المشهد الخامس: على قمة جبل الزيتون
(2صم15: 32-37)
«وَلَمَّا وَصَلَ دَاوُدُ إِلَى الْقِمَّةِ حَيْثُ سَجَدَ لِلَّهِ، إِذَا بِحُوشَايَ الأَرْكِيِّ قَدْ لَقِيَهُ مُمَزَّقَ الثَّوْبِ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ. فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: إِذَا عَبَرْتَ مَعِي تَكُونُ عَلَيَّ حِمْلاً. وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقُلْتَ لأَبْشَالُومَ: أَنَا أَكُونُ عَبْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. أَنَا عَبْدُ أَبِيكَ مُنْذُ زَمَانٍ وَالآنَ أَنَا عَبْدُكَ. فَإِنَّكَ تُبْطِلُ لِي مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ. أَ لَيْسَ مَعَكَ هُنَاكَ صَادُوقُ وَأَبِيَاثَارُ الْكَاهِنَانِ. فَكُلُّ مَا تَسْمَعُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَأَخْبِرْ بِهِ صَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ. هُوَذَا هُنَاكَ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا أَخِيمَعَصُ لِصَادُوقَ وَيُونَاثَانُ لأَبِيَاثَارَ. فَتُرْسِلُونَ عَلَى أَيْدِيهِمَا إِلَيَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَسْمَعُونَهَا. فَأَتَى حُوشَايُ صَاحِبُ دَاوُدَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَبْشَالُومُ يَدْخُلُ أُورُشَلِيمَ» (2صم15: 32-37).
تركنا داود في عددنا السابق صاعدًا في مصعد جبل الزيتون، وهناك أُخْبِرَ وقيل له: «إِنَّ أَخِيتُوفَلَ بَيْنَ الْفَاتِنِينَ مَعَ أَبْشَالُومَ». ولم تكن الفرصة سانحة لداود ليقضي وقتًا طويلاً في الصلاة لله، لكنه سكب ذوب قلبه في صلاة قصيرة عميقة: «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ» (2صم15: 31). ولقد استُجيبت هذه الصلاة سريعًا؛ فما أن وصل داود إلى قمة جبل الزيتون، حيث سَجَدَ لله «إِذَا بِحُوشَايَ الأَرْكِيِّ قَدْ لَقِيَهُ مُمَزَّقَ الثَّوْبِ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ»؛ علامة الحزن الشديد (2صم15: 32).
كان ”حُوشَاي الأَرْكِيّ“ صديقًا ومُشيرًا لداود، وموضع ثقته، حتى أُطلقَ عليه وصف «صَاحِبَ الْمَلِكِ» (2صم15: 37؛ 1أخ27: 33). وكان هو الرجل الذي سيستخدمه الرب في إبْطاَل مشورة أَخِيتُوفَلَ الصَّالِحَةِ ليُنزِلَ الشَّرَّ بِأَبْشَالُومَ (2صم15: 16: 15-17: 14). وكان ”حُوشَاي الأَرْكِيّ“ مشهورًا بحكمته ورجاحة عقلة ومشورته الصالحة، بدليل استدعاء أبشالوم له ليستمع إلى رأيه ولنصيحته (2صم15: 32-37؛ 16: 15-17: 14).
كان ”حُوشَاي“ على أتم الاستعداد لمصاحبة داود أينما ذهب، ولكن داود غيَّر خطة ”حُوشَاي“، فقد طلب منه أن يرجع إلى أورشليم، وأن يتظاهر بصداقته لأبشالوم، ثم يُحاول أن يُبطل مشورة أخيتوفل، وأن يُرسل له أخبار خطط أبشالوم، قائلاً له: «كُلُّ مَا تَسْمَعُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَأَخْبِرْ بِهِ صَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ. هُوَذَا هُنَاكَ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا أَخِيمَعَصُ لِصَادُوقَ وَيُونَاثَانُ لأَبِيَاثَارَ. فَتُرْسِلُونَ عَلَى أَيْدِيهِمَا إِلَيَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَسْمَعُونَهَا» (2صم: 15: 35، 36).
وهكذا أطاع ”حُوشَاي الأَرْكِيّ“، وعاد إلى أورشليم في نفس التوقيت الذي دخل فيه أبشالوم إلى المدينة(ع37)، ونجح في اكتساب ثقة أبشالوم، وجعله يتبع مشورته ويهمل مشورة أخيتوفل.
