تأملات في سفر النشيد(3)
والنشيد في الإنجيل (1)
مبارك النعمة: يمتاز سفر النشيد بإعلان عواطف العريس، لعروسه، وعواطف العروس له. ويُفتَتَح السفر بأشواق العروس للأعماق، مُدركة، أن هذه رغبة حبيبها أيضًا. وبلغة العشاق تتحدث عنه. وكل هذا وأكثر، نجده في الإنجيل. فالنشيد لم يخرج عن النص. فهيا يا مبارك الرب، لنُطْعَم على كنوز النعمة.
أولا: عواطف النشيد والإنجيل
(1) سفر العواطف: (ا) سفر النشيد؛ سفر العواطف الدافئة، لا يتجاوز قط حدود اللياقة اللائقة بالإنجيل. ولا يتجاوز أدق المقايس الإلهية للوحي. ومن الجميل أن نسمع الرسول بولس يعلن لنا عن خطبتنا: «خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ» (2كو2:11). والمسيح، له المجد، يلقب نفسه بالعريس: «هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟» (مر2: 19). (ب) والذهن المتجدد، يعاين الرب نفسه في السفر، ويُغمر بعواطفه. فسفر النشيد، في بدايته ونهايته، يرينا ذواتنا في حضن عريسنا السماوي «شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي» (2: 6؛ 8: 3).
كذلك فحق الإنجيل ليس وصايا جوفاء، أو وعودًا صماء. لكنه ينشئ تقوى (تي1: 3). وهذه تحيطنا بسلام عجيب، ورؤية لله، نتاج حفظ وصاياه «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي» (يو14: 21). وأما حافظو كلامه، فبالعواطف الغامرة لأقانيم اللاهوت الثلاثة متمتعون (يو14: 23) . وهذا ما لم تعرفه العروس. والإنجيل يذهب أبعد كثيرًا، فمن حقنا ليس الوجود فقط في حضن العريس، بل في عمق الشركة، يحل بالإيمان، في قلوبنا؛ بشخصه «لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ» (أف3: 17)، جاعلاً إياها مستودعًا للمحبة الإلهية.
مهما كانت القلوب البشرية عاطفية، وعطشى،
فالفيضان الإلهي أسمى وأقوى.
(2) العروس مدركة لمحبة عريسها: والعروس في هذا السفر، سمِعَت مرارًا محبة حبيبها لها. فمن بداية السفر وخلاله كله، يلقبها العريس؛ بحبيبته مرارًا كثيرة «لَقَدْ شَبَّهْتُكِ يَا حَبِيبَتِي بِفَرَسٍ فِي مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ»، «قُومِي يَا حَبِيبَتِي، يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ»، «هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي»، «اِفْتَحِي لِي يَا أُخْتِي، يَا حَبِيبَتِي». أما في نهاية السفر، فتتغنى هي بمحبة عريسها الفائقة المعرفة «الْمَحَبَّةَ (محبة العريس) قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ،الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَةِ. لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ». (نش1: 9؛ 2: 10، 13؛ 4: 1، 7؛ 6: 4؛ 5: 2؛ 6: 10؛ 8: 6).
أليست هذه لغة الإنجيل؟ ومشاعر الرسول بولس دائمًا (أ) «ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غل2: 20). ولكل المفديين يقول: «اسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا» (أف5: 2). وهكذا عاش بولس، دائم التغني بمحبة المسيح. (ب) وأكثر من هذا متغنيًا بشدتها وقوتها العظيمة «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ» (رو8: 35). (ج) كما نجده مصليًا للقديسين ليدركوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ (أف3: 18، 19). التي عاش يتذوقها، بل عاش ليعرفها، ويعرف مصدرها؛ "لأعرفه..." (في3: 3).
