عدد رقم 6 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
وصايا تسليم الراية  

   رسالة بولس الرسول الثانية لتيموثاوس هي آخر ما كتبه بالوحي وبعدها بفترة قليلة انطلق ليكون مع المسيح.  وإذا تأملنا الأصحاح الأخير من هذه الرسالة الأخيرة سنلاحظ أن العدد الخامس يحتوي على آخر وصايا بولس لتيموثاوس فيقول: «وَأَمَّا أَنْتَ فَٱصْحُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. ٱحْتَمِلِ ٱلْمَشَقَّاتِ. ٱعْمَلْ عَمَلَ ٱلْمُبَشِّرِ. تَمِّمْ خِدْمَتَكَ» (٢‭‬‮تِي‬٤: ‭٥‬).  بينما الجزء التالي في الأصحاح يتعلق بظروف بولس الشخصية أكثر مما يتعلق بتعليم أو تحريض خاص لتيموثاوس.  كلنا نعلم أن الكلمات الأخيرة لأي أب أو معلم تكون مركزة وعميقة ومؤثرة جدًا، لذلك أتصور أن الدموع سالت من عيني تيموثاوس وهو يقرأ باقة الوصايا الأخيرة التي سطرها بولس بالوحي، قبيل حديثه المؤثر عن افتراقه بالجسد ورحيله للمجد.
 خصوصًا أن الطريقة التي أعتقل بولس بها في ترواس وهو عند كاربس كانت مؤثرة تتحرك لها المشاعر إذ لم يعطِ جنود الرومان فرصة لهذا الشيخ الفاضل أن يأخذ حاجاته الشخصية كالرقوق والكتب والرداء، علاوة على أن تعبير بولس عن أشواقه لرؤية تيموثاوس في أسرع وقت ممكن، كان له أثره العميق على مشاعر تيموثاوس.  كل وصية من الوصايا الأربعة الأخيرة صيغت في أسلوب رشيق؛ لا تزيد عن  كلمتين أو ثلاثة وأتصور بولس في تأثره لم يرد أن يُسهب في الكلام بل خرجت هذه الوصايا الختامية من قلبه مركزة وموجزة كأنها خلاصة كل ما سبق، ممتزجة بدموعه لتصل إلى قلب تيموثاوس بذات الحرارة والقوة والتركيز. 

أولاً: «اصح في كل شيء»
يسبق هذه الوصية قوله «أما أنت...» ليلفت انتباهنا لفئة كان بولس يتحدث عنها تختلف عن تيموثاوس؛ ذلك التلميذ الأمين الذي نسج على منواله، إذ تبع سيرته وقصده وتعليمه بل حتى آلامه.  أراد أن يحذر تيموثاوس ويذكره بموقفه الصحيح قائلاً: انتبه يا تيموثاوس..  يوجد مسيحيون يكرزون فقط في الأوقات والمناسبات التي تروق لهم ويوجد معلمون يقدمون ما يطلبه المستمعون ويركزون على إرضاء الناس أكثر من الرب.  أما أنت فكن صاحيًا في كل شيء.  تعبير «اصح في كل شيء» تحريض غني ويحمل كل المعاني التالية:

كن محتفظًا بتوازنك: لا تخر بسبب الأمور المضادة وتيارات المقاومة الشرسة للحق.    
كن ضابطًا لمشاعرك: لا تنفعل أو ترتبك بسبب الضغوط المتنوعة من كل جانب.   
كن يقظًا ومتنبهًا: من جهة مؤامرات العدو التي تستهدف إحباطك وتعثرك.  
كن ثابتًا ومتمسكًا بالتعليم الصحيح الذي تعلمته: مهما كان رواج الخرافات من حولك.
كن فاهمًا لما يجري: ما أخدع القلب وما أسهل إغوائه! وما أدهى  المعلمين الكذبة! 
كن حازمًا ومُميزًا: للموقف الذي يريدك الرب أن تأخذه، لتتصرف حسنًا في كل شيء.

ثانيًا: «احتمل المشقات»: 
  هذه العبارة ترد في اللغة الأصلية اليونانية في كلمة واحدة "كاكوباثيه" وتعني "اقبل الألم".  الجو الذي يخدم فيه تيموثاوس مليء بالمتاعب من كل نوع ومن كل ناحية.  الطريق وعر، لكن عليه أن يتذكر أن النهج الصحيح الذي تعيَّن أن يتبعه سيكلفه ثمنًا يدفعه.  " كاكوباثيه"؛ صيحة من جندي قديم لأحد الجنود الأوفياء، مناشدًا إياه قائلاً: "أيها الجندي الصالح لا تترك موقعك بسبب المقاومة العنيفة.  أيها الخادم الأمين لا تترك خدمتك لتهرب من الألم.  تشدد وتسلح بالصبر واحمل النير بشجاعة ولا تخر تحت ثقل المسؤولية.  قد تكون الآلام النفسية أصعب من الآلام الجسدية فتشدد ولا تستغرب من تقلب الناس وتغيير رأيهم فيك ومواقفهم نحوك.  ربما تجد من كان يمتدحك بالأمس ينتقدك اليوم.  لا تسعى لإرضاء أحد لمجرد تفادي المتاعب، فحمل العار واحتمال الإهانة والتجريح أهون على نفسك من ثقل التملق ومحاباة الوجوه. 

