عدد رقم 4 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
تأملات في رسالة تيموثاوس الثانية  

الأصحاح الأول

افتتحاية الرسالة (ع2،1)
   فهمنا أن الرسول كتب هذه الرسالة لتشجيع تيموثاوس الذي كان قد اعتراه الفشل والإحباط بسبب الأوضاع الروحية المتردية في كنيسة أفسس، حيث أنها قد تأثرت بالموقف العام الذي اتخذته كنائس آسيا من الرسول بولس ومن تعليمه، وأعني موقف الارتداد (ص1: 15).  ولا أقصد هنا الارتداد عن المسيح، ولا حتى عن الحق المختص به كابن الله أو حتى من جهة كمال ناسوته، فهذه مراحل لاحقة من الارتداد، لكن المرحلة التي نحن بصددها تمثل أولى مراحل ارتداد المسيحية، وهو ارتداد عن الحق المختص بكفاية عمل المسيح للخلاص والتبرير دون الحاجة لأعمال الناموس، ولأن موت المسيح أنهى هذا التدبير، وما يترتب عن ذلك من انتهاء التميز بين اليهود والأمم داخل الكيان السماوي الجديد الذي هو الكنيسة، فإن التفريط في الحق المختص بإنجيل الله كان مزمعًا أن يؤدي إلى ضياع الحق المختص بكنيسة الله.  هذا لم يكن على سبيل التوقع، لكن الرسول بولس ببصره النبوي استطاع أن يرى ذلك بجلاء.  هذه الجوانب من الحق المسيحي هي التي ارتدت عنها كنائس آسيا وقد عبَّرت عن ذلك بترك بولس سواء في سجنه أو عند احتجاجه الأول.

   ولأن لا مجال لأن يثبت الرسول حقيقة إرساليته من المسيح في افتتاحية الرسالة كما اعتدنا في رسائل أخرى، حيث أن تيموثاوس لا يحتاج لمثل هذه المقدمة، فلقد بدأ الرسول فورًا في تقديم المشجعات لتيموثاوس، فإني أرى أن أولى المشجعات التي أراد الرسول بالروح القدس إبرازها هي الإشارة لما أسماه «وعد الحياة»، أي أن هناك وعدًا من الله القدير بأننا في المستقبل سننال الحياة الأبدية عندما يكون كل شيء على ما يُرام.  ولأن تيموثاوس شخص روحي، فإن كل ما يرومه فعلاً هو أن يرى الكنيسة وهي في أفضل حال، وهذا يتطلب خلاصنا النهائي من جسد الخطية ووصولنا إلى المجد.  صحيح أن هذا سيحدث في المستقبل، لكنه حتمًا سيحدث لأن هناك وعدًا من الله بذلك.  والسبب الذي يجعلني أقول أن هذا ما يرومه المؤمن الروحي، هو أن روحانية المؤمن تُقاس بمدى غلاوة كنيسة الله على قلبه، فكلما اقترب فكر المؤمن من فكر الله ستزداد بالتبعية غلاوة الكنيسة عليه، ذلك لأن الله أعطاها أغلى ما عنده، أي ابنه الوحيد (أف1: 23،22).

   لقد رأى تيموثاوس حالة الكنيسة تزداد سوءًا يومًا بعد الآخر، فالإعوجاج في التعامل مع كلمة الله وإمساك العصا من المنتصف صار هو المنهج المتبع من الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية القيادة.
   نعم هكذا كان الوضع أمام تيموثاوس، وهكذا كان طريق الروح القدس مستخدمًا بولس لتعزيته وتشجيعه، حيث قد اتبع الأسلوب النبوي الذي كثيرًا ما اتبعه الله في العهد القديم. 

