عدد رقم 4 لسنة 2010
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
إذا عرف السبب 4  

هذه المرة سنتعرف على أسباب سقوط قاضٍ متميز لشعب الله «قَضَى لإِسْرَائِيلَ عِشْرِينَ سَنَةً»، وليس فقط كان له من القوة ما جعل اسمه يقترن على لسان الكل بكلمة “الجبار” بل أيضًا امتاز بأن «رُوحُ الرَّبِّ يُحَرِّكُهُ».  ومع ذلك فقد سقط!!  اقرأ معي قصته في قضاة 14-16، وتعال لنستكمل معًا تعلُّم الدروس.

مدينة بلا سور
ما رأيك في مدينة منهدمة بلا سور، سيَّما في زمن كان السور هو الحماية الأساسية للمدن؟  هل تتوقع صمود مثل هذه المدينة أمام هجمات العدو؟  يقول الحكيم في أمثال25: 28 «مَدِينَةٌ مُنْهَدِمَةٌ بِلاَ سُورٍ، الرَّجُلُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى رُوحِهِ (الرجل المفتقر لضبط النفس – حسب الترجمة التفسيرية)».  
هكذا كان شمشون!  لم يعرف لضبط النفس معنًى!!
 
فعندما أبدى له أبواه أن ارتباطه بأممية لا يناسب واحدًا من شعب الله، لم يلتفت إلى ناموس الرب بل قال: «إِيَّاهَا خُذْ لِي لأَنَّهَا حَسُنَتْ فِي عَيْنَيَّ»، ومرة أخرى عندما «رَأَى هُنَاكَ امْرَأَةً زَانِيَةً (بمنتهى البساطة!!!) فَدَخَلَ إِلَيْهَا»!!  آه من عينيه!  وآه على مصيرهما!  
لقد قادته الشهوة غير الملجَّمة والعواطف غير المحكومة، إلى ما لم يكن يتوقع وإلى حيث ما كان يحب.  وانجذاباتنا العاطفية والغريزية بكل أنواعها تحتاج أن نواجهها دائمًا بمبادئ كلمة الله.  فإن تمكَّنت الكلمة الكريمة من قلوبنا وتحكمت في طريقة تفكيرنا، لضبطت أنفسنا تمامًا، ولأمكننا أن نفعل ما يليق، ونتجنب ما يضر.

ثم إن مشاعر شمشون كانت هي، كما يقولون بالعامية: “إيده اللي بتوجعه”.  فمرة أمسكته منها امرأته في تمنة في أمر اللغز الذي تحدى به شعبها «فَبَكَتِ ... وَقَالَتْ: إِنَّمَا كَرِهْتَنِي وَلاَ تُحِبُّنِي .. (وماذا كانت النتيجة:) أَخْبَرَهَا لأَنَّهَا ضَايَقَتْهُ».  والمرة الأسوأ كانت عندما استخدمت دليلة هذا السلاح في أمر أخطر، بل قل هو “الأخطر”، وهو سر قوته، «فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ أُحِبُّكِ (انظر من أين أمسكته)، وَقَلْبُكَ لَيْسَ مَعِي؟... وَلَمَّا كَانَتْ تُضَايِقُهُ (لأنها تضغط على مشاعره التي يرى أنها حب!) بِكَلاَمِهَا كُلَّ يَوْمٍ وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ، ضَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى الْمَوْتِ (انظر إلى أي حد كانت عواطفه تتحكم فيه، وماذا كانت النتيجة:) فَكَشَفَ لَهَا كُلَّ قَلْبِهِ، وَقَالَ لَهَا (سر قوته)» والنتيجة نعرفها جميعًا، بل قل هي ما بقي في أذهاننا من قصة شمشون المؤسفة!!

