(2صم15-18)
في بَحُورِيم
(2صم16: 5-14)
بمجرد أن انتهت تملقات ”صِيبَا“ (2صم16: 1-4)، أتت لعنات ”شَمْعِي بْنُ جِيرَا الْبِنْيَامِينِيُّ“ (2صم16: 5-14). من خلال ”صِيبَا“ هاجم الشيطان داود في صورة الحَيَّة التي تخدع (2كو11: 3). ومن خلال ”شَمْعِي“ هاجمه الشيطان في صورة الأسد الزائر الذي يريد أن يبتلعه (1بط5: 8). ”صِيبَا“ كذب وقدَّم هدايا، و”شَمْعِي“ سبَّ وألقى حجارة. وكلاهما كانا بمثابة تجربة لداود. وكانت الأولى أخطر؛ فإن تملقات وهدايا ”صِيبَا“ قادت داود إلى الحكم الخاطئ على شخص بار، بينما لعنات ”شَمْعِي“ وحجارته قادته إلى الحكم الصحيح على نفسه. آه، كم عندنا وفينا من الأسباب التي تجعلنا نخاف من ابتسامات العالم ووعوده، أكثر جدًا من تجهمه ووعيده.
كان شَمْعِي من عائلة شاول، وكان يُضمر الحقد والمرارة على داود طيلة سني مُلكِهِ، وخرج لمقابلة الملك المُطارَد من ابنه أبشالوم، وبدأ في إهانة داود وقذفه بالشتائم واللعنات، ورشقه هو وعبيده بالحجارة، ولقَّب داود بألقاب رهيبة، واتهمه بأنه السبب في كل دماء بيت شاول، وأضاف أن الرب سلَّم المملكة ليد أبشالوم: «وَهَكَذَا كَانَ شَمْعِي يَقُولُ فِي سَبِّهِ: اخْرُجِ! اخْرُجْ يَا رَجُلَ الدِّمَاءِ وَرَجُلَ بَلِيَّعَالَ ! قَدْ رَدَّ الرَّبُّ عَلَيْكَ كُلَّ دِمَاءِ بَيْتِ شَاوُلَ الَّذِي مَلَكْتَ عِوَضًا عَنْهُ، وَقَدْ دَفَعَ الرَّبُّ الْمَمْلَكَةَ لِيَدِ أَبْشَالُومَ ابْنِكَ، وَهَا أَنْتَ وَاقِعٌ بِشَرِّكَ لأَنَّكَ رَجُلُ دِمَاءٍ!» (ع7، 8). وكان تصرف شَمْعِي في هذا الموقف في منتهى الدناءة والغباء، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: كان هذا عصيانًا لوصية الله الصريحة: «لاَ تَسُبَّ اللهَ، وَلاَ تَلْعَنْ رَئِيسًا فِي شَعْبِكَ» (خر22: 28). كما قال الجامعة: «لاَ تَسُبَّ الْمَلِكَ وَلاَ فِي فِكْرِكَ» (جا10: 20).
ثانيًا: كم هو حقير أن يلعن شَمْعِي داود وهو في مثل هذا الموقف هاربًا من تمرد ابنه أبشالوم، غير مراعٍ لظروفه، بل مُضيفًًا حزنًًا على حزنه «لأَنَّ الَّذِي ضَرَبْتَهُ أَنْتَ هُمْ طَرَدُوهُ، وَبِوَجَعِ الَّذِينَ جَرَحْتَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ» (مز69: 26).
ثالثًا: كيف لم يعمل شَمْعِي حسابًا لداود «وَجَمِيعَ عَبِيدِ الْمَلِكِ دَاوُدَ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ وَجَمِيعُ الْجَبَابِرَةِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ»؟ (ع6). لقد كان واحدًا فقط من جبابرة البأس الذين أحاطوا بداود كافيًا لقتله.
