عدد رقم 6 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الشهادة والتابوت  

ذكرنا في العدد السابق أن كلمة ”الشهادة“ ذُكرت بالارتباط بالتابوت 5 مرات، كما أن التابوت ذُكر باسم ”تابوت الشهادة“ 13 مرَّة، وهذا يجعلنا ندرك أننا نأتي الآن إلى فكر هام ورئيسي فيما يختص بالشهادة، وذلك لأننا سنتكلم عن ارتباط الشهادة بما كان يُمثِّل حضور الرب نفسه وسط شعبه، أعني التابوت، والذي يُعتبر أهم قطعة في كل أجزاء خيمة الاجتماع، بل أقول أهم قطعة في كل مقدسات شعب الله قديمًا. إنه مكان استقرار ”الشكينة“؛ ”سحابة المجد“، إنه بمثابة عرش الله (1صم4: 4). إذ أن بوجود التابوت هناك مجد، وفي عدم وجوده يزول المجد (1صم4: 21)، وحيث أن المجال لا يتسع أن نتكلم تفصيليًا عن كل ما ورد عن تابوت الشهادة فسنكتفي بأن نتوقف عند خمسة مواقف فقط:

1- المسيح وسيلة إعلان الله عن ذاته

«وَأَنَا أَجْتَمِعُ بِكَ هُنَاكَ وَأَتَكَلَّمُ مَعَكَ مِنْ عَلَى الْغِطَاءِ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى تَابُوتِ الشَّهَادَةِ بِكُلِّ مَا أُوصِيكَ بِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ» (خر25: 22).
لقد كان حُلم البشرية في كل الأجيال وفي كل العصور، هو كيف يتواصل الإنسان مع الله؟! وهل يمكن لحفنة من تراب الأرض أن يكترث الله بهم، ويعيرهم اهتمامًا. إن حلم البشرية صار حقيقة، ولم يسعَ الإنسان ليصل إلى الله، بل الله هو الذي سُرَّ أن يصل إلينا ويتكلم معنا، وهذا أول خبر سار نجده في ”تابوت الشهادة“، ولكن على أي أساس يتكلم الله، ونحن نعلم أن إلهنا نار آكلة (تث4: 24)؟
تأتي الإجابة واضحة ومريحة لنا: «أَتَكَلَّمُ مَعَكَ مِنْ عَلَى الْغِطَاءِ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبَيْنِ»، أي من على غطاء التابوت؛ ”كرسي الرحمة“. وهنا يأتي السؤال: كيف يتكلم الرب من بين الكروبين وهم ملائكة قضاء، وليس من بين السرافيم، وهم ملائكة الرحمة؟!  إننا في ذلك نجد درسًا مفيدًا، فإن كان الكروبان يُطالبان بالقضاء، إلاَّ أنَّ وجهيهما كانا نحو الغطاء المرشوش عليه الدم - والذي كان يدخل به رئيس الكهنة مرة واحدة في السنة، وهو يوم الكفارة العظيم (لاويين 16) - وهكذا بدلاً من أن يُنفِّذا قضاء الله، نجدهما ينظران إلى الدم المرشوش على الغطاء، والذي على أساسه سُتر الشعب أمام الله. فإن كان الله يتكلَّم إلينا، فليس مِن منطلق رحمته ونعمته (السرافيم) فحسب كما يُظَن، بل بالحري مِن منطلق بره وعدله (الكروبيم) أيضًا.

 وإن كان الله تكلم قديمًا من بين الكروبين اللذين على تابوت الشهادة، إلا أنه في إشراقة العهد الجديد تكلم إلينا مباشرة من خلال ابنه: «اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ» (عب1: 1). نعم .. إن تابوت الشهادة يعلن لنا أن الله يُسر أن يتواصل
معنا ويتكلم إلينا، ويا لها من شهادة رائعة ومجيدة!