إن رقة المشاعر أمر لا غبار عليه، بل هو ممدوح من الله، والعهد الجديد ممتلئ بتحريضات على ذلك، على أن تكون المشاعر مقدَّسة، منبعها الله ومثالها ربنا الكريم.  لكن الأمر هنا ليس “رقة” مشاعر، بل إن المشاعر “تحكم” فتضع جانبًا الروح (التي هي من الله وبها نُميِّز أموره ونفهم بطريقته)، وتلغي العقل (وهو واحد من أروع نعم الله)، فيصير الواحد من الذين نعتهم «نَفْسَانِيُّونَ لاَ رُوحَ لَهُمْ» (يه19).
إن قطار حياة الإنسان السليمة يجب أن تكون القاطرة فيه هي الروح بإدراكها الواعي عن الله وأموره، يتبعها النفس بمشاعرها مقنَّنة ومضبوطة على كلمة الله، ويليهما الجسد بما كان مشروعًا من احتياجاته وبلا إفراط.

غلام بلا فهم
يقول الحكيم: «بَاطِلاً تُنْصَبُ الشَّبَكَةُ فِي عَيْنَيْ كُلِّ ذِي جَنَاحٍ» (أمثال1: 17)، فمن البديهي أن يراها، وبقليل من تفكير يتجنبها.  لكن ماذا تقول عن هذا النسر الذي اصطادته الشبكة؟! 

افتقر شمشون إلى الحكمة والمنطق السليم في التفكير.  فمن الغريب أن تمر به الأحداث وتُحاك ضده المؤامرات، وهو مستمر في انحداره غير عابئٍ بشيء دون أن يقيم وزنًا لما يحدث من حوله!!  لقد مرت مقابلته للأسد، وهو ذاهب للاقتران بالتمنية، مرور الكرام واكتفى منها بالعسل والأحجية!  ولنعذره (جدلاً) أنه اعتبره من الأقدار أن يحدث ذلك.  فماذا بعد أن تبين له سوء نية الأنسباء الذين ألقى نفسه في أحضانهم؟  إنه لم يكن تصرف بيت حميه فقط، بل شعب بأكمله؛ أما كان ينبغي أن يقرِّر الابتعاد عنهم واتقاء شرهم المضمر له؟!

ثم دعنا نتفحص ما حدث عند دليلة، تلك المرتزقة التي قيل لها «تَمَلَّقِيهِ... فَنُعْطِيَكِ كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفًا وَمِئَةَ شَاقِلِ فِضَّةٍ»، لنحكم على طريقة تفكيره.  لقد سألته سؤال من شقين، قد يمر الجزء الأول من سؤالها دون التفات: «أَخْبِرْنِي بِمَاذَا قُوَّتُكَ الْعَظِيمَةُ؟»، لكن أي عاقل يمرِّر الثاني: «وَبِمَاذَا تُوثَقُ لإِذْلاَلِكَ؟»!!  شمشون، إنها تريد إذلالك؛ أفلا تفهم؟  ألا تهرب بحياتك لتنجو؟  ألا تعرف أن «اَلذَّكِيُّ يُبْصِرُ الشَّرَّ فَيَتَوَارَى، وَالْحَمْقَى يَعْبُرُونَ فَيُعَاقَبُونَ» (أم 22: 3)؟

