عدد رقم 4 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
موسى ودعوة الله  


«الآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ»
(خر3: 10)
تأملنا فيما سبق في موسى وهو فى مديان، وفى مدلول ظهور الله له في العُلَّيْقَة الْمُتَّقِدَة.  هناك تسلم دعوته وإرساليته، ليكون إناء الله المُختار لتحرير شعبه من عبوديتهم القاسية.  وبينما التفت موسى لينظر المنظر العجيب للعُلَّيْقَة المتوَّقِدة التى لا تحترق «نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ» (ع4).  أما أولاً فقد ذكَّر الله موسى بقداسته «فَقَالَ: لاَ تَقْتَرِبْ إِلَى هَهُنَا. اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ» (ع5)، ثم أعلن عن ذاته كمن ارتضى أن يدخل فى علاقة عهد مع الآباء «أَنَا إِلَهُ أَبِيكَ، إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ» (ع6).  بعد ذلك عبَّر عن تعاطفه مع شعبه «فَقَالَ الرَّبُّ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ.  إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ» (ع7).  ثم أعلن عن قصده: «نَزَلْتُ لِأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ، إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً» (ع8).  أخيرًا ها هو الرب بنفسه يُقدِّم له دعوة ويُكلّفه بخدمة: «فَالآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ» (ع10).

قبيل أن نتأمل فى دعوة موسى، دعونا نفكر مليًا فيما سُجل فى عددي 7، 8.  ولاحظ جمال وكمال هذه العبارات: أولاً: قال الرب: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ».  ثانيًا: «وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ».  ثالثًا: «إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ».  رابعًا: «نَزَلْتُ لأنْقِذَهُمْ».  خامسًا: «مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ».  سادسًا: «وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْض».  سابعًا: «إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ، إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً».
ثم نلاحظ وضوح وواقعية وإيجابية تأكيدات يهوه.  لم يكن هناك ”ربما“ أو ”لعل“ أو ”حبذا“.  لم تكن مجرد دعوة لإسرائيل، أو عرض مُقَدَّم وقابل للاحتمالات وللتخمين، بل بالحري كان إعلانًا مؤكدًا وغير مشروط لما سيفعله الرب «نَزَلْتُ لِأُنْقِذَهُمْ» (ع8).  إذًا فالأمر سيتم الآن.  والإنجيل لا يُقَدَّم على أساس رسالة غير مؤكدة، لأن الرَّبُّ يَقُولُ: «كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي.  لاَ تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ» (إش55: 11).

ونحن نتلذَّذ بالتأمل في الصورة الرمزية المباركة هنا؛ صورة نبوية عن التجسد الإلهي.  فأولاً: نرى التعاطف الإلهي الذي استوجب العطية التى لا يُعبَّر عنها: «فَقَالَ الرَّبُّ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ.  إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ» (ع7).  لقد نظر الله إلى حالة الخطاة التعسة، وحاجتهم للتحرير والخلاص والعتق.  ثانيًا: التجسد ذاته: «فَنَزَلْتُ».  وهكذا صار بعد 1500 سنة، عندما خرج ”يهوه – يسوع“ من بيت أبيه فى العُلا، ونزل إلى مشاهد الخطية والألم هذه.  ثالثًا: هدف التجسد: لكي ”يُخلِّص“ شعبه «لِأُنْقِذَهُمْ ... وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ»، التى ترمز إلى العالم.  رابعًا: هدف النعمة من وراء التجسد: لكي يأتي الرب بشعبه «إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَناً وَعَسَلاً»؛ ليأتى بنا إلى أرض القيامة، حيث يكون كل شيء لإشباع القلب وبهجته. 

«فَالآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ» (خر3: 10).  لاحظ كلمة «الآن».  إن الله لا يُعجَّل، ومهمتنا ليست أن نسعى (بلا توقير) لأن نُعجِِّل الله، بل بالحري أن ننتظره ونصبر له «مَنْ آمَنَ لاَ يَهْرُبُ (لا يستعجل)» (إش28: 16).  كانت أنّات وصرخات العبرانيين المكروبين تصعد لسنوات عديدة، لكن السماء كانت صامتة.  قبل ذلك بأربعين سنة، نفذ صبر موسى من التأخير، وظن أن يمسك زمام المبادرة بيديه، فقط ليكتشف أن زمان الخلاص والعتق لم يحن بعد، لكن هذا الزمان صار ”الآن“؛ الآن بعد أن أخذت الـ 400 سنة عبودية ومذلة مجراها المحتوم (تك15: 13)، الآن دق ناقوس ساعة التدخل الإلهي.  الآن حان وقت تعامل يهوه مع فرعون المُتعجرف مُستعبِد شعبه.  الآن سيكون بنى إسرائيل فى حالة تُمكّنهم من تقدير الميراث الموعود.  فمراعي جاسان الخضراء، وملذات مصر الجسدية - بلا شك - قد أطفأت كل شوق لكنعان، لكن الآن حيث استُحكِمت مذلتهم، وصارت غير محتملة، فلا بد أن تكون الأرض التى تفيض لبنًا وعسلاً هى الآفاق الجديدة لمستقبل مسر ومبهج، بالنسبة لهم.