2- المسيح أساس اقترابنا إلى الله

«وَتُدْخِلُ إِلَى هُنَاكَ دَاخِلَ الْحِجَابِ تَابُوتَ الشَّهَادَةِ، فَيَفْصِلُ لَكُمُ الْحِجَابُ بَيْنَ الْقُدْسِ وَقُدْسِ الأَقْدَاسِ» (خر26: 33، أيضًا خر40: 3، 21).
كما نعلم كانت خيمة الاجتماع تتكوَّن من: ”الدار الخارجية، والقدس، وقدس الأقداس“، ونلاحظ أنَّ التابوت لم يُوضع خارجًا ليتمكن كل إنسان من شعب الله الاقتراب منه، ولم يُوضع داخل القدس حيث كان يدخل الكهنة يوميًّا ليخدموا، فيتلاقوا معه، بل وُضع في قدس الأقداس، حيث كان يدخل رئيس الكهنة في يوم واحد من السنة. هو يوم الكفَّارة بمراسيم معيَّنه نقرأ تفاصيلها في لاويين 16. وفي احتجاب التابوت عن الشعب داخل الأقداس، شهادة أنَّ طريق الأقداس لم يظهر بعد.  لقد كان التابوت حيث كان الله يحل بمجده في سحابة المجد ”الشكينة“، محجوبًا عن جميع الشعب بكهنته في قدس الأقداس. وما كان يجسر أحد أن يدخل إليه!!

وكم نشكر الرب الذي بموته انشق الحجاب (مت27: 51)، وصار الطريق مفتوحًا إلى حيث من كان تابوت الشهادة رمزًا له، معلنًا عن رضا الله الكامل، وهكذا صار لنا «ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى ”الأَقْدَاسِ“ بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقًا كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثًا حَيًّا، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ» (عب10: 19-21). أي خبر سار ورائع مثل هذا؟!  فما عاد محضر الله يرهبنا ويروعنا، وما عاد الله محتجبًا عنًّا، بل لنا أن نقول بفرح: «فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ، لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ» (عب4: 16).  نعم .. إن تابوت الشهادة يعلن لنا أن الطريق إلى الله مغلقًا في ظل الناموس، ولكنه قد صار الآن ممهدًا بالمسيح، الذي هو الطريق والحق والحياة.

3- المسيح وكمال كفَّارته

«وَتَجْعَلُ الْغِطَاءَ عَلَى التَّابُوتِ مِنْ فَوْقُ، وَفِي التَّابُوتِ تَضَعُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أُعْطِيكَ ... وَتَجْعَلُ الْغِطَاءَ عَلَى تَابُوتِ الشَّهَادَةِ فِي قُدْسِ الأَقْدَاسِ» (خر26: 34).
لقد كان الغطاء؛ ”كرسي الرحمة“ بمثابة قاعدة ”عرش الله“، حيث كان يسكن بين الكروبين (راجع: عد7: 89؛ 1صم4: 4؛ مز99: 1؛ إش37: 16)، وكان الدم ينضح على الغطاء في يوم الكفَّارة، كما سبق وذكرنا، ويبقى عليه دائمًا.

ولكنَّنا نرى هنا فكر الله بأنْ يوضع الغطاء على تابوت الشهادة.  ما معنى هذا؟  إنَّ الغطاء المرشوش عليه الدم، الذي يُشير إلى كفَّارة المسيح غير المحدودة؛ لا يجد مكانًا يستقر عليه سوى ”تابوت الشهادة“!! 

فالكلمة المستعملة للغطاء هي نفس الكلمة الواردة في كلمات الرسول بولس: «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ بِرِّهِ ... لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رو3: 24-26)، وهنا يُعلن الوحي صراحة أن المسيح هو المرموز إليه بالغطاء ”كرسي الرحمة“، وأنه بتقديم نفسه للموت طوعًا واختيارًا صار هو الأساس الحقيقي الوحيد لتبرير الخاطئ وقبوله أمام الله.  هو ”البار“ الوحيد الذي وفَّى تمامًا مطاليب الناموس، بل وكل مطاليب عدالة الله.  من أجل ذلك كان لا بد أن يُوضع الغطاء على تابوت الشهادة، فالذي استطاع أن يقول: «شريعتك في وسط أحشائي (تابوت الشهادة)، هو الذي قدَّمه الله كفَّارة بالإيمان بدمه (الغطاء).  نعم إن تابوت الشهادة يعلن أن عمل الرب يسوع على الصليب كان كاملاً لخلاص الإنسان، وكافيًا لرد اعتبار مجد الله.

4- المسيح وكمال شخصه

«وَتَصْنَعُ مَذْبَحًا لإِيقَادِ الْبَخُورِ ... وَتَجْعَلُهُ قُدَّامَ الْحِجَابِ الَّذِي أَمَامَ تَابُوتِ الشَّهَادَةِ. قُدَّامَ الْغِطَاءِ الَّذِي عَلَى الشَّهَادَةِ حَيْثُ أَجْتَمِعُ بِكَ» (خر30: 1، 6، أيضًا خر40: 5).

