عدد رقم 5 لسنة 2013
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الكهولة الروحية  

«أَفْرَايِمُ يَخْتَلِطُ بِالشُّعُوبِ. أَفْرَايِمُ صَارَ خُبْزَ مَلَّةٍ لَمْ يُقْلَبْ. أَكَلَ الْغُرَبَاءُ ثَرْوَتَهُ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ، وَقَدْ رُشَّ عَلَيْهِ الشَّيْبُ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ » ( هوشع 7: 8، 9)

    في كل المرات التي ذُكر فيها الشيب في الكتاب كان له مدلوله الإيجابي، فارتبط بالهيبة والحكمة، لكن هذه هي المرة الوحيدة التي يُذكر فيه الشيب بمغزى سلبي، لأن الوحي المقدس في هذا السياق يريد أن يشير إلى خطورة  حالة روحية وليست جسدية، وهي ما أطلقت عليها «الكهولة الروحية». 
   والكهولة الروحية تعبير غير مألوف وغير شائع في أحاديثنا وقلما نسمع عنه رغم أنها مرحلة يمر فيها عدد ليس بقليل من المؤمنين يظهر فيها التدهور والإفلاس الروحي.

   من الطبيعي أن نقرأ عن الطفولة الروحية لأننا نمر بها ونعاني من عبثها ومتاعبها لنا ولمن حولنا، وينبغي أن نتقدم نحو الكمال أي "النضوج"، ولا نبقى في مرحلة الطفولة أو الحداثة مدى الحياة، وغاية النمو الروحي أن نكون رجالاً في الإيمان حيث يزداد إدركنا وتنضج مشاعرنا وأفكارنا وندخل إلى العمق، ونحمل نير الخدمة ونحتمل المشقات بصبر ونثبت في اليوم الشرير ..الخ. 

   أما الكهولة الروحية فلا علاقة لها بطول العمر أو الشيخوخة الجسدية إذ أنه يوجد مؤمنون متقدمون في الأيام ولم تذهب نضارتهم ولم تضعف قوتهم الروحية مثل موسى وكالب ابن يفنة ودانيال.  وإن كان إنسانهم الخارج يفنى لكن كيانهم الداخلي يتجدد يومًا فيومًا، لأنهم يتأيدون بالقوة بالروح في الإنسان الباطن، مختبرين ما قاله المرنم: «الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ» (مز103: 5)، فكل منهم مثل النخلة التي تجود بأحلى الثمر مع تقدم العمر، «أَيْضًا يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَامًا وَخُضْرًا» (مز12:92).  بينما يمكن أن يصل لمرحلة الكهولة الروحية مؤمن في ربيع العمر، وهو في قمة طاقته وصحته الجسدية حيث النشاط والحيوية في الأمور الزمنية، لكن للأسف تبدو عليه أعراض الهزال والإفلاس الروحي دون أن يدري.
   وأريد أن أؤكد أننا بصدد تطبيق أعراض الشيخوخة الجسدية تطبيقًا روحيًا، ولا يعني ذلك أن تلك الأعراض في حد ذاتها علل تعيب أصحابها، إنما مدلولها الروحي هو بيت القصيد.  

1- ضعف العينين
« وَحَدَثَ لَمَّا شَاخَ إِسْحَاقُ وَكَلَّتْ عَيْنَاهُ عَنِ النَّظَرِ، أَنَّهُ دَعَا عِيسُوَ ابْنَهُ الأَكْبَرَ وَقَالَ لَهُ: «يَا ابْنِي». فَقَالَ لَهُ: «هأَنَذَا». 2فَقَالَ: «إِنَّنِي قَدْ شِخْتُ وَلَسْتُ أَعْرِفُ يَوْمَ وَفَاتِي. 3فَالآنَ خُذْ عُدَّتَكَ: جُعْبَتَكَ وَقَوْسَكَ، وَاخْرُجْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَتَصَيَّدْ لِي صَيْدًا، 4وَاصْنَعْ لِي أَطْعِمَةً كَمَا أُحِبُّ، وَأْتِنِي بِهَا لآكُلَ حَتَّى تُبَارِكَكَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ»(تك 27 :1-4).

   هنا نجد صورة لمؤمن بلغ الكهولة الروحية إذ ضعفت بصيرته وتمييزه الروحي. آخر عبارة نقرأها قبل هذا الكلام في ختام أصحاح 26 تعرفنا إن كان بالفعل عيسو يقدر البركة وأهلاً لها أم لا.  ضعف البصيرة الروحية يجعل صاحبها يقيس الأمور بمقاييس الناس وليس باعتبارات وموازين الله.  البركة ليست رخيصة وعيسو في ذلك الوقت يستحق الإدانة والتوبيخ الشديد لأنه شهواني ومستبيح وغير مقدر لأمور الله. 

