ما أجمل أن يذكر
داود، في ختام حياته، أسماء وأعمال الرجال الأبطال الذين التصقوا به وتبعوه في
زمان رفضه واحتقاره، وتألموا معه، حينما كان مرفوضًا ومُطَاردًا مِن شاول؛ رفاقٌ
شجعان استُؤمنوا فَرَعَوا الأمانة، وعُوهِدوا فحفظوا العهد، شاركوا داود معاناته
وآلامه، وبأمانة خدموه أثناء رفضه، غير حاسبين أنفسهم ثمينة لديهم، من أجل خاطر سَيِّدهم،
وكوفئوا من أجل خدماتهم له. وها نحن نقرأ
عن أعمال البطولة والولاء التي قام بها هؤلاء الأتباع الأمناء، وكل هؤلاء صارت لهم
مراكز في مملكة داود، تعيَّنت لهم على سبيل المكافأة. وفي يوم كرسي المسيح سيُظهَر كل شيء في
النور. ولسوف يذكر الرب ما خدمناه به، وكل
ما قدمناه له، وبحسب حكمته سوف يُعطي الأجور ويوزع الأكاليل. وحينذاك ستُذكَر حتى كأس الماء البارد التي
أُعطيت لأحد خاصة المسيح لأجل اسمه، وسيُجازى صاحبها (مت10: 43؛ مر9: 41 قارن
1أخ11: 15-19).
ويُعطينا داود صورة
رمزية جميلة للمسيح كالرمز الذي حوله تجتمع خاصته. ففي ”مَغَارَةِ عَدُلاَّم“ -
والاسم يعني ”راحة“ أو ”شهادة“ - «اجْتَمَعَ إِلَيْهِ كُلُّ رَجُلٍ
مُتَضَايِقٍ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكُلُّ رَجُلٍ مُرِّ النَّفْسِ،
فَكَانَ عَلَيْهِمْ رَئِيسًا. وَكَانَ
مَعَهُ نَحْوُ أَرْبَعِ مِئَةِ رَجُلٍ» (1صم22: 1، 2). وداود في هذا رمزٌ جميل للرب يسوع المسيح،
المُحتقَّر والمرفوض من العالم، والذي يَقبَل ويُرحب بأولئك الذين يعرفون تعاستهم
ومذلتهم، ويجدون فيه ملجأهم وقوتهم، إذ يُطيعون دعوته: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا
جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (مت11:
28).
ولم يستطع داود أن
يُقدِّم لرفقائه – في ذلك الوقت – إلا الآلام؛ أما فيما بعد، فكان لهم نصيب في
مجده الملكي. وهكذا أيضًا هو نصيب المؤمن
بالمسيح. ويا له من تناقض مع أهل هذا
العالم، الذين نظير عبيد شاول (1صم22: 7)، كل امتيازاتهم وخيراتهم في هذه الحياة
فقط!
وفي الأصحاح الثاني
عشر من سفر أخبار الأيام الأول نرى كيف أتت الوفود وتقاطرت – في مجموعات، ومن كل
سبط – لتلتصق بداود. كان شَاوُلُ إِذَا رَأَى «رَجُلاً جَبَّارًا أَوْ ذَا بَأْسٍ
ضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ» (1صم14: 52)، على العكس من ذلك فإن الذين أتوا إلى داود،
أتوا من تلقاء أنفسهم، وبدافع الحب له.
وهكذا اليوم فإن المسيح لا يُجبِر أحدًا على اتّباعه، ولكن أبطاله
الحقيقيين يفضّلون الموت على تركه!