رابعًا: كان اتهام شَمْعِي بأن داود هو المسؤول عن ”كُلَّ دِمَاءِ بَيْتِ شَاوُلَ“ ليس له أي أساس من الصحة بل هو اتهام ظالم، لأن داود لم يأخذ المملكة من شاول بسفك الدماء، ولا ثأر كالمعتاد عندما أصبح في مركز القوة، بل بالعكس، قابل الشر بالخير، وأظهر كل حب لمن بقيَ من بيت شاول (2صم9). لقد حافظ داود على حياة شاول مرتين، عندما كان في قدرته أن يقتله (1صم24؛ 26)، كما أظهر لطفًًا لمفيبوشث ابن يوناثان وحفيد شاول. ولم يكن داود مسؤولاً عن مقتل شاول ويوناثان، اللذان قُتلا في الحرب مع الفلسطينيين (1صم31). كما كان داود بريئًا على حد سواء من مقتل كل من أبنير وإيشبوشث (2صم3؛ 4).
خامسًا: وقال شمعي: «قَدْ دَفَعَ الرَّبُّ الْمَمْلَكَةَ لِيَدِ أَبْشَالُومَ ابْنِكَ» (ع8). وكم هو غريب أن يُنطق اسم الرب المقدس من فم رجل شرير كَشَمْعِي، بل أكثر من ذلك، اجترئ شَمْعِي بوضعه فرضيات في معاملات الله مع داود، وأخذ على عاتقه تفسير هذه المعاملات الإلهية مع داود. ليت الله يعطي قديسيه نعمة لكي يحفظهم من حماقة وشر المحاولة في التعليق على معاملات الله تجاه الآخرين.
ولكن داود رأى شيئًا آخر في لعنات شَمْعِي وبوصفه ”رَجُلَ الدِّمَاءِ“، فلا بد أن دماء ”أُورِيَّا الْحِثِّيِّ“ التي سفكها داود اُستُحضرت فجأة إلى ذهنه. فإن لم تكن دماء شاول على داود، فدماء أوريا التصقت به. وكان داود يعلم ذلك جيدًا، فانحنى تحت قضاء الله العادل. لقد رأى يد الله في ساعة التجربة. وأدرك داود أن ”شَمْعِي“ ما هو إلا أداة في يد الرب، واعترف أنه يستحق السب. وعندما استأذنه ”أَبِيشَايُ ابْنُ صَرُويَةَ“ أن يعبر ويقطع رأس ”شَمْعِي“، رفض داود وقال: «دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ: سُبَّ دَاوُدَ. وَمَنْ يَقُولُ: لِمَاذَا تَفْعَلُ هَكَذَا؟ ... دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ. لَعَلَّ الرَّبَّ يَنْظُرُ إِلَى مَذَلَّتِي وَيُكَافِئَنِي الرَّبُّ خَيْرًا عِوَضَ مَسَبَّتِهِ بِهَذَا الْيَوْمِ» (ع10-12).
ونلاحظ أن داود ذكر ”الرب“ 4 مرات في جوابه على أَبِيشَاي. لقد كان له قلبٌ منكسرٌ وروحٌ خاضعةٌ منسحقةٌ، مما حماه وأتاه ثقةً بالرب واتكالاً عليه. وكان له «الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ»، الذي «يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ» (2كو7: 9، 10). وكانت هذه «أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ» (مت3: 8). يا للروعة! كان كل شيء كاملاً في وقته!