نجد هنا حرص الله على إظهار كمالات وأمجاد الابن، فيضع أمام تابوت الشهادة من الناحية المقابلة في القدس ”مذبح البخور“، وما أجمل دقَّة الوحي في ذكر هذه التفاصيل: «وَتَجْعَلُهُ (أي مذبح البخور)، قُدَّامَ الْحِجَابِ الَّذِي أَمَامَ تَابُوتِ الشَّهَادَةِ، قُدَّامَ الْغِطَاءِ الَّذِي عَلَى الشَّهَادَةِ».  يُؤكِّد هنا أنَّ مذبح البخور قدَّام الغطاء الذي يُرَش عليه دم ذبيحة الخطية، الذي يُشير إلى دم الرب يسوع المكتوب عنه: «بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيًّا»
 (عب9: 12-14).
 من أجل ذلك أراد الروح القدس أنْ يُظهر ويُعلن أنَّ قيمة ذلك الدم مستمدَّة من قيمة الابن، كما تظهره رائحة البخور. فالدم كريم لأن الحمل بلا عيب (1بط1: 18، 19)، وها رائحة البخور التي تُعلن عن كمالات وأمجاد الابن تتصاعد بخورًا عطرًا دائمًا أمام الرب.  من أجل ذلك يقول الرسول بطرس: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ،  بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ» (1بط1: 18، 19).  نعم .. إن تابوت الشهادة يعلن عن كمال وتفرُّد هذا الشخص المجيد، الذي حوى جميع أوصاف الكمال.

5- المسيح وسرور الله به

«وَتَمْسَحُ بِهِ (دهن المسحة) خَيْمَةَ الاِجْتِمَاعِ وَتَابُوتَ الشَّهَادَةِ» (خر30: 26).
إنَّ أول جزء مُسِح في خيمة الاجتماع هو ”تابوت الشهادة“، وكأن أول وأكثر ما يُسَر به الله هو أن يُظهر رضاه وسروره بكمالات وأمجاد ابنه.
وحري بنا أن نتأمَّل قليلاً في مكونات دهن المسحة، لنتعرَّف عما يحمله من معان جميلة تُعلن عن أمجاد ذلك الشخص الفريد.
يتكون دهن المسحة من أربعة أنواع من الأطياب: مر قاطر، قرفة عطرة، قصب الذريرة، سليخة. وعندما نُقارن هذه الأطياب الأربعة بالأناجيل الأربعة نجد أنَّ هناك ارتباطًا جميلاً بينهما:

   مر قاطر: يُكلِّمنا عن ”الألم والموت“، وهو بذلك إشارة إلى موت المسيح، من أجل ذلك لم يذكر أحد من الأناجيل الأربعة زيارة المجوس للرب، وتقديم الهدايا باعتباره ”الملك“، والتي كان من بينها ”المر“ سوى ”إنجيل متى“، إذ انعكس المر في هذا الإنجيل بصورة واضحة في رفض المسيح كالملك، سواء من الأمة اليهودية أو حتى من إخوته، والذي انتهى بموته معلَّقًا على الصليب.

   قرفة عطرة: مُشتقة من الكلمة العبرية ”غيرة“، وهي تُذكِّرنا بكلمات الرب يسوع تبارك اسمه «لأن غيرة بيتك أكلتني» (مز69: 9). وهذا ما نراه واضحًا في ”إنجيل مرقس“.

   قصب الذريرة: مشتقة من الكلمة العبرية ”استقامة“، وهي بذلك تُشير إلى ذلك الإنسان الكامل الذي أظهر في حياته كل بر وكمال، وهذا ما نراه واضحًا في ”إنجيل لوقا“.

   سليخة: تُكلِّمنا عن ”العبادة والسجود“، إذ أنَّ كلمة ”سليخة“ مشتقة من الكلمة العبرية ”انحناء“ أو ”سجود“، وهذا ما نراه واضحًا في ”إنجيل يوحنا“، والذي يُكلِّمنا عن الرب باعتباره ”ابن الله“، والذي يليق به وحده السجود والعبادة.

وأخيرًا نقول، إن وسيلة مزج هذه الأطياب معًا كانت بزيت الزيتون، والذي يُكلمنا عن الروح القدس، الأمر الذي أشار إليه الرسول بطرس: «يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحه الله بالروح القدس والقوَّة» (أع10: 38).  هذا هو دهن المسحة الذي دُشِّن به تابوت الشهادة. أ فلا يليق بنا أن نتغنَّى ليس للتابوت فحسب، بل بالحري لمن يُشير إليه التابوت، قائلين: «لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ» (نش1: 3).  نعم .. إن تابوت الشهادة يعلن عن جمال وروعة، ذاك الذي هو أبرع جمالاً من بني البشر.
                                                                              

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com