فنقرأ أولاً عن الذين
جاءوا إلى داود والتصقوا به في ”صِقْلَغَ“ كانوا «مِنْ إِخْوَةِ شَاوُلَ مِنْ
بِنْيَامِينَ» (1أخ12: 3)، وكانوا مهرة في رمي السهام من القِسِيِّ «بِالْيَمِينِ
وَالْيَسَارِ» (ع1، 2)، لكنهم تركوا شاول المرفوض، ليرتبطوا بداود. لقد وضعوا مهارتهم وقدرتهم تحت تصرُّفه،
معترفين به كَسَيِّدهم الحقيقي. ونحن
الذين التصقنا بالرب لنا أسلحة مُحاربة، ولكنها ليست جسدية (1كو10: 4)؛ لنا «سَيْفَ
الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ» (أف6: 17). فإن آية من الكتاب المقدس، إذا استُخدِمت –
بالروح القدس – في وقتها وفي مناسبتها، قد تكون كالسهم أمام الضمير والقلب. ولكن السيف يحتاج دائمًا إلى يد مُدرَّبة،
تُحسن تقليبه. وما التدريب هنا إلا تطبيق
الكلمة على حياتنا وسلوكنا؛ على اللسان والعين والخواطر والمشاعر والنوايا
والأعمال، حتى يُمكن أن نُحسن علاج الآخرين بها.
وجاء أيضًا ”جَادِيّون“ شجعان، مُتجرّدون للحرب، لا
يخافون عدوًا، ولا يرهبون الصعوبات. «هَؤُلاءِ هُمُ
الَّذِينَ عَبَرُوا الأُرْدُنَّ ... وَهُوَ مُمْتَلِئٌ إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ»، وقد
استأمنهم داود على بعض المهام والمسؤوليَّات الخاصَّة، فكان أنهم «هَزَمُوا كُلَّ
أَهْلِ الأَوْدِيَةِ شَرْقًا وَغَرْبًا» (ع8-15).
وجاء أيضًا «قَوْمٌ مِنْ بَنِي بِنْيَامِينَ وَيَهُوذَا»،
وقد سعى داود لكي يكشف نواياهم، فأجاب رئيسهم ”عَمَاسَايَ رَأْسِ الثَّوَالِثِ“
إجابة جميلة عندما حلَّ الروح عليه: «لَكَ نَحْنُ يَا دَاوُدُ، وَمَعَكَ نَحْنُ (أي في صفك) يَا ابْنَ يَسَّى. سَلاَمٌ سَلاَمٌ لَكَ، وَسَلاَمٌ
لِمُسَاعِدِيكَ. لأَنَّ إِلَهَكَ
مُعِينُكَ» (ع16-18). أولئك جميعًا رموز
لمؤمني عهد النعمة المُجتذَّبين من كل العالم، تضمهم روابط عزيزة ومصالح غالية،
لكي يلتصقوا بداود الحقيقي. فليت كل واحد
مِنَّا - وبالروح القدس عينه - يقول أيضًا: ”لك أنا يا ربي يسوع ... وأيضًا
معك دائمًا“. ويا للأسف أن كثيرين من المفديين، مع أنهم
فعلاً للرب، ولكنهم لا يريدون في كل الأحوال أن يكونوا في صفه فقط!
وجميل أن نقرأ أن الذين جاءوا إلى داود من «مِنْ بَنِي
يَسَّاكَرَ»، كانوا «خَبِيرِينَ بِالأَوْقَاتِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَعْمَلُ إِسْرَائِيلُ ... وَكُلُّ
إِخْوَتِهِمْ تَحْتَ أَمْرِهِمْ» (ع32). ونحن
يجب أن تكون لنا هذه الخبرة لُنشير على إخوتنا بما ينبغي أن يفعلوه. ولكن الرب قد اختص من بيننا أفرادًا بحكمة
خصوصية، وخبرة في الرعاية والإرشاد. فما
أحرانا أن نسترشد برأيهم في خضوع، كما كان إخوة يَسَّاكَرَ.