وسأستمر (جدلاً أيضًا) محاولاً أن ألتمس له عذرًا أنه اعتقدها تمزح مثلاً!!  فماذا بعد أن تحقق له بالدليل القاطع أنه ضحية مؤامرة خسيسة إذ وجد الفلسطينيين عليه بالفعل؟!
لعلك الآن توافقني أنه لا عذر له في كل ما سبق، لقد تم فيه القول «أَغْوَتْهُ بِكَثْرَةِ فُنُونِهَا، بِمَلْثِ (تملق) شَفَتَيْهَا طَوَّحَتْهُ.  ذَهَبَ وَرَاءَهَا لِوَقْتِهِ، كَثَوْرٍ يَذْهَبُ إِلَى الذَّبْحِ، أَوْ كَالْغَبِيِّ إِلَى قَيْدِ الْقِصَاصِ، حَتَّى يَشُقَّ سَهْمٌ كَبِدَهُ. كَطَيْرٍ يُسْرِعُ إِلَى الْفَخِّ وَلاَ يَدْرِي أَنَّهُ لِنَفْسِهِ» (أم7: 21-23).  وإن أردت له وصفًا فاقرأ أمثال 6: 32؛ 7: 7؛ 9: 4؛
بكل أسف، عاش شمشون وكأن شعار حياته أنه “لا يعلم”، “لا يفهم“ لا “يعي”، لا “يميز”:  
فهو لم يعلم أن كلمة الله هي نبراسه الوحيد الذي إذا تركه سار في الظلام؛ فأغفل مبادئها وضل،
ولم يعلم من هو عدوه ومن صديقه؛ فعايش، وتوقع الخير مِن، ووثق في، مَنْ حَقَّ فيهم القول «إِذَا حَسَّنَ صَوْتَهُ فَلاَ تَأْتَمِنْهُ، لأَنَّ فِي قَلْبِهِ سَبْعَ رَجَاسَاتٍ» (أم26: 25).

ولم يعلم معاملات الله؛ فما استوقفته نصيحة ولا حرّكه حدث ليراجع نفسه،
ولم يعلم أن الفخ هو له وأن هناك خطر، فأسرع إلى نهايته الأليمة بتفاصيبها المروعة،
وفي النهاية لم يعلم أن الرب قد فارقه!!  
آهٍ!  نرفعها عليه مرثاة، وعلى كل سائر على دربه!
كم مرة أورطنا أنفسنا لأننا تصرفنا برعونة شمشون وحماقة نابال أو ما أشبههما، وكم من خطايا ارتكبناها لأننا لم نفكِّر بعقل موجَّه بكلمة الله؟  وكل منا بقليل من الصدق مع النفس يمكنه أن يسترجع من تاريخه ما يثبت ذلك.
ألا نسمع قول الكتاب: «شَعْبٌ لاَ يَعْقِلُ يُصْرَعُ (الشعب غير المتعقل يلحق به الدمار - الترجمة التفسيرية)» (هو4: 14)؛ لنحذر لأنفسنا!  ولنطلب حكمة من الذي يعطيها بسخاء (يع1: 5؛ انظر 2أخ1: 7-12) فلن يبخل بها علينا لنعيش في أمان سعداء.

تنازلات بلا حدود
من اللافت للنظر أن شمشون، في البداية، قدَّم تنازلاً عن كلمة الله ومبادئها، يبدو للحكم السطحي على الأمور بسيطًا؛ فكل ما أراده هو أن “يتزوج” من أممية.  وكأني أسمع واحدًا يقول: “وإيه المشكلة؟  يا أخي.. ما هو جواز برضه”.  نعم هو زواج، فيه عروس وعريس، وفيه حفل كبير «وَلِيمَةً، لأَنَّهُ هكَذَا كَانَ يَفْعَلُ الْفِتْيَانُ»؛ لكنه مُنافٍ لكلمة الله ولانفصال شعبه، ولمبادئ كلمته!

لكني أعود فأقول أن ما بدأ بتنازل بسيط (إذا سلَّمنا بالقول) قاده إلى ما هو أفظع، إلى الحضيض الأسفل. 

فالمرة الأولى ذهب إلى تمنة ليتزوج امرأة، لكنه في المرة التالية ذهب إلى امرأة زانية في غزة!! 

وفي غزة رآها عرضًا، لكن التنازلات زادت فعاشر زانية أخرى في سورق هي دليلة وأصبحت هي (قبل بيتها) عنوان سكنه!! 

