عدد رقم 1 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المطوبة مريم (7)  


ثقة كبيرة

وورطة صغيرة!

 

نواصل أعزائي الشباب تأملاتنا في مواقف من حياة المطوبة مريم «أم يسوع» بحسب ما ورد عنها في كلمة الله.  وفي هذا العدد نتوقف أمام مشهد فريد هو التسجيل الوحيد في الوحي عن ربنا المعبود خلال "سني الصمت" إن جاز التعبير، والمقصود به سنوات الطفولة والصبا حتى خروجه للخدمة الجهارية وهو له من العمر نحو 30 عامًا.  وهو المشهد الذي انفرد بسرده البشير لوقا – المختص بالحديث عن الجانب الإنساني في حياة المسيح كما نعرف – بالأقوال التالية:

«وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ.  وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا.  وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ.  وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ.  وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ.  وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ.  فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا.  وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!» فَقَالَ لَهُمَا: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟».  فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا.
ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا.  وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ
» (لو2: 41- 52).

--

ثقة كبيرة:

رغمًا عن رقة حال المطوبة مريم ويوسف رجلها من الناحية المادية كما رأينا فيما سبق من تأملات، إلا أن تقواهما وطاعتهما للرب جعلتهما لا يقصران في الذهاب إلى أورشليم سنويًا في عيد الفصح حسب الشريعة (تث 16:16).  وعندما بلغ الصبي يسوع من العمر الجسدي اثني عشر عامًا وهم يذهبون به إلى العيد كالعادة الحسنة لعائلة تفهم فكر الله وتنفذ وصاياه عن وعي، فقد تركا له مساحة من الحرية للحركة دون تقييد مبالغ فيه، سيما من جانب أمه.  ونحن نعرف أن قلب الأم هو الأرق والأضعف عادة.  لكن ثقة مريم العالية هي ويوسف في "البكر" جعلتهما يطمئنان عليه حتى لو غاب قليلاً عن عيونهما.  لقد ظناه بين الرفقة ولم يزعجهما ذلك، بل على العكس لعلهما أراداه منذ الصغر أن يشعر بمساحة من الاستقلالية المفيدة في التنشئة الصحية والتقدم النفسي، وبالأخص بين "رفقة" من هم في مثل سنه ومن بيوت لها نفس التوجهات الروحية وتحرص على عيد الفصح في أورشليم.  وهذا الأمر يُحسب بلا شك للمطوبة مريم كأم، وليوسف رجلها كذلك. أعني عدم الانزعاج على "يسوع" بين "الرفقة".

وهو درس جميل لكل أم بل ولكل أسرة شابة كذلك.  أن نعطي الأبناء المزيد من الثقة والمساحة المناسبة لحرية الحركة مع وجود الملاحظة التقوية المصحوبة بالصلاة العائلية لأجل حفظ وبركة هؤلاء الأبناء الأعزاء حرصًا على سلامة نموهم وتقدمهم في كل شيء وبالأخص في الوجود الدائم معنا وسط أجواء روحية صحيحة وصحية.

ورطة صغيرة:

ولكن ثمة أمر صغير حدث مثل ورطة حقيقية لهما.  فبينما بقى الصبي يسوع في مكانه الطبيعي في الهيكل بين المعلمين للشريعة، ظناه بين الرفقة إذ لم يعلما بأنه بقي في أورشليم!  فالعيد عنده – له المجد – وإن كان بعد صبيًا صغيرًا ليس مجرد رفقة في حد ذاتها، ولكن رفقة مَنْ؟  «رَفِيقٌ أَنَا لِكُلِّ الَّذِينَ يَتَّقُونَكَ وَلِحَافِظِي وَصَايَاكَ» (مز119: 63).  وهذا ما غاب عن ذهن يوسف ومريم فذهبا مسيرة يوم وكانا يطلبانه، وبعد ثلاثة أيام – من المؤكد حفلت بالعذاب والمعاناة النفسية قبل الجسدية – وجداه في الهيكل جالسًا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم «وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ.  فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا».

وهنا - أحبائي الشباب – دعونا نحلل الموقف كالتالي:

v    ظناه بين الرفقة العاديين... إلا أنه كان في الهيكل!

v    ظناه وقد "تاه" عنهما وسط زحام العيد... لكنه كان في مكانه الطبيعي وسط المعلمين!

v    ظن المعلمون أنهم قادرون على إجابة صبي صغير... ولكنهم بُهتوا جميعًا من فهمه وأجوبته.

v    عندما «وَجَدَاهُ» اندهشا... لكن الواضح أنه هو الذي أندهش لدهشتهما!

v    تحدثت المطوبة إليه «لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟»... وهما اللذان فعلا ذلك بنفسيهما فكان جوابه هو: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟» أي أنا في مكاني الطبيعي جدًا!

v    قالت له أمه: «هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!» في حين أن عذابهما كان بسبب عدم إدراكهما له وليس بسبب آخر.

v    قال له المجد: «أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟» فلم يفهما ما قاله لهما.

v    إذ لم يفهما قوله لم يحاولا سؤاله ولو في وقت لاحق!

v    رغمًا عن المسافة الروحية والفكرية بينه وبينهما، إلا أنه في كمال إنساني بديع «نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا» يا له من درس رائع عن الخضوع نتعلمه من السيد نفسه، الخضوع الذي لا يتطلب بالضرورة توافقًا ولكنه يتطلب بالتأكيد اتضاعًا.

والجميل في المطوبة مريم – موضوع تأملاتنا – أنها وإن كانت لم تفهم أبعاد ما قاله، تمامًا مثلما لم تستوعب أبعاد نبؤة سمعان البار عن الطفل وعنها وقتها في الأصحاح السابق مباشرة إلا أنها كانت «تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا»، وهو أمر جميل ولا شك حري بنا أن نتمثل بها فيه، وأن نتمسك بألا تفوتنا دروس الحياة ومعاملات العناية الإلهية (اليومية) معنا، وإن كنا لسنا دائمًا قادرين على فهمها في وقت حدوثها، لكن علينا أن نمسك بها ولا ندعها تفلت منا أو تضيع بل نحفظها في قلوبنا لوقت قادم تتفتح لنا فيه الصورة أكثر ويكشف لنا الرب فيه عما لم يمكننا فهمه وقت وقوعها!  إما لقصور في إدراكنا (كما هو الحال هنا) أو ربما لأسباب أخرى يصعب – أو ربما يستحيل – معها أن ندرك كل شيء في وقت حدوثه.

ويأبى الروح القدس أن يختم أصحاحنا الفريد هذا دون التأكيد على سمو الشخص الفريد وصحة كل ما فعل ويفعل، والذي التقينا للتو مع أولى كلماته بعد التجسد المسجلة لنا في الوحي (ع49) لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟ ليكشف لنا أنه من البداية وحتى النهاية هو «فيما لأبيه».  فيقول البشير: «وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ» (ع52).

 

                                         (يتبع)


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com