   ذات الأمر نراه في عالي الكاهن الذي نقرأ عنه أن «...عَيْنَاهُ ابْتَدَأَتَا تَضْعُفَانِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُبْصِر» (1صم 3: 2).  لم يُميِّز أن الرب يمكن أن يدعو ويستخدم صبيًا صغيرًا طالما كان متاحًا ومخلصًا له، كما لم يُميِّز أن مجد الرب أهم من كرامة أبنائه، ولم يُميِّز أن التهاون في أمور الله يستجلب القضاء الإلهي لأنه قدوسَ.  هكذا  حال المؤمن الذي شاخ وضعفت بصيرته الروحية دون أن يدري.

2- ضعف الأرجل
 «وَبَقِيَّةُ كُلِّ أُمُورِ آسَا …. مَكْتُوبَةٌ فِي سِفْرِ أَخْبَارِ الأَيَّامِ لِمُلُوكِ يَهُوذَا؟ غَيْرَ أَنَّهُ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَتِهِ مَرِضَ فِي رِجْلَيْهِ» (1مل 15: 23).

   بدأ آسا حسنًا لكنه لم يكمل كما ابتدأ.  إصابة الأرجل تتكلم عن السلوك المعيب.  كان آسا في بداية مُلكه متكلاً على الرب وفي مواقف حرجة وأزمات تاريخية اختبر معونة الرب ورأى ذراع الرب الجديرة بأن يستند عليها.  الأمر الذي كان يُميِّز آسا أنه جعل الشعب يقطع عهدًا بأن يطلبوا الرب وحده بكل قلبهم، وقد طلبوه بالفعل فأراحهم من كل جهة.  لكنه في مرضه لم يطلب الرب بل طلب الأطباء.  ألا نرى مؤمنين في ربيع حياتهم الروحية كانوا يلتمسون وجه الرب ويتكلون عليه في كل صغيرة وكبيرة لشعورهم بالإحتياج الشديد وعدم كفاية الموارد المتاحة فألقوا رجائهم بالتمام على الله الحي.  لكن للأسف الغرباء قد نهبوا ثرواتهم (انطفأت شهادتهم الثمينة بسبب تسلل الروح العالمية مع مرور الأيام) حين تيسرت أمورهم المادية وضعوا رجاءهم في أموالهم بدلاً من الثقة في الرب! وعندما صارت لهم علاقات مع أصحاب النفوذ في البلاد، فاعتمدوا على أصحاب المراكز والسلطان بدلاً من الاتكال على  ذراع الرب! لقد ضربت الشيخوخة الأرجل فمرضت وما عادت تسلك باستقامة كما كانت من قبل. 

3- ضعف الحواس
  « وَكَانَ بَرْزِلاَّيُ قَدْ شَاخَ جِدًّا. كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً. ..34فَقَالَ بَرْزِلاَّيُ لِلْمَلِكِ: «.. أَنَا الْيَوْمَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً. هَلْ أُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالرَّدِيءِ؟ وَهَلْ يَسْتَطْعِمُ عَبْدُكَ بِمَا آكُلُ وَمَا أَشْرَبُ؟ وَهَلْ أَسْمَعُ أَيْضًا أَصْوَاتَ الْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ؟ ..» ( 2صم 19: 33- 35 ) 

   من أعراض الشيخوخة أن الإنسان يفقد شهيته لدرجة أنه لم يعد يتذوق جيدًا أو يسمع جيدًا، وهكذا لا يستمتع في هذه المرحلة بما كان يستمتع به في شبابه. هكذا يكون المؤمن الذي يتعرض للشيخوخة الروحية، ومع الأيام يجد حياته قد اصطبغت بألوان الروتين العقيم كممارسة العبادة  بصورة شكلية رتيبة، تخلو من القوة والبهجة والشركة الحميمة، لدرجة أن الحق الذي كان يتذوقه ويتمتع به في الماضي لم يعد مشبعًا أو ممتعًا لحواسه الروحية.  تجده يدخل بيت الوليمة حيث أشهى الأطعمة وأطيب الشراب وأعذب الأنغام لكن يبقى القلب بائسًا والوجه عابسًا، ربما يواظب على حضور كل الاجتماعات ويردد بشفتيه أعمق التعبيرات في الصلوات والترنيمات ويسمع أطيب التأملات دون أن يلتهب قلبه حبًا أو ينتعش فرحًا.   