والعروس لم تدرك محبة العريس فحسب، بل أدركت أيضًا أشواقه. فإليها اشتياقه «أَنَا لِحَبِيبِي، وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ» (نش7: 10). إنه يتوق إليها. وإليها حتمًا، سيأتي على جبال الأطياب (8: 14).
وهذا ما أعلنه يوحنا في إنجيله: «آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا» (يو14: 2، 3). وما أكده الرسول بولس في تسالونيكي: «لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ..... سَنُخْطَفُ جَمِيعًا... فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ ....، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ» (1تس4: 16، 17). وما أكده سفر الرؤيا: «أَنَا آتِي سَرِيعاً» (رؤ22: 7، 12، 20). فقلبه المشتاق لا يحتمل التأخير.
طوبى لقديس بمحبة المسيح مغمور، ولأشواقه إليه، مدرك.
(3) العروس تحب عريسها: وسفر النشيد لا يعلن لنا محبة العريس فحسب، بل أيضًا محبة العروس «تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ، وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي»، «إَسْنِدُونِي بِأَقْرَاصِ الزَّبِيبِ. أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ، فَإِنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا»، «أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ إِنْ وَجَدْتُنَّ حَبِيبِي أَنْ تُخْبِرْنَهُ بِأَنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا»(2: 3 ؛2: 5؛ 5: 8).
وهذا ما يؤكده بطرس في رسالته: "وإن كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون به، فتبتهجون، بفرح، لا ينطق به ومجيد" (1بط1: 8). والرسول يوحنا يؤكد أننا نحبه لأنه هو أحبنا أولاً (1يو4: 19). وكيف لا، والنفس في كلتا الحالتين؛ في النشيد والإنجيل، وجدت، مَن فيه، السداد لكل الإعواز.
محبتنا للمسيح هي اللحن
الذي تعزفه محبته، على أوتار قلوبنا النقية.
ثانيا: أشواق للبركة في النشيد والإنجيل
والعروس المدركة لمحبة عريسها لها، والمُحِبة له، تجتاحها رغبة عارمة في بداية السفر، للدخول للعمق. أو قل: لمعرفة عريسها المبارك، بشكل أعمق من ذي قبل «لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ» (1: 2). ورغبتها هذه، لشركة أعمق؛ بدأت بإدراك خطأها، يوم اهتمت بأمور كثيرة. وبالآخرين (خدمات) فصارت ناطورة الكروم «جَعَلُونِي نَاطُورَةَ الْكُرُومِ» (1: 6)، وأما كرمها الخاص؛ قلبها وحياتها الداخلية، فلم تنظره. فما كان لكرمها وقت لديها. وإذ نفضت عنها خطأها، ها هي تعلن عن أشواق لمستويات أعمق في الشركة الشخصية مع العريس «اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ» (1: 4). والعريس يجيب، عواطف كهذه فورًا «أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِكَ» (1: 4).
وهذا ما نراه في الإنجيل، عندما يستقر قلب المؤمن ببساطة على كفاية وفاعلية دم المسيح «وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يو1: 7). عادة ما يتبع هذا الحق، رغبة متلهفة، لترك مركز مرثا، وأخذ مكان مريم. متغذيًا، من يدي السيد، وهو عند قدميه، لا من يد آخر. ولهذا النوع من المؤمنين، كرس السيد أيامًا وأوقاتًا، خاصة؛ في أسبوعه الأخير، لزيارتها.
وينتهي السفر، والعروس ناطورة كرمها الخاص (8: 8). فهي في مكانها الصحيح. لقد تركت حالة مرثا المضطربة، لأجل أمور كثيرة، ووصلت لمكان مريم الجالسة عند قدميه. في شركة خاصة مثمرة معه (8: 12). والثمر الروحي، هو ما تحققه النفس، من خلال تدريبات النعمة، بقوة الشركة. وهذا ما حققته مريم، يوم طيّبت الرب، بالناردين، عاملة به "عملاً حسنًا" (مر14: 6). ويختم السفر، والعروس تتمنى الإقامة الدائمة في هذه المناطق؛ في الجنات (8: 13). وهكذا يسدل الوحي الستار، على مريم أخت لعازر، وهي عند قدميه، في جنتها، جالسة، يحيطها ناردين المسيح.
