المشهد التاسع: في مَحَنَايِم
(2صم17: 24-29)
«وَكَانَ لَمَّا جَاءَ دَاوُدُ إِلَى مَحَنَايِمَ أَنَّ شُوبِيَ بْنَ نَاحَاشَ مِنْ رَبَّةِ بَنِي عَمُّونَ، وَمَاكِيرَ بْنُ عَمِّيئِيلَ مِنْ لُودَبَارَ، وَبَرْزِلاَّيَ الْجِلْعَادِيَّ مِنْ رُوجَلِيمَ، قَدَّمُوا فَرْشًا وَطُسُوسًا وَآنِيَةَ خَزَفٍ وَحِنْطَةً وَشَعِيرًا وَدَقِيقًا وَفَرِيكًا وَفُولاً وَعَدَسًا وَحِمِّصًا مَشْوِيًّا وَعَسَلاً وَزُبْدَةً وَضَأْنًا وَجُبْنَ بَقَرٍ، لِدَاوُدَ وَلِلشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ لِيَأْكُلُوا، لأَنَّهُمْ قَالُوا: الشَّعْبُ جَوْعَانُ وَمُتْعَبٌ وَعَطْشَانُ فِي الْبَرِّيَّةِ» (2صم17: 27-29).
إذ نصل إلى ”مَحَنَايِمَ“ نجد المشهد يتغيَّر، والحال يتبدل، من مشهد عداوة وحقد وكراهية الإنسان لمسيح الرب المرفوض، إلى مشهد لطف ورقة ومحبة الأصدقاء الأوفياء. ويا للفرق بين المشهدين!
ولنا بعض الدروس الأدبية النافعة في هذا المشهد:
أولاً: مَحَنَايِم والمعونة الإلهية: ”مَحَنَايِم“ اسم مكان في شرق الأردن، نقرأ عنه للمرة الأولى عندما كان يعقوب – بنفس مُثْقَلة – عائدًا من حاران، بعد اغتراب طويل عند خاله لابان، ولكننا نقرأ: «وَلاَقَاهُ مَلاَئِكَةُ اللهِ» (تك32: 1).
ونلاحظ أن الكتاب لم يَقل ”وظهرت له ملائكة الله“، بل «لاَقَاهُ مَلاَئِكَةُ اللهِ»، أي استقبلته بالترحيب والتحية والتشجيع، حيث لم يجد مَن يستقبله ويُرحب بعودته بعد غياب عشرين سنة. وكان هذا تشجيعًا إلهيًا له بعد الصراع الطويل مع لابان، وقبل أن يواجه عيسو الذي كان يستعد للتحدي والتصدي والبطش. وكأن الرب كان يقصد أن يُذكر يعقوب ”بِبَيْتَ إِيلَ“، وبوعود الرب له فيه (تك28: 10-15).
ففي رحلة ذهابه إلى حاران، «رَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا». أما هنا فها هو يرى الملائكة في الحقيقة، وليس في الحلم، «وَقَالَ يَعْقُوبُ إِذْ رَآهُمْ: هَذَا جَيْشُ اللهِ! فَدَعَا اسْمَ ذَلِكَ الْمَكَانِ مَحَنَايِمَ» (تك32: 2). والاسم ”مَحَنَايِمَ” يعني ”صَفَين“ أو ”معسكرين“ أو ”جيشين“، أي أن هذا الجيش كان مُقسمًا إلى فرقتين، كأنهما جيش من الخلف يحميه من خاله لابان، وجيش من الأمام يحميه من أخيه عيسو.
لقد أدرك يعقوب الغاية من ظهور الملائكة؛ إنها لمعونته وحمايته. وكان له أن يطمئن أنه لا يزال موضوع عناية السماء، وخدمة الملائكة (عب1: 14)، فدعا المكان باسم مشتق من الجيش الملائكي.
وفي ”مَحَنَايِمَ“ أيضًا ها هو داود – وهو تحت التأديب الإلهي – وقد اتخذ طريق الهروب والنفي، وقد أحاطه ترس العناية والمعونة الإلهية عينها، لا عن طريق معونات ملائكية كيعقوب، ولكن عن طريق معونات بشرية، فنقرأ عن ثلاثة من الأتقياء، وكل واحد منهم استخدم إمكانياته لأجل الملك ورجاله.
أيها الأحباء: أليس مشهد ”مَحَنَايِمَ“ كافيًا لإعادة اليقين إلى نفوسنا؟! فقد تتغير ظروفنا سواء للقوة أو للضعف، لامتحاننا أو لرد نفوسنا، ونواجه ذات الخطر سواء من هنا أوهناك، ولكن تبقى مصادرنا الإلهية غير مُتغيرة. ونعمة الله كافية للمؤمن أينما سار، بالرغم من كل ما فيه، لأن محبة الله لا تتغير، والذين أحبهم فقد أحبهم إلى المنتهى، فإن محبته كذاته، هي هي «أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ».