ولنا بعض الدروس الأدبية من مشهد قمة جبل الزيتون:
الدرس الأول: ليس الكل مدعوين لخدمة واحدة: فإتَّاي الجَتِّيِّ كان ينبغي أن يتبع داود ليُشارك في قيادة ثُلث الجيش (2صم18: 2)، وأما صديقه ”حُوشَاي“ فقد كان عليه أن يترك داود ليذهب إلى أورشليم – مخاطرًا بنفسه – ليُنجز مهمة دقيقة وُكلت إليه لإبطال مشورة أخيتوفل. وحُوشَاي لم يتردد، وأظهر ولاءه لمن يُحبه، وعاد إلى أورشليم، وعن طريقه أجاب الرب طلبة داود: «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ». لقد اقتنع أبشالوم بمشورة حُوشَاي التي بها انتصر داود، وعاد إلى أورشليم عزيز الجانب.
وكيفما كنا نُفضل، فيجب أن نكون دائمًا في المكان الذي يريدنا المسيح أن نكون فيه. وعندما يُرسلنا الرب في وسط الأعداء، فلنذهب بلا خوف. وكل مَن افتداه الرب، هو عضو في جسد المسيح. والجسد واحد، لكنه يتكوَّن من أعضاء كثيرة، لها وظائف مختلفة ومزوَّدة بتشكيلة منوَّعة من العطايا والمواهب (رو12: 5-8)، وليس لأحد أن يختار الخدمة التي يرغبها، بل «قَدْ وَضَعَ اللهُ الأَعْضَاءَ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْجَسَدِ، كَمَا أَرَادَ» (1كو12: 18). على أن هناك ثلاثة أخطار تهدد أعضاء الجسد:
الخطر الأول: والأكثر شيوعًا هو عدم تمييز الخدمة التي يُناط بها العضو، وعدم الاهتمام بحمل أعبائها. هذا هو مرض عدم المُبالاة بمصالح كنيسة الله وعدم التدرب، سواء على إدراك أية مواهب ائتمنا الرب عليها، أو على الجدِّ، نحو ما هو أفضل بين المواهب الحُسنى. ويا للخسارة!!
الخطر الثاني: الحسد الذي يجعلنا نُقلل من قيمة الخدمة التي قُسمت لنا ونطمع في خدمة قُسمت لآخرين (1كو12: 14-17). آه لو علم الأخ صاحب الخدمة البسيطة التي تبدو له كأنها قليلة الأهمية، أن صاحب الخدمة البارزة لا يستطيع أن يستغني عن تلك الخدمة البسيطة، بل «هِيَ ضَرُورِيَّةٌ» (1كو12: 22)، لارتاح ولخدم راضيًا.
والخطر الثالث: الانتفاخ الذي يجعلنا نتفاخر بالموهبة التي أُعطيناها، ونظن أننا بها نستغني عن خدمة الآخرين (1كو12: 21-23). فهل نسينا التحريض «لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟» (1كو4: 7)؛ إن ما لدى المؤمن ليس من عندياته، بل أخذه من الرب، فلا فضل له، ولا سبب للافتخار.
الدرس الثاني: الأحزان لا تعوق سجودنا، والصعوبات لا تعوق عبادتنا: فبدون انتظار لما سيعمله الرب «لَمَّا وَصَلَ دَاوُدُ إِلَى الْقِمَّةِ ... سَجَدَ للهِ» (2صم15: 32). ويا لروعة الإيمان الذي يطرح الخوف تمامًا، ويشكر الله سلفًا لأجل الاستجابة المؤكدة التي سيتلقاها لمجد الرب (مز3: 7، 8). وكم هو جميل السجود الذي يُقدَّم لله في مواجهة الأعداء (مز23: 5).
والسجود في معناه الصحيح هو أن ننسى ذواتنا واحتياجاتنا (الصلاة)، والبركات التي صارت لنا (الشكر)، ونتحوَّل إلى الله نفسه، لنتأمل في صفاته وسجاياه، وجمال نعمته، وعظمة كل ما هو عليه من سمو، وما هو بالنسبة لنا كما هو مُعلَن في الرب يسوع المسيح. وإذ ننقاد بالروح القدس، ونسمو فوق ذواتنا، ونتأمل في كل سجاياه المتنوعة وأمجاده المختلفة، ونستعرض قداسته وعظمته، وجلاله ومحبته، ورحمته ونعمته، لا يسعنا إلا أن تلتهب قلوبنا فننحني عند قدميه، مُقدِّمين له - في ربنا يسوع المسيح - تعبُّد وولاء قلوبنا، وهو ما يُفرح ويُشبع قلبه «لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ» (يو4: 23).