فتمنة كان لا بد أن تقود إلى غزة ومنها إلى سورق، ومن هناك إلى النهاية المرعبة!!
إنك ما أن تضع قدمك في طريق التنازل عن الحق حتى تجد نفسك على منحدر زلق “مرشوش بالصابون”!!  فإذ بك تقدِّم تنازلاً بعد الآخر، والحال يزداد تدهورًا أسرع مما يمكنك أن تلاحق، ولا يمكنك أن تحسب أين ستقف قدماك، ونادرًا ما تقف قبل السفح!  
لذا حري بنا الاستماع للقول «اِقْتَنِ الْحَقَّ وَلاَ تَبِعْهُ، وَ(كذلك) الْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ وَالْفَهْمَ» (أم23: 23).  احذر من التنازلات في صورة استسهال الأمور، أو محاولات توفيق الأوضاع، أو التجربة، أو التسلية.  وقبل كل خطوة “احسبها صح”.

من أجل نفسه
إذ نأتي إلى المشهد الختامي في قصة شمشون، تعال نقرأ ونتأمل ما حدث «فَ دَعَا شَمْشُونُ الرَّبَّ» أخيرًا يا شمشون، ”وَقَالَ: يَا سَيِّدِي الرَّبَّ، اذْكُرْنِي وَشَدِّدْنِي يَا اَللهُ» وما خاب من إليه استند.  لكنه يستدرك «هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ».  لماذا، هل فرغت قدرة الله؟  أم نضبت رحمته وجفت نعمته وذبلت محبته؟  حاشا!  بل المأساة تكمن في باقي العبارة: «فَأَنْتَقِمَ (أنا) نَقْمَةً وَاحِدَةً عَنْ عَيْنَيَّ (أنا) مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ».

هكذا كان شمشون دائمًا شخصًا منكفئًا على ذاته لا يفكِّر إلا في نفسه، وما يعنيه في شيء لا من حوله، ولا حتى الله نفسه!!  ويمكننا تتبع ذلك في كل القصة.
«خُذَاهَا لِيَ امْرَأَةً»، وما دامت “لي” فلا يهمني لا ناموسكم ولا أي شيء آخر. 

ثم إنه لما اختبر إنقاذ الرب من الأسد وإخراجه الحلاوة من الجافي، كان ينبغي أن يعيد المجد في ذلك لصاحبه، لكننا عوضًا عن ذلك نراه يستخدمه لحساب نفسه في أمر الأحجية حتى «تُعْطُونِي أَنْتُمْ ثَلاَثِينَ قَمِيصًا وَثَلاَثِينَ حُلَّةَ ثِيَابٍ»!!  رغباته كانت دائمًا ملء المشهد ولا ينافسها آخر.  
ثم اسمعه يرد على من جاوبوا بالحيلة على الأحجية «لَوْ لَمْ تَحْرُثُوا عَلَى عِجْلَتِي، لَمَا وَجَدْتُمْ أُحْجِيَّتِي»، مرة أخرى ياء الملكية هي المحور. 

ثم تكراره للقول «وَأَصِيرُ كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ» يظهر اهتمامه الشديد بنفسه.  فمع أنه بالفعل، كنذير للرب، وكممنوح قوة خاصة، هو لم يكن كواحد من الناس؛ لكنه كان دائمًا يستخدمها خارج قرينتها الصحيحة، فهو لم يقلها في مشهد انتذار للرب أو انفصال عن الشر أو صنع خلاص لشعب الله، بل كرَّرها استخفافًا وتهكمًا وخداعًا في بيت زانية!!

وهكذا نصل إلى النهاية؛ فلا نراه يسرع إلى التوبة الحقيقية (كداود في يومه) بل اهتمامه بنفسه قاده ليس إلا إلى طلب النقمة، وقد كان، ومات بينهم: نذير الرب وسط أعداء الرب!!  ويا لها من نهاية.
* * *
ليتنا نتعلم ضبط النفس في كل شيء وليكن لنا سلطان على أرواحنا، ولنطلب من الرب حكمة لنتصرف بها، ولنكف عن تقديم تنازلات عن الحق، وعن اهتمامنا البالغ بذواتنا
                                                                                                             


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com