عدد رقم 5 لسنة 2013
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
وليمة الصفح والتسامح  

الوليمة هي تعبير عن الفرح والبهجة «للضحك يعملون وليمة» (جا10: 19)، فهي ترتبط عادة بحدث سعيد أو مناسبة سارة، فنقرأ عن وليمة عملها إبراهيم يوم فطام إسحاق (تك21: 8)، ووليمة عملها فرعون يوم عيد ميلاده (تك40: 20)، ووليمة عملها شمشون يوم خطبته (قض14: 10)، ووليمة عملها نابال يوم جز غنمه (1صم25: 36).

ولكن هناك ولائم في كلمة الله لها غرض أسمى ومعنى أعمق، ليس مناسبة مُفرِحة ترتبط بالشخص نفسه أو بذويه، بل بالآخرين، ترتبط بإسعاد وخير الآخرين، وهنا تأخذنا كلمة الله لمعنى أوسع وأرقى للوليمة، وإحدى هذه الولائم المتميزة، الوليمة التي عملها أليشع لجيش ملك أرام، إنها وليمة ليست مُقدَّمة لأصدقاء وأحباء، بل لأعداء وأشرار! دعونا معًا نعرف كيف حدث هذا؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه من هذه الوليمة العجيبة، والتي يمكن أن نسميها وليمة الصفح والغفران؟

أرسل ملك أرام رئيس جيشه؛ نعمان إلى ملك إسرائيل ليشفيه من برصه، الأمر الذي اعتبره ملك إسرائيل تحرشًا به وبشعبه، حتى أنه مزَّق ثيابه، إلا أن أليشع تدخل واستخدمه الرب في تطهير نعمان من برصه (2مل5)، ولكننا بعد ذلك نجد ملك أرام يرصد تحركات ملك إسرائيل، وفي كل مرة كان يعد له كمينًا كان أليشع يُحذِّره، فتفشل الخطة.  وعلم ملك أرام أن أليشع هو الذي يفشي أسراره، فأرسل جيشًا ثقيلاً ليأسره، وبدلاً من أن يمسكوا أليشع أمسكهم هو، وساقهم إلى السامرة بعد أن ضربهم بالعمى، وعندما انفتحت عيونهم وجدوا أنفسهم محاطين بجيش ملك إسرائيل، والذي سأل أليشع هل يضربهم بالسيف؟ غير أن أليشع رفض ذلك، وطلب منه أن يولم لهم وليمة، ثم يرجعهم سالمين لملك أرام!! (من فضلك راجع 2مل6: 8-24). كيف فعل أليشع ذلك؟ وكيف أظهر هذا الكم من الصفح والتسامح لأناس يضمرون له شرًّا لا خيرًا؟!  بل كيف يظهر هذه الروح الرائعة تُجاه ملك شرير بهذا الشكل؟ ولكي نستوعب ما فعله رجل الله أليشع دعونا نستعرض معًا صفات هذا الملك الشرير.    

1. لا يُقدِّر الجميل:
كم أتعجب من ملك يقابل الخير بالشر، والإحسان بالإساءة! أ لم يرسل قائد جيشه مريضًا بمرض عضال وهو البرص، وها قد رجع له معافى تمامًا، حتى أن لحمه صار كلحم صبي صغير؟! وبدلاً من أن يشعر بالامتنان تجاه من كانوا واسطة في ذلك نجده يحاول أكثر من مرة أن يبطش بملك إسرائيل، بل نجده يحاول أن ينال من أليشع نفسه! 

2. مخادع ومراوغ: 
إن تصرف الملوك ينبغي أن يتَّصف بالصراحة والمواجهة، لا الخداع والمراوغة.  فكان أجدر به أن يُظهر مشاعره بوضوح لملك إسرائيل وينازله في حرب صريحة كما يفعل الملوك الشرفاء، غير أنه لم يفعل ذلك، بل لجأ إلى أسلوب سيده، أعني الشيطان، والذي هو أول من اتَّبع أسلوب المراوغة والخداع مع أبوينا في الجنة!! 

3. عنيد ومتصلف لدرجة الغباء: 
       عندما يحاول الإنسان في أمر ما ويفشل، عليه أن يعيد حساباته ويراجع نفسه، لا أن يعود ويفعل ذات الأمر وهو يتوقع الفشل قبل النجاح؟! لقد فشل في أن ينال من ملك إسرائيل إذ علم أن أليشع يعرف أفكاره حتى وهو في مخدعه، فبالتالي سيعرف أليشع أنك سترسل جيشًا إليه كي يمسكوه؟! فالذي أحبط كل خططك تجاه ملك إسرائيل بالأولى سيحبط خططك تجاه الإمساك به!

