عدد رقم 5 لسنة 2015
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المطوبة مريم (5)  

ظروف معاكسة... وخطة عظيمة 

نواصل أعزائي الشباب تأملاتنا في حياة المطوبة "العذراء" مريم «أم يسوع»، لنتوقف في هذا العدد بمعونة الرب أمام مشهد غالٍ على قلوبنا، ألا وهو مشهد ولادة المخلص، ولكننا في ذلك سنركز على المطوبة مريم من وجهة عملية تناسبنا، كما سنرى، ولكن بعد مطالعة هذه الأعداد المقدسة:

«وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ» (لو2: 1-7).

--

    ظروف معاكسة

لقد عانت المطوبة مريم ظروفًا معاكسة بدت غريبة عند ولادتها سيما وأنها التي اختارها الله لهذا الشرف العظيم «فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لو1: 35)، وهي معاناة مزدوجة تمثلت في مشهدين:

الأول هو مشهد أمر أغسطس قيصر بالاكتتاب (التعداد) العام في كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية، الأمر الذي كبدها ويوسف رجلها مشقة الترحال صوب مسقط الرأس « لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى» (لو2: 5) وذلك في مدينة بيت لحم.  وغني عن البيان مشقة الترحال في ذلك الزمان لامرأة حُبلى في أواخر أيامها قبيل الولادة، إذ وبينما هما هناك «تمت أيامها لتلد».

أما المشهد الثاني فهو عند الولادة ذاتها «فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ (الفندق)» (لو2: 7).  فبعد ولادته في الخلاء «قَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ» الذي هو للبهائم في الأساس.  وعدم وجود موضع في الفندق مرجعه على الأرجح وجود غرباء كثيرين نظير يوسف ومريم تواجدوا لنفس السبب: الاكتتاب (التعداد العام بلغتنا اليوم).  وهذا يعني أن الفندق كان ممتلئًا عن آخره أو - في تقدير البعض – ربما به فقط بعض الأماكن عالية التكاليف (جناح بلغتنا اليوم)، لا يقدرا على تكاليفها العالية، ناهيك عن عدم توافر "مستشفيات ولادة متخصصة" بالطبع في زمانهما، أو حتى بيت قريب يأويهما في هذه الساعات الخاصة جدًا في حياتها.  أليس هذا مدهشًا للغاية – أحبائي الشباب؟  إن هذا يقودنا مباشرة للتفكير في النقطة الثانية

    خطة حكيمة

لماذا كل هذه الظروف المعاكسة عند ولادة الطفل الأول، وخاصة أنه «رب المجد»، وأن يوسف رجل مريم هو بشهادة الكتاب «رجل بار»، وأن المطوبة مختارة من العلىَّ لتكون «أم يسوع»؟!!  أليس هذا عجيبًا جدًا فعلاً؟

صحيح أن بركات العهد القديم كانت أرضية وفي صالح كل تقي وتقية.  لكن صحيح أيضًا أن الحالة الروحية والأدبية العامة حرمت شعب الله القديم من التمتع بهذه الامتيازات الأرضية.  لكننا أمام عائلة فريدة بحق في التاريخ كله: إيمانًا وتقوى،...وكل شيء فلماذا تسير الظروف معاكسة بهذه الصورة؟

وهنا، دعونا أحبائي نتذكر بعض المبادئ الهامة:

1.    أن طرق الله قد تبدو عجيبة، وأحيانًا محيرة ولكنها دائمًا صحيحة.

2.    كوننا أمناء وأتقياء فهذا لا يعفينا من التعرض لكل ظروف الحياة المعاكسة في طبيعتها إذ نحن نعيش في عالم يرأسه إبليس وتسوده الخطية بكل نتائجها.

3.    وإن كان الشيطان (المقاوم) هو رئيس هذا العالم، فإن الرب في العلى أقدر وهو الممسك بزمام كل الأمور.

