى الله، والاحتراس الواجب توافره في ذلك المحضر المهيب حيث أن "إلهنا نارٌ آكلة" (عب12: 29).

   لذا حري بنا أن نقف مليًا أمام هذا المشهد، لا لنرتعب فنستعفي من محضره، بل لنقترب بحس روحي مُدرَّب على كيفية الوجود أمامه، وتقديم ما يليق به من تعبد وسجود بمنتهى الخشوع والمهابة والتقوى، واضعين في اعتبارنا كل ما يتناسب مع قداسته، مُقدمين له بتعقل ذبائحنا الروحية (رو12: 1،2؛ 1بط2: 5)، حتى لا نُغير الرب فنحن لسنا أقوى منه (1كو10: 22).

   ونحن نتأمل فيما فعله ابنا هارون: ناداب وأبيهو، نجد أن هناك أسبابًا أدت لذلك التصرف المشين، وبه سقطا تحت الإدانة والتأديب الصارم، وتصرفهم هذا يوصف بقلم الروح القدس بالقول: "قَرَّبَا أَمَامَ الرَّبِّ نَارًا غَرِيبَةً لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِهَا" (ع1).  وسنوجز الكلام عن هذه الأسباب في أمرين:

أولاً: الرغبة في الظهور وتمجيد الذات

ربما تملكت هذه الرغبة في ابني هارون، وملأت قلبيهما نتيجة لما رأياه من رد فعل الشعب حين أعلن الرب مجده بعد خدمة موسى وهارون في نهاية الأصحاح التاسع إذ نقرأ القول:  "ثُمَّ رَفَعَ هَارُونُ يَدَهُ نَحْوَ الشَّعْبِ وَبَارَكَهُمْ، وَانْحَدَرَ مِنْ عَمَلِ ذَبِيحَةِ الْخَطِيَّةِ وَالْمُحْرَقَةِ وَذَبِيحَةِ السَّلاَمَةِ. وَدَخَلَ مُوسَى وَهَارُونُ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، ثُمَّ خَرَجَا وَبَارَكَا الشَّعْبَ، فَتَرَاءَى مَجْدُ الرَّبِّ لِكُلِّ الشَّعْب وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَحْرَقَتْ عَلَى الْمَذْبَحِ الْمُحْرَقَةَ وَالشَّحْمَ. فَرَأَى جَمِيعُ الشَّعْبِ وَهَتَفُوا وَسَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ." (لا9: 22-24).  آه على قلوبنا حين تسيطر عليها مثل هذه الرغبات، وننسى اعتبارات ذاك القدوس وما يليق ببيته ومحضره من تقدير وتوقير، وتصير خدمتنا وعبادتنا وممارساتنا ما هي إلا ترجمة مفضوحة لما هو دفين في القلب من رغبات غير مقدسة وتطلعات غير نقية ممثلة في حب الظهور.  ألا نرى هذا في يومنا الحاضر؟ فالبعض يفعل فقط ما يفعله الآخرون لمجرد التقليد والرغبة في المحاكاة حتى يكون له نصيب من الإعجاب مثلهم، وهؤلاء لم يعلموا أنهم في محضر من له عينان كلهيب نار تخترقان أستار الظلام، ويزن كل شيء بميزان الحق.  وأقول في مثل هذه الأمور: أخي الحبيب خذ مكانك الذي قسمه لك الله بالنعمة، ولا ترتئي فوق ما ينبغي أن ترتئي، وإن كان لك أن ترتئي فارتئي إلى التعقل فقط (رو12: 3)، وإن الرغبة في حب الظهور لا ينتج عنها سوى التشويش، ومجد وقداسة الرب الحاضر في الوسط، "الابن على بيته"، حتمًا يقتضي إدانة ذلك.  فمجد الرأس يرتبط بقداسة الجسد، وسلطان رب البيت يتطلب ترتيب البيت، والحفاظ عليه وكرامة وهيبة المخدوم تقتضي طاعة الخادمين وخضوعهم. 

   عزيزي القارئ ليس بالضرورة أن ما نجح فيه أو به آخرون ننجح فيه نحن، وبذات الطريقة والأسلوب، فلا داعي إذًا أن نحاكي أحدًا مهما كان (موسى أو هارون)، أو نتقمص الشخصيات تحت أي رغبة أو لأي سبب ما، ولكن ليلبس كل منا ثوبه، ويضع عينه على السيد، لنطلب فقط رضاه هو، لنفعل ما يسره، ونكون رهن إشارته لنفعل فقط ما يأمرنا به وليس ما نستحسنه نحن، حتى لو كان هذا يرضي الآخرين، ولنعتمد على إرشاد روحه القدوس الساكن فينا ونترجى منه المعونة، وهذا يكفينا.

