ثانيًا: الخطية لها عقاب ... والزرع له حصاد ...
«وَجَرَى بَعْدَ ذَلِكَ ...» ... هذه الكلمات الثلاث الحافلة بالإنذارات، وردت مرتين في قصة داود (2صم13: 1؛ 15: 1)، وتأتي مؤشرًا لنهاية فترة لامعة نافعة من حياة داود، ومؤشرًا في آن على بداية طريق قادتها الإرادة الذاتية والخطية إلى الضربات والتأديبات والآلام، وتمهيدًا لكارثة مؤثرة مليئة بالتحذيرات للقديسين اليوم.
ولكن ما هو «ذَلِكَ» الذي جرى بعده ما جرى في 2صموئيل 13، 14؟! إنه خطية داود العظمى في ”قَضِيَّةِ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ“ (2صم11، 12).
ففي 2صموئيل 11 نقرأ أن داود سمح لنفسه بفترة من التراخي والكسل، الأمر الذي لا يتناسب مع ملك إسرائيل، إذ أوكل ليُوآب أمر الحرب حول أسوار ”رِبَّة“، أما هو فقد لبث بلا عمل في أورشليم. وفي مساء يوم مشؤوم استيقظ الملك من قيلولته، وصعد ليتمشى على سطح بيته. وفي تلك الساعة؛ ساعة الراحة والكسل والخمول، جاءه الضيف – على حد تعبير ”ناثان النبي“؛ جاءته الفكرة العاطلة والشهوة الرديئة التي استقرت معه. ولإشباع جوع ذلك الضيف نزل إلى بيت رجل مسكين وأخذ نعجته الوحيدة، بينما كانت حظائره مكتظة بالغنم.
ولو كان داود ساهرًا مُصليًا متمسكًا بكلمة الرب وبمطالب مملكته، ولو كان قلبه مع شعبه الذي يحارب العدو، لما قيل عنه: «وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ» (2صم11: 2). آه لو كان ساهرًا لنجَّى نفسه من ضيقات لازمته حياته كلها، ولكان قد خلَّص بيته من السيف الذي قضى على أربعة من أولاده. ولو عرفنا قسوة التجربة لسهرنا وصلينا، فالمساء ليس وقت الكسل والشهوات، إنما وقت خدمة المغنيين في بيت الرب «لأَنَّهُ نَهَارًا وَلَيْلاً عَلَيْهِمِ الْعَمَلُ» (1أخ9: 33). وعبيد الرب يُباركون الرب «فِي بَيْتِ الرَّبِّ بِاللَّيَالِي» (مز134: 1). وهو وقت تقدمة المحرقة المسائية (خر29: 39). وكيف غاب عن داود كلام الناموس بأن يكون للسطح حائط يمنع السقوط (تث22: 8). ولم تكن أسوار التعفف وضبط النفس مرتفعة وعالية لتحفظه في أمان، فجاءه الضيف، ولم يرفضه «فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ».
أَ لم يتعلَّم من يوسف الذي رفض هذا الضيف بكل إغراءاته، إذ كان دائمًا أمام الله، فصرخ: «كَيْفَ أَصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟» (تك39: 9). أَ لم يتعلَّم من أيوب الذي قال: «عَهْدًا قَطَعْتُ لِعَيْنَيَّ، فَكَيْفَ أَتَطَلَّعُ فِي عَذْرَاءَ!» (أي31: 1). وهل يمكن لداود أن يُبرر سقطته لأنه رأى امرأة عارية؟! فبالإضافة إلى أنه كان قد تجاوز الخمسين من عمره، فإنه كانت له نساء كثيرات. فلنحذر من تبرير سقطاتنا بحجة الخلاعة والعري من حولنا!