بمجرد إعلان القلب البشري أشواقه للأعماق،
يفتح الملك حجاله ويرسل لاستقباله.
ثالثا: لغة العروس وإدراكها؛
هي لغة الإنجيل ومفاهيمه
ذهن العروس الواعي: والعروس في سفر النشيد عارفة (1) أن عريسها في السماء؛ ممثلة في التلال والجبال. لكنها تعرف أيضًا، أنه هناك في موطنه الأصلي، وبيئته الإلهية؛ تمامًا كالظباء، وغُفِر الأيائل على الجبال المشعبة. (2) ومع هذا، فهي مدركة تمامًا، أن سروره ولذته، في الشركة معها. وهو يزورها، متطلعًا من الكوى، موصوصًا (مظهرًا ذاته لها) من الشبابيك (2: 9). (3) وهي عالمة أن عليها الخلاص من الثعالب الصغار، المفسدة للكروم (2: 15). ولكن حتى حراس الكروم، لا دخل لهم في علاقتها بعريسها «حَبِيبِي لِي وَأَنَا لَهُ. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ» (2: 16). (4) وإذ نامت العروس، وانقطعت شركتها، نجد العريس باحثُا عنها. طالبًا ودها، سائلا إياها أن تفتح له: «اِفْتَحِي لِي يَا أُخْتِي، يَا حَبِيبَتِي، يَا حَمَامَتِي، يَا كَامِلَتِي! لأَنَّ رَأْسِي امْتَلأَ مِنَ الطَّلِّ، وَقُصَصِي مِنْ نُدَى اللَّيْلِ» (5: 2).
أليس هذا هو الإنجيل؟ (1) إنه - تبارك اسمه - الآن في السماء «الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ» (أع3: 21). (2) ولكنه، من بيت الآب، يتوق للشركة مع مفديه «وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1يو1: 4). (3) وأليس علينا السهر على كرومنا «وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: اسْهَرُوا» (مر13: 37)، وإلا ستقطع الشركة؟ (4) وفي سفر الرؤيا، إذ انقطعت الشركة نجده – تبارك اسمه - أخذًا زمام المبادرة؛ فالمسيح على الباب واقف. يقرع، ملتمسًا متعة عواطف قديسيه «هَئنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤ3: 20). وكما رحل الكسل عن عروس النشيد، وقامت وفتحت (5: 5)، ياليت الروح اللاودوكية عنا، ترحل إلى الأبد.
السهر والسلوك حسب الروح، أساس التمتع بإعلانات النعمة.
وإرادة العروس للبركة، دعمتها عواطف قلبية حارة للعريس سيطرت على العروس بشدة؛ حتى هتفت: «لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ» (2:1)، دون ذكر لاسمه. وهذا ما سمعناه من مريم المجدلية، في حديثها مع البستاني: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ» (يو20: 15). وكلتاهما؛ العروس، ومريم، يقصدان المسيح، ولا يذكرانه بالاسم. فالقلوب الغارقة في حب المسيح، عادة ما تظُن أنه للجميع معروف. والعروس، ومريم لم تهدأا، حتى نالتا ما رغبتا. ونهج الرسول بولس، ذات الأسلوب، يوم تحدث، عن زمان المكافأت، دون أن يذكره، قائلاً: «لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ» (2تي1: 12)، ومرة أخرى يقول: «وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ» (2تي4: 8). فمن عشق السيد، عشق ذلك اليوم؛ يوم المكافأت والملكوت. واعتبره لجميع المفديين معروفًا.
النشيد في الإنجيل، للعواطف مشبع، وللفكر مطهر ومقدس، وللإرادة مكرس.