ثانيًا: مَحَنَايِم والمحبة القلبية: يا له من مثال رائع للتكريس القلبي، وصورة جذابة للعواطف المقدسة والمحبة الصادقة، ومحرك قوي للخدمة التاعبة النشطة للسَيِّد المطرود من العالم، هذا الذي نجده في هذا المشهد؛ ففيه نقرأ عن ثلاثة رجال أمناء، خصهم الروح القدس بذكر شريف في الكتاب المقدس، لأنهم بعثوا فرحًا وتشجيعًا لقلب داود ملك إسرائيل المرفوض.
لقد كانوا مختلفين تمامًا في مراكزهم الاجتماعية، وفي صفاتهم، بل وحتى في جنسياتهم، ولكن الغرض الواحد المُسرّ الذي كان أمامهم أسقط كل الحواجز؛ فواحد منهم كان عمونيًا، والآخر كان مواليًا لبيت شاول، ولكنهما اتحدا مع ”بَرْزِلاَّي“ على معاونة داود وإكرامه وخدمته. وسُخرت خدمة الواحد، ونشاط الثاني، وغنى واهتمام الثالث تحت قدمي داود. وكانت رغبة هؤلاء الرجال الثلاثة – مثل أبيجايل – أن يغسلوا أَرْجُلِ عبيد سَيِّدهم (1صم25: 41).
هؤلاء الرجال الثلاثة ”شُوبِي وَمَاكِير وَبَرْزِلاَّي“ أثرت فيهم محبة داود، فنسوا معطلاتهم والأمور التي تعيقهم:
كان ”شُوبِيَ بْنَ نَاحَاشَ“ أخًا لِحَانُون ملك عمون الذي قصد داود مرة أن يُظهر له لطفًا ونعمة، ولكن حَانُون عامل رُسل داود معاملة مخجلة وأهانهم (2صم10). ولكن النعمة التي وجدها ”شُوبِي“ في داود جذبت قلبه، فانحاز إليه في زمان رفضه، وليس في زمان عرشهِ ومُلكهِ وعظمتهِ. ولم يتعلل ”شُوبِي“ أو يعتذر بما فعله أخوه ”حَانُون“ لداود من إساءة ونكران للجميل.
وكأن ”شُوبِي“ وهو يقدم مع رفيقيه ما قدمه لداود ورجاله، يعترف بعظم النعمة والمعروف اللذين قدمهما داود لِحَانُون ملك عمون، ويعترف بعظم الإساءة التي فعلها ملك بني عمون ورجاله برُسل داود، وأراد بذلك أن يوفي داود بعض حقه، ويعمل على إدخال السرور إلى نفسه، وإنعاش شعبه.
أما ”مَاكِيرَ بْنُ عَمِّيئِيلَ“ الذي مِنْ لُودَبَارَ، فهو الذي آوى ”مَفِيبُوشَث بْنُ يُونَاثَانَ بْنِ شَاوُلَ“ عندما تولى داود العرش بدلاً من شاول. ولقد عرف ”مَاكِير“ النعمة والإحسان اللذين أظهرهما داود لهذا الأعرج حين أعطاه مكانًا حول مائدته كواحد من بنيه (2صم9). غير أن ”مَاكِير“ بقيَ في لُودَبَارَ، تلك الأرض المُجدبة التي لا مرعى فيها. وربما كان رجلاً فقيرًا، لكنه – نظير كنائس مَكِدُونِيَّةَ ”فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِ وَفَقْرِهِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِ“ (2كو8: 1، 2). ولم يتعلل ”مَاكِير“ أو يعتذر بفقره وعوز وجدوبة بلاده لُودَبَار، ولكنه سَلَّم في ما بين يديه لخدمة الملك، ونظير مريم التي من بيت عنيا ”عَمِلَ مَا عِنْدَهُ“ (مر14: 8)، واستطاع أن يشترك مع صاحبيه في تقديم الطعام والشراب ووسائل الراحة لداود وشعبه في البرية.
أما ”بَرْزِلاَّيَ الْجِلْعَادِيَّ“ ذلك الشيخ الذي بلغ الثمانين من عمره، فلم يعتذر بتقدم سنه، وضعفه وهزاله، ولم يكن أقل ذرة واحدة من شريكيه في خدمة الولاء والتكريس لداود؛ الخدمة المُضحية الباذلة التي في أوانها، وفي العطاء التلقائي العملي السخي المُسعِد للآخرين، الذي لا ينتظر مكافأة أو مقابل.
وكانت أملاك الرجل وأسرته وحياته جميعًا في أحرج المواقف لو نجح أبشالوم في ثورته، ولكن هذا كله لم يمنع الرجل من أن يؤكد أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن على الإنسان أن يقف إلى جانب الحق، حتى ولو وقف فريدًا وحيدًا منعزلاً عن الجميع، ووقف العالم كله على الجانب الآخر. ولربما كان ”بَرْزِلاَّيَ الْجِلْعَادِيَّ“ متأثرًا من النعمة واللطف اللذين أظهرهما داود في رسالته إلى أهل ”يَابِيشَ جِلْعَادَ“ والتي يُباركهم فيها مِن أجل لطفهم الذي أظهروه نحو ”سَيِّدهم“ شاول فدفنوا جسده وأجساد بنيه، وقد أظهروا شيئًا من رد الجميل مع الملك الذي سبق، من نحو أربعين سنة خَلَتْ، أن أنقذهم من الهوان والمذلة (2صم1: 4-7؛ 21: 12-14؛ 1صم30: 8-13).