ثالثًا: «اعمل عمل المُبشر»: 
   خشي بولس أن الاهتمام بتصحيح الأوضاع الخاطئة داخل المسيحية (التي أصبحت بيتًا كبيرًا به أواني للكرامة وأخرى للهوان) يشغل تيموثاوس عن النفوس المسكينة التي في الخارج.  صحيح أن الخدمة بين المؤمنين لا تخلو من تعب أيضًا لكن وارد أن نتحول عن عمل المبشر بسبب كثرة التحديات والتهديدات والمتاعب.  عدو النفوس يستهدف المبشرين ويسعى جاهدًا أن يعطل خدمتهم مستخدمًا كل أنواع السهام، فهو عدو لا يكل أو ينام.  المبشر قد يتعب كثيرًا وتنهك قواه في حقل الخدمة دون أن يجد ثمرًا واضحًا، وأحيانًا يجد نتائج معاكسة فيصاب بالإحباط الشديد إلى أن يشجعه الرب ويرسل له عونًا فيتشدد ليواصل هذا السعي الحسن من جديد. 

وهناك أربع حيثيات لضرورة عمل المبشر:

1. خلاص عظيم: لديه خبر سار وجدير بأن يذاع، يحلو له أن يذيعه للقريب والبعيد.
2. مصير أليم: الأبدية التعيسة المرة التي تنتظر الهالكين، هي سبب قوي يحرك الكارزين.
3. عدو أثيم: إبليس عدو نشيط ويأسر كل يوم نفوسًا بينما يقدم المبشر لهم أعظم محرر. 
4. تكليف كريم: أوصى الرب «اكرزوا بالإنجيل».  فهو تكليف المحبة من الرب لتلاميذه.

رابعًا: «تمم خدمتك»:

  كلمة خدمة هنا "دياكونيا" وهي الكلمة العامة للخدمة ولا تخص نوعية معينة من الخدمات، فهي تشمل الخدمات الشفوية والتدبيرية والمالية والراعوية وأي عمل من أجل الرب حتى لو كان بسيطًا وغير معروف للناس.  المقصود بإتمام الخدمة هنا؛ إنجازها على أكمل وجه.  ما كلفك الرب به لن يتم بالصورة الصحيحة إلا إذا قمت أنت به.  لا تستهن بخدمتك ولا تستحسن شيئًا.  معظم  النزاعات الجسدية والحسد والغيرة  بين المؤمنين تنشأ حين يترك المؤمن محراثه وينشغل بالنظر إلى محراث هذا وحقل ذاك، و ينقضي العمر دون أن يتمم خدمته.  لا تنشغل بما يفعله غيرك لكن ركز في العمل الذي كلفك به الرب، مهما كانت جاذبية الخدمات الأخرى.  كن قانعًا بما قسم لك السيد من عمل فسيكافئك لا على ما أنجزته في ذاته ولكن على طاعتك وأمانتك.  الرب سيمتدحك على كونك وكيلاً صالحًا وأمينًا في المتاجرة بوزناتك.  «لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً، يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَوُكَلاءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ ٱللهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ» (‭١‬بط٤:‭١٠‬). ربما أعطاك الرب مواهب  شفوية؛ تعليم أو وعظ أو تبشير أو مواهب  تدبيرية وراعوية أو خبرات معينة.  ربما باركك ماديًا أو وهبك الرب أحشاء رأفات ورحمة ومشاعر رقيقة تجاه المساكين والمحرومين.  تذكر أن «كل عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأنوَارِ» (يَع1: 17).  تذكر أيضًا أن الرب حين رسم خطة حياتك لم يعطك فقط ما تقدمه وتخدم الآخرين به  بل رتب أيضًا الفرص وفتح الأبواب أمامك لتتاجر وتربح بما أعطاك.  برهن على ولائك وطاعتك لسيدك وكن تحت رايتك وتمم خدمتك. 
بلسان الوعد الكريم

   أتصور أن تيموثاوس الرقيق المشاعر والخادم الوفي وشريك الخدمة المخلص قال في نفسه: "سأفتقدك كثيرًا يا بولس وكنت أرجو أن نخدم معًا طوال رحلة العمر، سأفتقد تشجيعك وتعليمك ومشاعرك الأبوية الحانية".  

        ولا شك أن هذه الأقوال الأخيرة جعلت الدموع تجري من عيني ذلك التلميذ الرقيق المشاعر.  لذا يختم بولس رسالته بأروع واسطة تشجيع لتيموثاوس؛ كافية أن تجفف دموعه وتكون بلسانًا لقلبه وعونًا يشدده فيختم هذه الرسالة بخاتمة فريدة ومعزية: «الرب يسوع المسيح مع روحك».  أ لم يتشدد ويتشجع يشوع بذات الوعد أن الرب سيكون معه كما كان مع موسى؟  ألا يذكرنا هذا الوعد أيضًا بكلام ربنا لتلاميذه قبيل صعوده قائلاً لهم: «..هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْر» (مت ٢٨: 20)؟

عزيزي.. كن صاحيًا في كل شيء واحتمل الألم مستندًا على نعمة الرب المعين واشهد عن مخلصك للبائسين من حولك، كن تحت رايتك وتمم خدمتك .  تذكر الوعد المشجع أن «الرب يسوع مع روحك» ليحفظ من الفشل نفسك ويهون أتعاب جسدك ويعين بقوته روحك.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com