4- برودة الجسد
     «شَاخَ الْمَلِكُ دَاوُدُ. تَقَدَّمَ فِي الأَيَّامِ. وَكَانُوا يُدَثِّرُونَهُ بِالثِّيَابِ فَلَمْ يَدْفَأْ» ( 1مل1:1)

     من أعراض الشيخوخة أن الجسد يشعر بالبرودة ويحتاج لملابس ثقيلة لتدفئ جسده.  وأرى في ذلك أهمية ممارسة الشركة مع المؤمنين.  تبدأ أعراض الشيخوخة الروحية عندما يبعد مؤمن نفسه عن أجواء الشركة التي فيها يتعزى بالإيمان المشترك مع إخوته.  مع أنه في بداية إيمانه، كان يحلو له أن يزور إخوته، أو يستضيف القديسين في بيته، أو كان يشاركهم أخباره وظروفه الحلوة والمرة، وتذوق حلاوة وروعة الشركة وقيمة وإحساس الجسد الواحد حين كانوا يبتهجون في أفراحه ويبكون في أتراحه. وعندما يعاني المعتزل من البرودة الروحية يلجأ إلى بدائل لا تجدي نفعًا، وقد يظن أنه يمكنه أن يستعيض عن الشركة بالبرامج المسيحية على الفضائيات أو الاشتراك في أحد النوادي الاجتماعية أو ممارسة هواية ما..الخ.  لكن كل هذه البدائل ليست سوى ثياب يدثر بها نفسه دون أن يدفأ.   

5- ضعف القلب
 «وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ» (1مل11: 4) 

   أرى أن هذا العرض هو أصعبهم وأخطرهم على الإطلاق. هل يمكن للقلب الذي تعلق بالرب وتذوق من نبع حبه الصافي والصادق أن يتحول عنه؟ هل يمكن لمؤمن خدم الرب وشهد عنه زمانًا هذا مقداره أن تبرد عواطفه تجاه الرب؟ للأسف هذا ما اختبره سليمان بالفعل. الضربة عندما تكون مرتبطة بالقلب تكون شديدة الخطورة.  إن فترت المحبة للرب، تنطفئ الشهادة بالتمام.  إن ملاك كنيسة أفسس كانت تبدو أمام عينيه كل مظاهر الحيوية والقوة (أعمال، تعب، صبر، احتمال..الخ) لكن الرب وبخه على ضعف المحبة.  نساء سليمان يمثلن كل صور الأشياء التي تسلب محبتنا للرب، الأمور التي يحبها ويتعلق بها المؤمن حين ينزلق يومًا تلو الآخر في مزالق العالم ويفتقد العلاقة الحميمة مع الرب  إلى أن يقع في فخاخ الطمع وعبادة الآلهة الأخرى، (أي تستحوذ على مشاعره أشياء أو أشخاص غير الرب)، يعطيها أثمن أوقاته وجل اهتمامه.

   وكما الحال في الشيخوخة الجسدية، هكذا في الشيخوخة الروحية أيضًا، فإنْ ضَعُفَ القلب سرعان ما تتدهور الصحة العامة، هكذا تظهر علامات الشيخوخة الروحية سريعًا إن فترت المحبة للرب وزاغ القلب وراء شهوات العالم.  العلاج الذي يقدمه الرب هو فحص النفس والتوبة لئلا نخسر الثروة الثمينة التي إئتمننا الرب عليها وهي منارة الشهادة له.  «... لكن عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى فاذكر من أين سقطت وتب واعمل الأعمال الأولى وإلا فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب» ( رؤ 2: 4 ،5)
                    إن فترت  يومًا  لك    محبتي         أو إن أنا أنكرتك التفت اليّ
                    دع عيني ألا تبتغي دنيا الغنى         بل باكيًا أجدد  العهد الوفي
                    وإن ظننتُ  أن  حبي   كاملٌ          زده  ليسمو مثل حبك الغني

   عزيزي الشاب: هل رُش على رأسك الشيب وأنت لا تدري؟ إن كانت أحد أو بعض هذه الأعراض بدأت في الظهور والازدياد مع الأيام، راجع نفسك وانظر في مرآة كلمة الله.  هل نهب الغرباء ثروتك، هل انطفأت شهادتك وفقدت قوتك وتمييزك الروحي؟ هل فقدت شهيتك وتمتعك بأمور الله العظيمة؟ هل فترت محبتك للرب؟ ارجع للرب بكل قلبك وهو كفيل بأن يجدد مثل النسر شبابك ويشبع بالخير عمرك، وينشط عظامك، فتصير كجنة رية، وكنبع مياه لا تنقطع مياهه، ويستخدمك لمجده في ما تبقى لك من العمر إلى أن يجيء. 
      

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com