ويجب أن يُقدَّم السجود الحقيقي في وادي الاتضاع والذل، كما في قمم جبال الرفعة والمجد. كما أن السجود الحقيقي لا يُحيَّز بمكان محدد، بل يمكن أن يُقدَّم في أي مكان. كان داود مطرودًا من أورشليم، مُبعدًا عن خيمة الاجتماع، وعن بيت الرب وهيكل قدسه، إلا أن الوصول لله ظلَّ مُمكنًا، فكان مُتاح له أن يسجد للرب على قمة الجبل. فكم بالأولى يكون الأمر ميسورًا لنا نحن أيضًا، أينما كنا (يو4: 21-24).
في وَسَطِ الْخَوفِ العظيمْ
نَذكرُ فَضْلَكَ القديمْ
نُهدي لك السُّجودْ
لأنهُ يَعودْ
الدرس الثالث: «اللهُ صَانِعِي، مُؤْتِي الأَغَانِيِّ فِي اللَّيْلِ» (أي35: 10): كان الله حالاً حول عبده داود أثناء ظروفه المريرة، وعندما كانت الجلدات تمزق ظهره كان البلسان يُسكب على الجروح الدامية. وكان صوت الرب العذب يهمس في أذنيه، ويده الرحيمة تُمسك بيديه برقة وعطف وإشفاق، وفي كل الطريق كان يتلقى تأكيدًا من الرب برحمته. كل هذا دعاه للتغني ببعض من أعذب مزاميره التي من ضمنها مزمور3؛ 4؛ 41؛ 55؛ 61؛ 62؛ 63؛ 109؛ 143. وتدفَّقت الترانيم والتسابيح والمزامير والأغاني الجديدة، وإذا بِلَيِلِ الأحزان يغدو بَرَكةً عظيمة!
فقط أود أن أُشير بصفة خاصة إلى أن المزمورين 3، 4 مترابطان، كلاهما ينتمي إلى الأزمة عينها في حياة داود، والتي يُشير إليها عنوان المزمور الثالث : «مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ حِينَمَا هَرَبَ مِنْ وَجْهِ أَبْشَالُومَ ابْنِهِ». ومن المرجح أن المزمور الرابع ترنم به – قبل أن ينام - في ليلته الأولى على قمة جبل الزيتون، فكان بمثابة ”تسبحة مسائية“ يقول فيها: «بِسَلاَمَةٍ أَضْطَجِعُ بَلْ أَيْضًا أَنَامُ، لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ مُنْفَرِدًا فِي طُمَأْنِينَةٍ تُسَكِّنُنِي» (مز4: 8). بينما نرى في المزمور الثالث ”تسبحة صباحية“، فبعد ليلة قضاها في وسط الخطر، كتب مُنشدًا: «أَنَا اضْطَجَعْتُ وَنِمْتُ. اسْتَيْقَظْتُ لأَنَّ الرَّبَّ يَعْضُدُنِي» (مز3: 5). لقد نام مطمئنًا في سلام متمتعًا بحماية الذي لا ينعس ولا ينام «لاَ يَنْعَسُ حَافِظُكَ. إِنَّهُ لاَ يَنْعَسُ وَلاَ يَنَامُ ... الرَّبُّ حَافِظُكَ» (مز121: 3-4). ويا للسلام وسط الأخطار! ويا للطمأنينة وسط الأشرار!
وهكذا أيضًا أولاد الله: فغالبًا ما يجدون فرحًا جديدًا في ليل أحزانهم، ونعمةً غير متوقَّعة في زمن احتياجهم. وكثيرًا ما أحرزنا نصرة عجيبة في ظرف كنا فيه نخشى الهزيمة، وتغنينا بأعذب الأغاني في يوم شرير ألزمنا شره بالاستناد على الله وحده. وحتى لو اكتنف الظلام كُلَّ ما حولنا، فبنعمة الله نجد أنه ما يزال في وسعنا أن نبتهج بإله خلاصنا (حب3: 17-19)، لأنه هو يكون لنا «مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْنًا فِي الضِّيقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا» (مز46: 1)، وأيضًا: «بِالنَّهَارِ يُوصِي الرَّبُّ رَحْمَتَهُ، وَبِاللَّيْلِ تَسْبِيحُهُ عِنْدِي صَلاَةٌ لإِلَهِ حَيَاتِي» (مز42: 8).