أما عن الدروس الأدبية النافعة في المشهد، فنقول:
أولاً: «اخْضَعُوا لِلَّهِ» (يع4: 7)، «فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ» (1بط: 6): لقد شعر داود، بلا شك، أنه يحصد ثمار خطيتة فتقبلها. رأى الله في كل ظرف، وأكرمه بروح خاضعة موقرة له، ومن وجهة نظره لم يكن ”شَمْعِي“ هو الذي يفعل كل شيء بل الرب، أما أبيشاي فلم يَرَ إلا الإنسان وأراد أن يتعامل معه حسب ما يقتضي الموقف. وهذا عين ما حدث مع بطرس بعد ذلك حين أراد أن يحمي سيده المحبوب من جماعة القَتَلةَ المُرسَلة لتقبض عليه، فبطرس وأبيشاي كانا سطحيين، فلم يبصرا إلا الأسباب الثانوية، أما الرب يسوع فكان في أعمق خضوع للآب، وهذا ما أعطاه قوة فوق كل شيء، فقد كان يتطلع إلى ما هو أبعد من الأداة المستخدمة فيرى الله، وإلى ما هو أبعد من الكأس فيرى اليد التي ملأتها، فما كان يهمه مَنْ الذي أمامه سواء كان يهوذا أم هيرودس أم قيافا أم بيلاطس، فاستطاع أن يقول في كل الأحوال: «الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألاَ أَشْرَبُهَا؟» (يو18: 11). وما عمله داود كان شبيهًا بذلك، إذ تخطى العوامل الثانوية، ونظر رأسًا إلى الله، فنراه بأقدام حافية ورأس مُغطى ينحني أمامه قائلاً: «الرَّبَّ قَالَ لَهُ: سُبَّ دَاوُدَ». وكان هذا كافيًا.
أيها الأحباء: لو كنا أكثر وعيًا لحقيقة أنه لا يوجد حَدَث واحد يحدث معنا من الصباح إلى المساء، إلا ويمكننا أن نسمع فيه صوت الله، ونرى يده، فأية أجواء مقدسة تلك التي كانت ستحيط بنا! إذ حينئذٍ سنقبل الناس والأشياء على أنهم عوامل وأدوات في يد الآب السماوي، وعناصر أو مكونات كأس أبينا المُحبّ.
إذا أصبحت هذه هي رؤيتنا للأمور فسترتاح عقولنا وتهدأ نفوسنا وتخضع قلوبنا، فلا نقول مع أبيشاي: «لِمَاذَا يَسُبُّ هذَا الْكَلْبُ الْمَيْتُ سَيِّدِي الْمَلِكَ؟ دَعْنِي أَعْبُرْ فَأَقْطَعَ رَأْسَهُ» (ع9). ولن نفعل ما فعله بطرس إذ استل سيف الانفعالات الجسدية ليدافع عن سَيِّده. وهل كان يمكن لداود أن يدافع عن نفسه بينما يقصد الله أن يتعامل معه بأسلوب مؤثر؟ قطعًا لا. ويا له من خضوع مبارك!
ثانيًا: لننتظر الخير في ظروفنا الصعبة: «وَقَالَ دَاوُدُ لأَبِيشَايَ وَلِجَمِيعِ عَبِيدِهِ: هُوَذَا ابْنِي الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَحْشَائِي يَطْلُبُ نَفْسِي، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآنَ بِنْيَامِينِيٌّ؟ دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ» (ع11). لقد هدَّأ داود نفسه في هذه التجربة الأصغر – تجربة سب شمعي - بأن ذكَّر نفسه بالتجربة الأكبر وهي ثورة أبشالوم ضده. ولقد بحث عن التعزية في فرضه أن الرب قد يُحوِّل هذه التجربة لبركته في النهاية: «دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ. لَعَلَّ الرَّبَّ يَنْظُرُ إِلَى مَذَلَّتِي وَيُكَافِئَنِي الرَّبُّ خَيْرًا عِوَضَ مَسَبَّتِهِ بِهَذَا الْيَوْمِ» (ع11، 12). كما أنه عزى نفسه بعدما فكر أن خطاياه تستحق عقابًا أشد مما كان يُقاسيه. ألم يكن يستحق الموت جزاءً لما ارتكبه في قضية ”أوريا الحثي“، ولكن الرب نقل عنه خطيته وأحياه، فلماذا يشكو من مجرد سباب وبضعة أحجار؟ لقد كان ينظر إلى ما هو بعد الآلة المؤلمة، نظر إلى يدي الله البارة. كما أنه مارس الرجاء بأن الله سوف يخرج خيرًا من الشر، كما هو مكتوب: «أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (رو8: 28)، وأن «كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عب12: 11). ليتنا جميعًا نتعلَّم هذا!
(يتبع)