وهكذا «أَتَى أُنَاسٌ إِلَى دَاوُدَ يَوْمًا فَيَوْمًا
لِمُسَاعَدَتِهِ حَتَّى صَارُوا جَيْشًا عَظِيمًا كَجَيْشِ اللَّهِ» (ع22)، «كُلُّ
هَؤُلاَءِ رِجَالُ حَرْبٍ يَصْطَفُّونَ صُفُوفًا، أَتُوا بِقَلْبٍ تَامٍّ إِلَى
حَبْرُونَ لِيُمَلِّكُوا دَاوُدَ عَلَى كُلِّ إِسْرَائِيلَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ بَقِيَّةِ إِسْرَائِيلَ
بِقَلْبٍ وَاحِدٍ لِتَمْلِيكِ دَاوُدَ. وَكَانُوا
هُنَاكَ مَعَ دَاوُدَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ لأَنَّ
إِخْوَتَهُمْ أَعَدُّوا لَهُمْ» (ع38، 39).
وهكذا «كَانَ فَرَحٌ فِي إِسْرَائِيلَ» عندما اعتلى داود العرش (ع40).
وعندما اجتمع كل الشعب حول تابوت الله الذي أخذ مكانه في
وسط الخيمة التي نصبها له داود «قَرَّبُوا مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ
أَمَامَ اللَّهِ. وَلَمَّا انْتَهَى
دَاوُدُ مِنْ إِصْعَادِ الْمُحْرَقَاتِ وَذَبَائِحِ السَّلاَمَةِ بَارَكَ
الشَّعْبَ بِاسْمِ الرَّبِّ. وَقَسَمَ
عَلَى كُلِّ آلِ إِسْرَائِيلَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، عَلَى كُلِّ
إِنْسَانٍ، رَغِيفَ خُبْزٍ وَكَأْسَ خَمْرٍ وَقُرْصَ زَبِيبٍ (غذاءً وسرورًا
وعزاءً)». وانطلقت عندئذٍ التسابيح في
القدس «حِينَئِذٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوَّلاً جَعَلَ دَاوُدُ يَحْمَدُ الرَّبَّ
بِيَدِ آسَافَ وَإِخْوَتِهِ» (1أخ16: 1-7).
ومن المؤكد أننا سنجد لذة وفائدة عظيمتين لدى تأملنا في
أبطال داود (2صم23؛ 1أخ11، 12). فلدينا هنا - كما كتب
واحد - صفحة كعيّنة من سفر الأبدية؛ عينة من صفحات كتاب حياة المسؤولية العملية
المُسجَّل فيه اسم كل واحد وصفاته وأعماله، ولن يُترَك عمل أو خدمة للرب غير
مسجَّلة في سفر كل واحد، وليس فقط العمل نفسه، لكن أيضًا الطريقة التي عُمِلَ بها.
ويا له من مثال رائع للتكريس القلبي، وصورة جذابة للعواطف المقدسة والمحبة
الصادقة، ومحرك قوي للخدمة التاعبة النشطة للمسيا المرفوض من العالم، هذا الذي
نجده في هذه الفصول التي فيها نقرأ عن بعض الأبطال خصهم الروح القدس بذكر شريف في
الكتاب المقدس لأنهم بعثوا فرحًا وتشجيعًا لقلب داود مسيح الرب المطرود والمرفوض.
يا ليتنا نسعى في التكريس
الشخصي والخدمة العملية للرب أكثر فأكثر في هذه الأيام التي كثر فيها اهتمام
الإنسان بنفسه وعدم مبالاته بخدمة الرب، وفيها أصبح القليلون جدًا هم الذين يجِّدّون
في الوصول إلى مقياسٍ عالٍ من التكريس الشخصي الذي يُرضي الرب يسوع المسيح، ويُفرِّح
قلبه.
وقبل
أن نبدأ في التكلُّم بالتفصيل عن كل شخصية من هؤلاء الأبطال، يجدر بنا أن نُلقي
نظرة عامة على تلك الصورة الحية التي يرسمها الروح القدس لهذه السحابة المباركة من
الأبطال، وعلى الصفات والسمات الأدبية التي يتشارك فيها كل هؤلاء الأبطال، وهو ما
سنبدأ فيه في عددنا القادم، إن شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا.
(يتبع)