ونحن لا نميل إلى التخفيف من خطية داود بالتأمل في اشتراك ”بَثْشَبَع“ في الجريمة بمطلق حريتها. لقد كشفت جسدها لغير زوجها، فساهمت بعريها في إثارة الشهوات! وحرصت على عدم الاضطجاع مع داود إلا بعد أن تتطهر من طمثها! (2صم11: 4). واستهانت بعهد الزوجية فخانت زوجها في غيابه، وهو منشغل بخدمة مطاليب شعب الله، مما يُعظّم خطيتها. ولكن نلاحظ أن رواية الكتاب المقدس تُلقي كل مسؤولية هذه الخطية على داود الملك وحده.
وبعد أيام أتت إلى داود رسالة من شريكته في الخطية بأن النتائج لا يمكن إخفاؤها، وأنها ”حُبْلَى“ (2صم11: 5). وناموس موسى يقضي بموت الطرفين في خطية الزنا (لا20: 10؛ تث22: 22). إذًا كان لا بد من اتخاذ اجراءات سريعة لإخفاء الجريمة. يجب أن يعود ”أُورِيَّا“ إلى بيته، وعاد فعلاً، ولكن عودته لم يكن فيها علاج للأمر، فإنه رفض دخول بيته، ولو أن الملك أرسل إليه في بيته طعامًا شهيًا من مائدته الخاصة، في الليلة الأولى. وفي الليلة الثانية أسكره، ولكن روحة النبيلة المُكرَّسة لم تسمح له بممارسة حقه الشرعي، ولا حتى بمجرد تحية زوجته، بينما كانت الحرب الشديدة قائمة. وكم كان هذا توبيخًا صامتًا لداود لو كان في وعيه الروحي!
ولم يكن هناك بديل من موت ”أُورِيَّا“، فإذا وُلد طفل لا يتبقى هنالك مجال بعد ”لأُورِيَّا“ ليتبرأ منه. وحسب أوامر داود الملك، وُضع ”أُورِيَّا“ في مقدمة المعركة الحامية ليلقى حتفه. ومن ساحة القتال أُرسلت رسالة إلى الملك تحمل إليه البشرى بموت ”أُورِيَّا“، «فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ أُورِيَّا ... نَدَبَتْ بَعْلَهَا ... وَلَمَّا مَضَتِ الْمَنَاحَةُ أَرْسَلَ دَاوُدُ وَضَمَّهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَصَارَتْ لَهُ امْرَأَةً» (2صم11: 26، 27). وتوَّهم داود أنه بذلك قد استراح وأمن كل العواقب، فالطفل سيُولد تحت ستار زيجة شرعية. ولكنها يا لها من كلمة مرعبة نغصت على داود حياته، وأفسدت كل ترتيباته! «وَأَمَّا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ» (2صم11: 27). فلم تُطوى هذه الحادثة في زوايا النسيان، بل كان لا بد لداود أن يسمع عنها ثانية، ولا بد للأجيال أن تطلع على تفاصيلها، ليتبرهن مرة أخرى أن الخطية لا بد لها من عقاب، وأن الزرع لا بد يتلوه حصاد!
لقد قال الله في الناموس: «لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ .... لاَ تَزْنِ ... لاَ تَقْتُلْ» (خر20: 17، 13، 14). ولقد تعدَّى داود هذه الوصايا الثلاث، الواحدة بعد الأخرى، ولم يشعر بندم ولا تاب. لقد أعطاه الرب زمانًا ليتوب عن زناه فلم يتب. والله لا يأخذ بوجه إنسان «فَأَرْسَلَ الرَّبُّ نَاثَانَ إِلَى دَاوُدَ» (2صم12: 19)، فجاء إليه ليؤكد له بصفة خاصة صلاح الله الذي لا يُحد في إنقاذه من يد شاول ومسحه ملكًا على إسرائيل (2صم12: 7، 8). وعندئذٍ ازدادت خطيته قبحًا وشناعة في عينيه. ثم يسمع داود كلمات القضاء الرهيبة: «احْتَقَرْتَ كَلاَمَ الرَّبِّ لِتَعْمَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيْهِ ... قَتَلْتَ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ بِالسَّيْفِ ... أَخَذْتَ امْرَأَتَهُ ... لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْتَكَ ... أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ ... آخُذُ نِسَاءَكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقَرِيبِكَ، فَيَضْطَجِعُ مَعَ نِسَائِكَ ... أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هَذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ ... جَعَلْتَ بِهَذَا الأَمْرِ أَعْدَاءَ الرَّبِّ يَشْمَتُونَ، فَالاِبْنُ الْمَوْلُودُ لَكَ يَمُوتُ» (2صم12: 9-14).