4.    إن إلهنا المحب بغير حدود، هو نفسه الحكيم بغير حدود، ويعرف أن يخرج من أقسى الظروف أجمل البركات ويخرج لنا أروع التحف واللوحات!

5.    لا ترتبط التقوى والأمانة دائمًا بالضرورة بالقوة والغنى والصحة والنفوذ والعيشة في أعلى المستويات كما ينادي بعض المزيفين والمضللين.

نكتفي بذلك ونعود لقصتنا ونتساءل: لماذا يا رب؟  والإجابة هي في مقاصد الله العظيمة والحكيمة التي اقتضت أن يولد المسيح في «بيت لحم» (ميخا5: 2) وأن يوضع رب المجد طفلاً في «مذود» تعبيرًا عن الاتضاع والافتقار (2كو8: 9) ليكون قريبًا من الجميع متصلاً بمعاناة أفقر البشر.  وعند هذه النقطة أرجو أحبائي أن نتذكر أن كل ظروفنا  الحياتية الزمنية، هي في يد الإله المحب الحكيم الذي يصوغها دائمًا لخيرنا الروحي، وأن القصد الرئيسي فيها يتسق مع القصد الرئيسي من الحياة نفسها: أن تحقق شيئًا ذا قيمة أبدية لمجد الله، ولا تكون مجرد حياة تافهة »فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَدًا نَمُوت« (1كو15: 32).  إن افتقار المطوبة مريم تلك الفتاة التقية النقية يذكرنا بفتاتين يهوديتين سبقتاها بمئات السنين.  الأولى هي أستير اليتيمة الأبوين التي صارت يومًا ملكة لإمبراطورية مادي وفارس لغرض وقصد إلهي عظيم وهو حفظ الجنس اليهودي بأسره، ليأتي بعد ذلك منهم المسيح بحسب الجسد.  والثانية هي تلك الفتاة المسبية البسيطة التي كانت تعمل خادمة لزوجة نعمان السرياني رئيس جيش آرام (سوريا) في زمانها، والتي قصد الرب لها أن تكون في هذا الوضع البسيط والظروف القاسية لغرض وقصد إلهي كذلك هو توصيل بشارة نعمة الله لنعمان السرياني الأبرص ليطهر من برصه على يد إله إسرائيل بواسطة أليشع النبي.

وهكذا الحال دومًا: هناك قصد إلهي روحي مبارك من حياة كل واحد وواحدة منا، والظروف الزمنية كلها، مواتية كانت أم معاكسة، إنما تخدم هذا الغرض وهذا القصد وليس العكس (أي ليست الروحيات سُلَّمًا للحصول على ما نشتهي ونطمح من زمنيات).  وقبل أن نختتم حديثنا في هذا العدد أود أن أتوجه إلى كل شابة (وكل شاب أيضًا) بهذه الكلمات:

أختي الفاضلة، يا من تتمنين وتحلمين بالفارس الذي ينتشلك من ظروفك الزمنية القاسية "العريس اللقطة" أخشى عليك من قلبي من هذا التوجه الذي قد يؤدي إلى تحطيم مستقبل حياتك. اقبلي بمشيئة الله، ولو في إنسان بسيط ولكنه تقي ومجتهد.  واعلمي أن السعادة يصنعها الله في حياتنا بخضوعنا لمشيئته ولا يصنعها المال أو الجاه.  ويا من أخذت قرار الارتباط بالتقي رغم ظروفه الصعبة وتعيشان معًا ألوانًا من ضنك العيش أو الظروف المعاكسة غير المفهومة، لك في المطوبة مريم وما عانت خير الحكمة والتشجيع واعلمي أن إلهنا يراقب وهو إله التعويضات ولا يسمح لنا أبدًا بالحرمان من كل الاتجاهات.  وإن دققنا النظر في حياتنا ووسعنا دائرة النظر فسنجد أن التعويضات الإلهية أغزر وأعمق من كل حرمان يسمح لنا به في حكمته العالية.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com