عدد رقم 5 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الشهادة (4)  


فهمنا من العدد السابق أن ”لوحي الشريعة“ أُطلق عليهما تعبير ”لوحي الشهادة“ إذ أنهما لا يُعبران فقط عن أحكام الله ووصاياه، بل نجد فيهما إشارة إلى الرب يسوع نفسه، الذي قال عن نفسه «شريعتك في وسط أحشائي» (مز40: 8)، والذي جاء ليُعبِّر عن كل أفكار الله ومقاصده، والذي هو ”الكلمة“ الأزلي الذي صار جسدًا (يو1: 1،14)، وهكذا أجاب هو عن نفسه عندما سؤل: «من أنت؟»، فقال: «أنا ... ما أكلمكم أيضًا به» (يو8: 25).

وإذ نتقدم في صفحات الوحي نجد أن ”لوحي الشريعة“ يُطلَق عليهما ليس فقط ”لوحي الشهادة“، بل اسم أكثر شمولاً، وهو ”الشهادة“، وكأن الوحي المقدس قصد أن يُبرز لنا أبعادًا أكثر، ومعانٍ أعمق عن الشهادة، فالله لا يقصد فقط أن يعلن عن أحكامه وفرائضه كما رأينا في لوحي الشهادة، بل يريد أن يأخذنا في جولة رائعة، وتدرُّج إلهي متقن في الإعلان، ليُظهر غنى نعمته، وسمو مقاصده من نحونا. 

ولقد ذُكرت كلمة ”الشهادة“ في سبع مناسبات، مرة بالارتباط بالمن، ومرة بالمنارة، وخمس مرات بالارتباط بالتابوت، وسوف نحاول بنعمة الرب أن نتكلم في هذه المقالة عن ارتباط الشهادة بالمن، وارتباطها بالمنارة.

المن
أول ذكر لكلمة ”الشهادة“ نجدها في كلمات موسى لهارون: «خُذْ قِسْطًا وَاحِدًا وَاجْعَلْ فِيهِ مِلْءَ الْعُمِرِ مَنًّا وَضَعْهُ أَمَامَ الرَّبِّ لِلْحِفْظِ فِي أَجْيَالِكُمْ. كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى وَضَعَهُ هَارُونُ أَمَامَ الشَّهَادَةِ لِلْحِفْظِ» (خر16: 33، 34).  وكم هو رائع أن يكون أول ذكر للشهادة مرتبطًا بالمن.  ذلك الطعام الفاخر الذي أعطاه الرب لشعبه في البرية طوال أربعين سنة. إنه ”بُرَّ (حنطة) السماء، خبز الملائكة“ (مز78: 24، 25). لقد قصد الرب أن يتذكر الشعب على الدوام المن، والذي يعكس لنا شيئًا من صفات الله، نذكر منها خمسًا:

قدرة الله: لقد اختبر الشعب قوة الله في الضربات العشر التي أوقعها بالمصريين، واختبروها أيضًا عندما شق أمامهم البحر وعبروا في اليابسة، ولكنهم تشككوا في قدرة الله على توفير طعام لهم، وكان سؤالهم المليء بعدم الإيمان والشك: «هَلْ يَقْدِرُ اللهُ أَنْ يُرَتِّبَ مَائِدَةً فِي الْبَرِّيَّةِ؟ ... هَلْ يَقْدِرُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَ خُبْزًا؟» (مز78: 20).  ولقد جاوب الرب على عدم إيمانهم بأن «فَتَحَ مَصَارِيعَ السَّمَاوَاتِ، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مَنًّا لِلأَكْلِ وَبُرَّ السَّمَاءِ أَعْطَاهُمْ» (مز78: 23، 24).  لقد كان المن شهادة على أنه لا يستحيل على الرب شيء، إذ أنه القدير العظيم.