  هنا يتعين علينا الإشارة إلى معنى الحياة الأبدية، لنستطيع أن نتفهم عمق المعنى هنا في تشجيع تيموثاوس، فوسط تغير حالة الكنيسة عمليًّا، كان لا بد للرسول أن يحول أنظاره إلى ما هو ثابت ومضمون بموجب وعد إلهي واجب النفاذ من منطلق أمانة الله تجاه مواعيده.  فعندما أشار الرسول هنا إلى وعد الحياة كان يقصد الوعد بالحياة الأبدية.  والحياة الأبدية في العهد القديم هي حياة تكون فيها الأرض في وضع متوافق مع بر الله، هذا المعنى نراه بوضوح في العهد القديم في سياق نبوي عن زمان ملك المسيح على الأرض (مز133 و دا12: 1- 3).  وهكذا كان إسرائيل ينتظرالحياة الأبدية في الأرض كبركة وعدهم الله بها، وبنفس هذا المعنى ترد الحياة الأبدية في الأناجيل الإزائية أي متى ومرقس ولوقا.  فلما أراد الناموسي أن يجرب الرب قائلاً: «ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية» (لو10: 25) كان يقصد نفس المعنى لكونه يهوديًا.  فالأرض عندما يملك عليها المسيح بالبر تكون الحياة فيها متوافقة تمامًا مع مشيئة الله، ولذا تُسمى «الحياة الأبدية».  أما في إنجيل يوحنا مع باقي كتابات يوحنا الرسول، وأيضًا في رسائل بولس الرسول، فإن الحياة الأبدية تتخذ تعريفًا آخر، فهي حياة الله من الأزل وإلى الأبد، على أن هذه الحياة وهي موجودة من الأزل في ابن الله لكنها لم تظهر لنا إلا في ملء الزمان (1يو1: 2،1)، أما مسألة انتقال هذا الصنف من الحياة إلينا فهذا تطلب موت وقيامة المسيح ابن الله، هذا ليس فقط لكي يتحمل عقوبة الخطية نيابة عنا، لكن أيضًا لأن هناك قانون إلهي يحكم عملية انتقال نوعية الحياة المخزونة في أي بذرة إلى الثمر، هذا القانون نراه بوضوح في اليوم الثالث من الخليقة، اليوم الذي فيه أمر الله أن تُنبت الأرض أثمارًا تحمل صفات البذور لكونها من ذات جنسها.  ونتعلم من المسيح نفسه أنه هو شخصيًّا مثل حبة الحنطة التي لا يمكن أن تنتقل الحياة التي فيها إلى آخر ما لم يذق الموت ثم يقوم ثانية لكي تصبح هذه الحياة متاحة لنا، مؤكدًا أنه إذا لم يمت فسيبقى هو وحده مستودع هذا الصنف من الحياة دون أن يتمكن هو نفسه من إعطائها لنا (يو12: 24).  إذًا بموت وقيامة ابن الله صارت الحياة الأبدية متاحة لنا، لكن كونها متاحة للجميع دون تمييز لا يعني بالضرورة أن الجميع سيحصل عليها، ذلك لأن الحصول عليها يتطلب الإيمان بابن الله (يو3: 16).

   غير أن ما ينبغي أن نلقي الضوء عليه هنا، أن ثمة فارق ملحوظ بين اللغة التي يستخدمها الرسول يوحنا في كلامه عن الحياة الأبدية وبين تلك التي يستخدمها الرسول بولس، فمن الملاحظ أن الرسول يوحنا يشير إليها باعتبارها شيئًا نلناه من الآن (1يو5: 12،11)، ولعل السبب في ذلك أنه يتكلم أساسًا عن طبيعة الله، أي النور والمحبة، وهما السمتان الغالبتان على توجه حياة أولاد الله، كما أنهما يشكلان الجو المقدس الذي يؤسس لشركة حميمة مع الآب وابنه، الأمر الذي صار ممكنًا بعد نوالنا الحياة الأبدية.  صحيح أن الرسول يوحنا يشير إلى احتمالية أننا نخطئ، لكن هذا لا يعطل كوننا حصلنا على الحياة الأبدية بكل فضائلها الأدبية التي ظهرت في ابن الله عندما كان على الأرض، لكن الرسول بولس لأنه يتكلم عن مقاصد الله من نحونا، والتي تتم بشكل نهائي عندما نكون مشابهين صورة ابنه بالتمام والكمال (رو8: 29)، نجده دائمًا يشير إليها كهبة من الله سنحصل عليها في المستقبل (رو6: 23،22)، وهذا بموجب وعد منه مثلما أشار هنا.  فإن وجودنا في جسد تسكنه الخطية يجعلنا غير قادرين على التمتع الكامل بالحياة الأبدية في ملئها، كما أن أجسادنا هذه مُعرَّضة للموت، ومن ثَمَّ فإن الحياة الأبدية المنتصرة على كل قوى الموت غير ظاهرة في هذا الجسد، لكن عند مجيء الرب حيث ستتغير أجساد الراقدين والأحياء معًا ونأخذ جسدًا ممجدًا لا يسود عليه الموت، فإن الحياة الأبدية عندئذٍ تصير مُمتلكة فعليًّا في أجسادنا، بل سيصير بإمكانها أن تظهر في صورة مجيدة أمام العالم في زمان ملك المسيح، ثم إلى ما بعد ذلك في الحالة الأبدية.  ولعل هذا يُعد مُشجعًا آخر أراد أن يحمله الرسول إلى تيموثاوس قبل أن يخبره في خاتمة الرسالة أن وقت انحلاله قد حضر، فالموت الذي صار قريبًا من بولس سيزيد من صعوبة الموقف بالنسبة لتيموثاوس، لكنه أراد أن يعرفه أن هذا ليس نهاية كل شيء، فهناك وعدًا إلهيًّا بحياة لا يمكن أن يقترب الموت منها، وما يضمن هذا هو أن هذه الحياة هي في يسوع المسيح.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com