لقد كان داود في نظر أولئك الأمناء، أكثر جاذبية من أبشالوم الذي التف الشعب حوله، فلم يجلسوا لكي يعملوا حساب فرص النجاح والانتصار، ولا انتظروا حتى يتبينوا الجانب المنتصر ليقفوا فيه. لو أنهم درسوا الموضوع في ضوء احتمالات الربح والخسارة، هل كان من الفطنة أن يُصاحبوا داود؟ ولكن بالنسبة لهؤلاء الثلاثة الأمناء فإن الأمر كان أبسط من ذلك، كان الأمر كله هو: هل ينبغي أن يلزموا جانب مسيح الرب؟ ربما كانت الحيطة العالمية توحي إليهم بالانتظار قليلاً قبل اتخاذ هذه الخطوة، على أنهم لو كانوا انتظروا لضاعت منهم فرصة إعلان ولائهم وتكريسهم ومحبتهم. لقد كان الموقف بالنسبة لهم هو : إما الآن وإما لا مجال بعد ذلك.
ثالثًا: مَحَنَايِم والخدمة العملية: لقد قدم هؤلاء الثلاثة الأمناء لداود المرفوض «فَرْشًا»، لراحة داود وشعبه. «وَطُسُوسًا وَآنِيَةَ خَزَفٍ»، ليشربوا. وطعامًا «حِنْطَةً وَشَعِيرًا وَدَقِيقًا وَفَرِيكًا وَفُولاً وَعَدَسًا وَحِمِّصًا مَشْوِيًّا وَعَسَلاً وَزُبْدَةً وَضَأْنًا وَجُبْنَ بَقَرٍ، لِدَاوُدَ وَلِلشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ لِيَأْكُلُوا، لأَنَّهُمْ قَالُوا: الشَّعْبُ جَوْعَانُ وَمُتْعَبٌ وَعَطْشَانُ فِي الْبَرِّيَّةِ».
والقصة مُشجعة لنا نحن الذين دخلنا في ولاء مبارك للمُخلِّص المرفوض. ولا حاجة بأحد لأن يقول يائسًا: ”ماذا أقدر أن أفعل في يومنا الحاضر؟! فليست لديَّ مؤهلات، أو أنا رجل فقير، أو أنا شيخ مُسنٌ، أو ليست لي كفاية ما؟!
إن كلاً منا يستطيع – إذا أراد – أن يؤدي عملاً من أعمال المحبة المُخلّصة. فإذا لم يقدر على الحنطة فقد يقدر على الشعير. وإذا لم يكن له ضأن يُقدمه، فالجبن مقبول. وكما يقول الرسول بولس: «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّشَاطُ مَوْجُودًا فَهُوَ مَقْبُولٌ عَلَى حَسَبِ مَا لِلإِنْسَانِ، لاَ عَلَى حَسَبِ مَا لَيْسَ لَهُ» (2كو8: 12).
إننا نرى في أنواع الطعام الذي قُدِّمَ لداود ما له قيمة تُذكر، كما نرى الرخيص والبسيط. والعبرة ليست في قيمة الشيء المُقدَّم، ولكن العبرة بالباعث الداخلي لتقديمه، فلا فرق بين خروف الضأن وقطعة من الجبن، ما دام الباعث على تقديم كل منهما المحبة والشعور بالإحسان والجميل.
وكان هؤلاء الرجال الثلاثة «خَبِيرِينَ بِالأَوْقَاتِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَعْمَلُ إِسْرَائِيلُ» (1أخ12: 32)، فعرفوا الحاجة في ”مَحَنَايِم“ لأنهم، بعطف وإشفاق، «قَالُوا: الشَّعْبُ جَوْعَانُ وَمُتْعَبٌ وَعَطْشَانُ فِي الْبَرِّيَّةِ». وكان الشعب محتاجًا إلى الراحة والإنعاش.
أيها الأحباء: إن الزمن الذي نعيش فيه الآن هو زمان رفض ربنا يسوع المسيح. فماذا نحن فاعلون إزاء نعمته ومحبته وإحسانه الذي صنعه معنا؟ إزاء جاذبية شخصه وعواطفه المتجهة إلينا؟ ماذا نحن مقدمون له ولشعبه وقطيعه الصغير، في هذه الأيام الأخيرة؛ أيام رفضه وإنكاره؟
في الأصحاح التالي (2صم18) نرى هلاك المُغتصب، وجلوس ملك إسرائيل الحقيقي على العرش، بينما نرى أيضًا أن الشعب الذي انقسم مرة يعود فينحني لداود كقلب رجل واحد، وحينئذٍ، إذ جلس الملك على العرش، كانت قد انتهت الفرصة التي أبدى فيها ”اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ“ تكريسًا خاصًا لداود. فيا ليتنا نستغل فرصة وجودنا في العالم لنخدم مَن خدمنا؛ نخدمه خدمة التكريس الحقيقي «إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ» (1كو15: 58).
(يتبع)