عناية الله: لم يكن الشعب معتادًا على مناخ البرية برمالها الجرداء وندرة مياهها، وقلة مواردها، إذ كانت حياتهم في أرض خصيبة، نتيجة المياه الوفيرة من نهر النيل.  فمن أين لهم وهم في البرية أن يوفروا طعامًا لهم ولأولادهم؟ وهنا تتجلَّى عناية الله بشعبه بصورة رائعة، والذي عبَّر عنها موسى في نشيده بالقول: «وَجَدَهُ فِي أَرْضِ قَفْرٍ وَفِي خَلاءٍ مُسْتَوْحِشٍ خَرِبٍ. أَحَاطَ بِهِ وَلاحَظَهُ وَصَانَهُ كَحَدَقَةِ عَيْنِهِ ... أَرْكَبَهُ عَلى مُرْتَفَعَاتِ الأَرْضِ فَأَكَل ثِمَارَ الصَّحْرَاءِ وَأَرْضَعَهُ عَسَلاً مِنْ حَجَرٍ وَزَيْتًا مِنْ صَوَّانِ الصَّخْرِ!» (تث32: 10-13).  لقد اعتنى الرب بشعبه في البرية وأمده بالمن، بطعمه المتميز ”رقاق بعسل، وقطائف بزيت“.  فالمن يشهد عن عناية الرب الفائقه بشعبه.
أمانة الله: لقد استمر الرب في صلاحه يمد شعبه بالمن طوال رحلة البرية، رغم ما أظهروه من تمرد وعصيان.  لقد جربوه عشر مرات (عد14: 22)، لكن العجيب رغم كثرة تمردهم، أنه لم يمنع عنهم المن يومًا واحدًا! بل أقول قبل أن يلعب الشعب لعبهم النجس والدنس أمام العجل الذهبي، كانوا في الصباح قد أكلوا المن، «جَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ» (خر32: 6)؟! إن المن يشهد عن أمانة الله بشعبه مهما كانت حالتهم.

تدريب الله: لقد كان المن طعامًا غير معروف من قبل، إذ عندما أنزله الرب لهم أول مرة لم يستطيعوا أن يعرفوا ما هو، ولذلك أطلقوا عليه اسم ”مَن؟“ (خر16: 15).  وجدير بالانتباه أن الرب لم يقدم لشعبه سوى هذا الطعام الواحد ولمدة تقارب 40 سنة، رغم مقدرته أن ينوِّع لهم الطعام، فلقد استطاع أن يمدهم بالسلوى أكثر من مرة (خر16: 17؛ عد11: 31)، إذ كان قصد الرب أن شعبه لا يأكل المن فحسب بل أن يشبع به (خر16: 8، 12). وذلك لأن الله كان يرى في المن رمزًا لابنه المحبوب؛ الرب يسوع، فكان غرض الله أنه كما يُسَر هو بابنه ويشبع به، هكذا يُسَر شعبه بالمن ويشبع به، بل ويجد فيه كل كفايته، ولأن الله يعرف طبيعة شعبه، والذي عبَّر مرة عنها بالقول: «سَمِنَ يَشُورُونَ (اسم دلال للشعب) وَرَفَسَ» (تث32: 15)، قصد أن يجيزه في تدريبات شاقة ليزيد شهيته للمن، «أَذَلكَ وَأَجَاعَكَ وَأَطْعَمَكَ المَنَّ الذِي لمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ وَلا عَرَفَهُ آبَاؤُكَ» (تث8: 3).  إن المن يشهد عن تدريب الله الحكيم لشعبه.

ترتيب الله: لقد استمر الشعب يأكل المن طالما كان مرتحلاً في البرية، وبمجرَّد أن عبر نهر الأردن ودخل الأرض التي وعده الرب بها انقطع المن، واستُبدل بطعام آخر يتناسب مع المناخ الجديد، أرض الموعد، وهو ”غلة الأرض“ (يش5: 11، 12). وما أجمل هذا الترتيب فالطعام الذي يتناسب مع البرية هو المن الذي يكلمنا عن حياة الرب يسوع المتضعة حيث اختبر كل صنوف الحرمان والأحزان والآلام في رحلته على الأرض، عندما كان ”يجول يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس“، أمَّا غلَّة الأرض والتي تكلمنا عن الرب يسوع في أمجاده كالمقام من الأموات، فهو الطعام الذي يتناسب مع جو السماويات! فكما لا يتناسب أن يؤكل المن في أرض الموعد، فلا يتناسب أيضًا أن تؤكل غلة الأرض في البرية. إن المن يشهد عن عظمة ترتيب الله.