والآن إذ قد حان وقت العتق، ما هو أسلوب الإجراءات الإلهية تجاه شعب مأسور يحتاج أن يُعتق وأمة عبيد تتوق أن تتحرر؟  لو اختار الله، لاستطاع أن يرسل ملائكته، وفى ليلة واحدة يُهلك جميع المصريين.  لو سُر الله لظهر أمام العبرانيين بذاته وأخرجهم من بيت عبوديتهم.  لكن هذه ليست طريقته.  وبدلاً من ذلك، اختار وعيَّن خادمًا بشريًا ليُتمّم به خلاصًا إلهيًا.  فقال لموسى: «فَالآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ ... وَتُخْرِجُ شَعْبِي ... مِنْ مِصْرَ».  إننا قلما نطبق ذلك على أنفسنا.  فطريقة الله وقتئذ، هى طريقته الآن؛ إن استخدامه للبشر هى الوسيلة التي يستخدمها عمومًا فى الإتيان بالخطاة من الأسر إلى الحرية، ومن الموت إلى الحياة. 

«فَالآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ» (ع10).  فما هو إذًا رد فعل رجل الله موسى؟  هل سينحني فى سجود أمام ”يهوه“ العظيم، لكونه صاحب الجلال الأسمى؟  هل سيسأل بمنتهى الخضوع: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أع9: 6).  كلا.  فماذا إذًا كان رد موسى؟  «فَقَالَ مُوسَى لِلَّهِ: مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟» (ع11).
إن موسى - وهو الآن فى الثمانين من عمره - لم يعد متحمسًا كما كان فى الأربعين.  لقد جعلته الوحدة أكثر واقعية واتزانًا، ولقد روضته رعاية الغنم، وها هو يجد المصاعب فى نفسه، وفى الناس وفى عمله.  لقد جرَّب مرة وفشل، وها هو الآن منعزل عن شعبه، لسنوات طوال.  لكن - حتى وإن صح ذلك - فالله هو مَن دعاه لذلك العمل، والله لا يُخطئ أبدًا.

«فَقَالَ مُوسَى لِلَّهِ: مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟» (ع11).  نستنتج من هذا مبدأ مرتبط بالخدمة الإلهية المصورة بإبداع فى لوقا 9: 57 - 61 حيث نقرأ: «وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي.  فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ.  وَقَالَ لِآخَرَ: ﭐتْبَعْنِي.  فَقَالَ: يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي.  فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ.  وَقَالَ آخَرُ أَيْضًا: أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلَكِنِ ائْذِنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي».
هذا هو المبدأ: عندما يُنصِّب الإنسان نفسه لأداء خدمة يختارها بإرادته الذاتية، لا يشعر بمصاعب الطريق، لكن حينما تكون هناك دعوة حقيقية من الله، فإن المصاعب تُستحضر أمامه.  هكذا حدث مع موسى، فعندما اندفع بحماسة الجسد، كان مملوءًا من الثقة فى نجاح مهمته (خروج2: 11).  وهو ما يتضح فى أعمال7: 25 «ظَنَّ أَنَّ إِخْوَتَهُ يَفْهَمُونَ أَنَّ اللهَ عَلَى يَدِهِ يُعْطِيهِمْ نَجَاةً، وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا».  لكنه الآن، إذ قد دعاه الله لهذا العمل، فهو على دراية تامة بصعوبات الطريق.  لم يذهب تدريب ”ما وراء البرية“ سُدىً؛ لقد تهذب برعاية الغنم. 

حينئذ، شجعه الرب، مُنعمًا بوعده أنه سيكون معه، وأكد له على نجاح إرساليته تمامًا، "فَقَالَ: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَهَذِهِ تَكُونُ لَكَ الْعَلاَمَةُ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ: حِينَمَا تُخْرِجُ الشَّعْبَ مِنْ مِصْرَ، تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ» (ع12).  كان هذا أمرًا مُعزيًا جدًا.  الله لم يسأل موسى أن يتقدَّم بمفرده؛ بل إن القدير سيرافقه.  ولا زال هذا الوعد الإلهي مُوجهًا لكل خادم مدعو من الله.  إنني لا أشك أن الرسل كان لديهم ذات الشعور - مثل موسى - عندما كلَّفهم المُخلِّص المُقام، أن يذهبوا إلى العالم أجمع، ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.  ربما – في البداية - قال كل منهم: من أنا لأذهب؟!  لكن من المؤكد أن قلوبهم أصبحت على يقين من نفس الوعد الذي ناله موسى: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ».

  أخي شريك الخدمة: إن كان الرب قد دعاك بوضوح لمهمة ما، وإن كنت تشعر بعدم كفايتك المطلقة لها، ارتكن على هذا الوعد الثمين: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ».  هذا الوعد، على كل مَن يُشارك فى خدمة روحية، أن يأخذه إلى قلبه.  
وعندما نتفكر فيما يُصاحب إخراج النفس من الظلمة إلى النور، عندما نتصادم مع مقاومة الشرير العنيفة، وعندما نواجه تجهم العالم وسخريته، فلا عجب إن ترددنا وتساءلنا: «مَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهَذِهِ الأُمُورِ؟» (2كو2: 16).  لكن تشجع يا واهن القلب، وتذكر الوعد الذي لا يخيب: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ».
                                           وللحديث بقية.
                                                                                                                                                                        

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com