4. متهور إلى حد الحماقة:
كان يعلم ملك أرام إن ما ينوي فعله غير مضمون العواقب، فرغم أنه يريد أن يمسك رجلاً واحدًا أعزل متواجد في مدينة غير حصينة بلا أسوار “دوثان”، أرسل جيشًا ثقيلاً (2مل6: 14)!! لقد كان يدرك أنه رجل غير عادي وأنه صاحب عجائب، ليس فقط يعلم الغيب بل أيضًا يصنع معجزات، وقائد جيشه خير دليل على ذلك.  إلا أننا نراه بحماقة تهوره يُرسل جيشًا ليمسك أليشع؟!
وهنا نتساءل هل هذا هو الرجل الذي يريد أليشع أن يعمل وليمة لجيشه؟ أ مثل هذا الشخص بصفاته هذه يصلح معه مثل هذه المعاملة الحسنة والراقية جدًّا؟ أ يفهم هو في الأخلاقيات وسمو الآداب؟ وأمام هذه التساؤلات دعونا نتعرف أكثر عن خصال رجل الله أليشع والتي نكتشفها من تصرفاته:

أولاً: مسالم: لقد انطبقت عليه كلمات الرسول: «حسب طاقاتكم سالموا جميع الناس» (رو12: 18).  نعم لقد حذَّر ملك إسرائيل من غدر غزاة ملك أرام، لكنه أبدًا لم يوقع بهم ضررًا. إنه قصد سلامة ملك إسرائيل، وقصد أيضًا سلامة الغزاة!

ثانيًا: رجل النعمة: عندما ذهب قائد الخمسين بالخمسين الذين له يطلب من إيليا النزول معه.  أنزل إيليا عليهم نارًا من السماء وأكلتهم، وتكرر هذا مرتين (2مل1: 10، 12)، ولكن عندما جاء هذا الجيش الثقيل ليمسك بأليشع، ضربهم بالعمى لا ليؤذيهم بل ليسهل عليه قيادتهم إلى السامرة، ولم يرسل عليهم نارًا من السماء لتأكلهم، بل أولم لهم وليمة لينعموا هم بالأكل! وهكذا نجده يُطبِّق كلمات رسول النعمة بصورة رائعة: «لا تجازوا أحدًا عن شرٍّ بشرٍّ ... لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب ... فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه، لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنَّك الشر بل اغلب الشر بالخير» (رو12: 17-21).

ثالثًا: ذو قلب متَّسع: مع إدراك أليشع لطبيعة الملك الذي يتعامل معه ومدى شره، لم يجعل من ذلك مبرِّرًا أن يتعامل معه بشيء من التحفظ والجفاء.  بل نراه يُظهر ببساطة ما في قلبه من محبة وتسامح وصفح، دون أن ينظر إلى نواياه الشريرة والخبيثة، وهو يعلم أنه قد لا يتأثر بما يُظهره له من محبة صادقة نحوه.  وهذا ما حدث بالفعل، فبعد أن أولم أليشع وليمة لجيش ملك أرام، كنا نتوقع أن يخجل ملك أرام بهذه المشاعر الراقية والصادقة التي غُمِر بها، ويطلب أن يعيش في سلام مع جيرانه، إلا أننا نقرأ بكل أسف: «وكان بعد ذلك أن بنهدد ملك أرام جمع جيشه وصعد فحاصر السامرة» (2مل6: 24)!! لاحظ عبارة «وكان بعد ذلك» أي أن نتيجة تصرفات أليشع وما فعله مع جيشه، كان أن ملك أرام صعد ليحارب ملك إسرائيل مرة أخرى!! إن طبيعته الردية لا تعرف أن تعمل أفضل من ذلك، وطبيعة أليشع الجيدة لا تعرف أن تعمل أقل من ذلك!!

أقول إن أليشع سبق عهده، وحري به أن يُطلَق عليه نبي النعمة.  إن تعاليم الناموس التي تتناسب مع طبيعة الإنسان الساقط تُعلِّم: «عين بعين وسن بسن و...» (خر21: 24)، أما تعاليم النعمة التي أتى بها الرب تُعلِّم: «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا» (مت5: 39)! الناموس يُعلِّم: «تحب قريبك وتبغض عدوك» (راجع مت5: 43 مع تث23: 3-6؛ مز41: 10)، والنعمة تُعلِّم: «أحبوا أعداءكم .. أحسنوا إلى مبغضيكم» (لو6: 27).

وأنت يا صديقي الشاب: هل أفعالك وتصرفاتك مع من يسيء إليك ويجرحك تتناسب مع هذه التعاليم السامية؟  ليتنا نسمو فوق مشاعرنا الطبيعية والتي تحب الانتقام، وتميل إلى روح التشفي، لنظهر على الدوام صفات سيدنا الكريم، والذي أظهر قوة الصفح والغفران في أروع مشهد، عندما أولم لصالبيه أعظم وليمة غفران، إذ قال: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو23: 34).
                                                                                                                                       

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com