المنارة
ولننتقل إلى الفكرة الثانية، وهو ارتباط الشهادة بالمنارة: «وَأَنْتَ تَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُقَدِّمُوا إِلَيْكَ زَيْتَ زَيْتُونٍ مَرْضُوضٍ نَقِيًّا لِلضُّوءِ لإِصْعَادِ السُّرُجِ دَائِمًا. فِي خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ خَارِجَ الْحِجَابِ الَّذِي أَمَامَ الشَّهَادَةِ يُرَتِّبُهَا هَارُونُ وَبَنُوهُ مِنَ الْمَسَاءِ إِلَى الصَّبَاحِ أَمَامَ الرَّبِّ. فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً فِي أَجْيَالِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» (خر27: 20، 21).

نرى هنا في ارتباط المنارة بالشهادة دور شعب الرب بكهنته في أن يحافظوا على أن تظل المنارة تضيء أمام الشهادة، وهنا نأتي إلى فكرة مُكمِّلة لما رأيناه في المن. فإن كنا رأينا في المن شهادة رائعة عن الرب في صفاته وأعماله، فنحن نرى في المنارة مسؤولية شعبه في إظهار هذه الصفات؛ أي كيف تظهر هذه الصفات والأعمال من خلال إضاءة سرج المنارة أمام الشهادة. كما نرى أن الكل مسؤول في الحفاظ على ضوء المنارة: الشعب والكهنة. فعلى الشعب أن يقدموا الزيت، وعلى الكهنة أن يحافظوا على سرج المنارة مضيئة.  ونلاحظ أن ما يقوم به الشعب والكهنة ليس أمرًا اختياريًّا. إنه ”أمر“ موجه من الرب إليهم، كما هو ”فريضة دهرية“. 

 كما نلاحظ أن الزيت مرضوض ونقي، وهو بذلك يكلمنا عن الروح القدس وعمله فينا. إن قوة شهادتنا وقوة تأثيرها نابع من مدى نقاء الزيت، أو بتعبير آخر مدى تركنا المجال للروح القدس أن يعمل فينا، أو بتعبير الرسول بولس أن ”لا نحزن الروح“، و”لا نطفئ الروح“ (أف4: 30؛ 1تس5: 19)، وبذلك نضمن لمعان السرج وانعكاسها على الشهادة.

وهذا يذكرنا بآخر مشهد كان للمسيح مع تلاميذه قبيل صعوده، حيث قال لهم: «سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا» (أع1: 8).  وهنا نرى كما أن لمعان نور السرج مستمد من الزيت، هكذا قوة الشهادة مستمدة من الروح القدس.  فلا يمكن للتلاميذ أن يشهدوا شهادة صحيحة مؤثرة دون أن يناولوا القوة من الروح القدس، ولا عجب أننا نرى التأثير الرائع لشهادة هؤلاء التلاميذ البسطاء في كل المسكونة كما سطرها لنا لوقا في سفر الأعمال!! هؤلاء الذين في نظر رؤساء الشعب ليسوا أكثر من رجال ”عديمي العلم وعاميين“ (أع4: 13).

ولكن ما هو فحوى هذه الشهادة؟ هذا ما نعرفه من كلمات الرب لتلاميذه: «يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ ... وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذَلِكَ. وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي» (لو24: 46-48).

من أقوال الرب لتلاميذه نفهم أن مضمون الشهادة هو: حتمية موت الرب يسوع على الصليب، وحقيقة قيامته من الأموات، وأننا بالتوبة ننال غفران الخطايا، وذلك على أساس المسيح الذي «أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رو4: 25). كما نفهم من أقوال الرب أيضًا أن قوة الشهادة وتأثيرها ينبع من الروح القدس، لذلك كان عليهم أن لا يبرحوا من أورشليم حتى يلبسوا قوة من الأعالي، وذلك بسكنى الروح القدس فيهم.   

ولكن ما الذي يقصده من عبارة «لإِصْعَادِ السُّرُجِ دَائِمًا. فِي خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ خَارِجَ الْحِجَابِ الَّذِي أَمَامَ الشَّهَادَةِ».  نحن نعرف أن الذي أمام الحجاب هو التابوت، والذي في داخله لوحي الشهادة، ولكنه لم يذكر هنا أن السرج تصعد أمام التابوت بل أمام الشهادة، وكأن المقصود هنا أن السرج لا تضيئ على التابوت فحسب بل على ما يحمله من شهادة رائعة عن الله، وهذا حقيقي، فما أكثر ما يحمله لنا التابوت والذي كما ذكرنا ذُكر باسم ”تابوت الشهادة“ أكثر من مرة.  وهذا ما سنتعرَّض له بنعمة الرب في الأعداد القادمة.         
                                                                      

   

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com