   وفي نهاية هذه النقطة أقول: إن استمتاع نفوسنا برضى السيد علينا يستلزم الطاعة غير المجزأة، والقلب النقي المستقيم والعين البسيطة واليد الطاهرة والنفس المكرسة والمسلك الكهنوتي السليم في حضرته والخشوع أمامه.

ثانيًا: السُكر والغياب عن الوعي وتهييج العواطف

   مما استنتجه بعض شراح الكلمة المعتبرين فيما ورد في العدد الثامن والتاسع من الأصحاح موضوع الكلام أن ابني هارون على الأرجح كانا في حال السُكر، إذ يرد القول: "وَكَلَّمَ الرَّبُّ هَارُونَ قَائِلاً: خَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ تَشْرَبْ أَنْتَ وَبَنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكُمْ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لِكَيْ لاَ تَمُوتُوا. فَرْضًا دَهْرِيًّا فِي أَجْيَالِكُمْ".

وهنا نجد السبب الآخر وراء ما فعلاه ابنا هارون الكهنة وهو السُكر، الأمر الذي جعلهما لم ينتبها، ولم يتحذرا لنفسيهما.  لقد كانا تحت تأثير المُسكر في حالة غياب عن الوعي، مع أن التواجد في محضر الرب يتطلب الذهن اليقظ والاتزان والتعقل، وتطبيقًا لنا في تدبير النعمة يقول بولس كاتبًا: "فَمَا هُوَ إِذًا؟ أُصَلِّي بِالرُّوحِ، وَأُصَلِّي بِالذِّهْنِ أَيْضًا. أُرَتِّلُ بِالرُّوحِ، وَأُرَتِّلُ بِالذِّهْنِ أَيْضًا" (1كو14: 15)، ويقول أيضًا: فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ" (رو12: 1) ويقو أيضًا "لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ بِغِنىً، وَأَنْتُمْ بِكُلِّ حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، بِنِعْمَةٍ، مُتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ"  (كو3: 16).  ولنلاحظ الكلمات الثلاث الواردة في الآيات المقتبسة –الذهن، التعقل، الحكمة- هذه كلها تتطلبها العبادة ونحن في محضر الرب، أما الغياب عن الوعي بحجة أن هذا من سمات السمو الروحي، فهذا لا وجود له في كلمة الله، ولا ينبغي أن يكون له وجود في محضر الرب.  ثم هناك أمر آخر يعمله السُكر في النفس وهو تهييج العواطف، الأمر الذي لا يتوافق ولا يليق مع الرب ومحضره، وربما نجد تطبيقًا لذلك في أيامنا الحالية، إذ توضع المشاعر تحت تأثير الموسيقى الصاخبة والآلات والإيقاعات، مما يهيج عواطف المتعبدين، الأمر الذي لا نجد له أدنى تلميح أو أقل تصريح في كلمة الله، والشيء الذي لا وجود له في الكلمة المقدسة من العار أن نفرضه على محضر الرب، ويعتبر نارًا غريبة، وسيكون الرب بارًا وهو يقضي ويحكم علينا بسببه، والفاهمون سيفعلون مثلما فعل هارون إذ قيل عنه: " فَصَمَتَ هَارُونُ" (لا10: 3).

   عزيزي القارئ بصدق لا نبغي من وراء هذه الكلمات سوى إنهاض نفوسنا لغيرة مقدسة، وحقيقية نحو تقدير واحترام محضر الرب، وأن تتدرب نفوسنا على الانفصال الكامل غير الجزئي عن كل ما هو مضاد للإعلان الإلهي والحق.  وأقول: إن الحق هو الوحيد الذي فيه قوة لتحرير النفس من لفائف الاستحسان البالية، ومنتجات العقل البشري، التي وإن كانت في ظاهرها حسنة ومستساغة بل وأحيانًا مطلوبة وسائدة في الأوساط الكنسية، لكنها بحسب المقاييس الإلهية تصبح "نارًا غريبة لم يأمر بها الرب".  ليعطنا الرب بالروح القدس أن نحسن المسلك وأن نرغب في حُسنِ التصرف ولا سيما أننا "بيت الله، عمود الحق وقاعدته" (1تي3: 15).

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com