يا لعظم الثمن الذي يجب أن يُدفع نظير البرهة الوجيزة التي قُضيت في الاستمتاع بالخطية! نعم، الخطية لها عقاب، والزرع له حصاد! الخطية يجب أن ينطبق عليها قانون الأسباب والنتائج، وتتلوها سلسلة من الآلام المريرة المتصلة الحلقات:
لقد مرض طفل ”بَثْشَبَع“ مرضًا شديدًا، وفي اليوم السابع مات الطفل.
«وَجَرَى بَعْدَ ذَلِكَ» (2صم13: 1) ... ماذا جرى؟! لقد غدر أمنون؛ أحد أولاده بأخته ثامار (ابنة داود)، كما غدر هو بامرأة ”أُورِيَّا“، ورأى داود شرور نفسه تعود إلى الظهور في ابنه. ورأى خطيته الجامحة في خطية أمنون. وجريمته التي لوث بها يديه بالدماء، رآها في قتل أَبْشَالُوم لأمنون بعد ذلك بسنتين (2صم13).
أما أقسى التجارب التي عاناها وأخطرها، فكانت ثورة أَبْشَالُوم وتمرده، التي نحن بصدد التأمل فيها. آه، كان على داود أن يواجه نتائج فعلته، لأن الخطية لها عقاب، والزرع له حصاد. ولنستمع لكلمات التحذير: «لاَ تَضِلُّوا! اللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (غل6: 7، 8). والحصاد هو من نفس جنس البذار. فيعقوب عندما كذب على أبيه المُسن لكي يحصل بالمكر على البركة، كذب عليه أولاده فيما بعد عندما أرسلوا إليه قميص يوسف المغموس في دم تيس من المعزى. وعندما ادعى يعقوب أنه عيسو، معتمدًا في هذا على عدم قدرة أبيه على رؤيته إذ شاخ وكلّت عيناه عن النظر، فإن خاله لابان غشه فيما بعد عندما أعطاه في المساء ليئة ابنته زوجة له بدلاً من راحيل.
وليس فقط أن الحصاد من جنس البذار، بل إن ما يحصده الإنسان أكثر بكثير مما يزرعه. من البذرة الواحدة يأتي ثمر كثير. وما أزرعه في يوم واحد يتطلب حصاده عمل عدة رجال في أيام كثيرة. والشعب القديم في البرية كان عليه أن يحصد ما زرعه أضعافًا مضاعفة؛ أربعون يومًا من عدم الإيمان عند تجسس الأرض بواسطة المُرسَلين من الشعب، حصدها الشعب أربعين سنة في القفر بسبب تذمره على الرب «وَبَنُوكُمْ يَكُونُونَ رُعَاةً فِي القَفْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ... كَعَدَدِ الأَيَّامِ التِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا الأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ. تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَتَعْرِفُونَ ابْتِعَادِي» (عد14: 33، 34).
إن الله - في حكمته اللا نهائية – يزن مقدار مسؤولية كل واحد. وكلما سمت حياة المؤمن عظم الثمن الذي يدفعه للبرهة الوجيزة التي يقضيها في الاستمتاع بالخطية. وإن خطية أمنون ودمه المسفوك، وأحزان ثامار وثوبها المُلوَّن المُمزَّق (2صم13: 19، 29)؛ الدم والنجاسة في بيت داود، ثم ثورة أَبْشَالُوم وتمرده، هذه كلها كانت الثمرات الناضجة التي حصدها داود نتيجة ما فعله في ”قَضِيَّةِ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ“.
أيها الأحباء: حذار فالخطية لها عقاب ... والزرع له حصاد!
(يتبع)