”العجوز والصرافة الشابة“ ... كان هذا اسم رواية للكاتب ”خوان خوسيه مياس“ وهو أحد أبرز الكتاب الأسبان المعاصرين. والرواية تحكي عن علاقة تنشأ بين شابة تعمل على
الخزنة في سوبر ماركت، وبين سيدة عَجُوز نحيفة لها جسد كالعصفور. إنها تشتري كل
يوم رغيف خبز وعلبتي زبادي، وساعة الدفع كانت تختار أن تقف في الصف الذي يؤدي
لهذه الصرَّافة الشَّابة. وسرعان ما نشأت
بينهما حالة من الود والصداقة الصامتة.
وذات
يوم، وبعد أن وضعت العَجُوزُ ما اشترته في حقيبتها، سلَّمت للشابة مظروفًا، ما أن
فتحته حتي وجدت به مفاتيح بيت العجوز، كما وجدت ورقة كتبت فيها عنوان بيتها
القريب، وتقول أيضًا: ”إذا لم آتِ ذات يومٍ لشراء احتياجاتي، فالسبب سيكون وفاتي.
ففي هذا اليوم أدخلي بيتي، خذي كل ما
يعجبك كذكرى، وبعد ذلك بلغي الشرطة ليدفنوني كما ينبغي، قبل أن يتعفن جسدي“.
ومرت
الأيام والعجوز تظهر في موعدها. لقد توطدت علاقتهما. وبينما الصرَّافة الشَّابة تضع المشتريات علي جهاز
كشف السعر، كانا يتحدثان عن الحياة والصحة والزمن. وكانت العجوز تشتري كل يوم أقل من سابقه. كانت
صحتها تسوء، واحتياجاتها تقل، من دون أن تشير أبدًا إلي الاتفاق الذي
تم بينهما.
أخيرًا
اختفت العَجُوزُ. وأنهت الصرافة الشابة
ورديتها الأولي والثانية، وأغلق السوبر ماركت أبوابه، والعَجُوز ما زالت مختفية.
حينئذ توجهت الصرافة الشابة إلي منزل العَجُوز
القريب، ودقت الجرس عدة مرات من دون جدوي. حينئذ فتحت الباب بالمفتاح الذي تحمله،
ودخلت.
كانت العَجُوزُ ميتة فوق كنبة الصالون. وكان
التليفزيون مشتعلاً. بعد لحظات الحيرة
الأولي، تجوَّلت في الشقة، وقلّبت الأدراج حتى عثرت داخل أحد الدواليب علي حافظة
كبيرة من الجلد مُمتلئة بالمال. لقد كان
المبلغ أكبر مما تستطيع أن تتخيل. وعندما
حملت الحافظة تحت إبطها وهمت بالخروج، خيِّل إليها أن العَجُوز تتنفس. وعندما لمست كتفها برعب، عادت العَجُوزُ
لسكونها. حينئذ خرجت بالمال، لكنها لم
تبلغ الشرطة.
”سيُبلِغ
أحد الجيران الشرطة عندما تفوح الرائحة في السلم“؛ هكذا فكرت في نفسها. لقد انتصر الجشع والحاجة
علي ما هو إنساني. فحتي لو لم تكن العَجُوز قد ماتت فهي على وشك
ملاقاة أجلها، بالإضافة إلى ذلك هي في حال من السكينة، ولا تعاني.
خلال
الأيام التالية كانت اشترت شقة فخمة هائلة.
ولكنها راحت تعاني من صراع بين تأنيب ضميرها ومتعتها بالمال. أسبوع وراء آخر. وفجأة رأت العَجُوز تدفع عربتها في السوبر
ماركت، تشتري ما اعتادت شراءه من أكل يُشبه أكل العصافير. وهي - بعدما فعلت
- اتجهت إلي صف آخر، غير الصف الذي يؤدي بها الي الصرَّافة الشابة.
كان
هذا مُلخص القصة التي قرأتها، وظللت طوال اليوم أتفكر لا في العَجُوز التي تخطو
إلى أبديتها في هدوء وسلام واكتفاء، ولكني ظللت أتفكر - شاعرًا بالإشفاق والرثاء -
في الصرَّافة الشَّابة؛ في حالة قلبها وضميرها المُثقلين بالخيانة الشنيعة. كيف ستواصل حياتها؟! كيف ستستمتع بما يهبه الله لها؟! فما أتعس وما أشقى إنسانًا شاعرًا بالذنب
وملامة القلب، مضطربًا إذ لا يستطيع أن يُتكئ رأسه باطمئنان لينام، هادئ البال
مستريحًا هانئًا، إذ أن ضميره يؤرقه ويشتكي عليه.
لقد
تصوَّرتُ ضمير هذه الشَّابة وهو يُطاردها ويوَّبخها على خيانتها وفعلتها الخسيسة،
ويمد إصبع الدينونة مُشيرًا إليها، ويصرخ في وجهها: ”خائنة! خائنة! ... سارقة! سارقة!“
يقولها لها في كل مرة تدخل شقتها التي اشترتها بالمبلغ الذي أخذته، وتركت
العَجُوز تحتضر وحيدة. يقولها لها في
الليل والنهار ... في الضجيج والهدوء ... في الحركة والسكون.
لقد
أودع الله في أعماقنا الضمير ليكون أحد خطوط الحماية الأولى ضد الخطية، ومن واجبنا
ألا نحتقر حمايته، ونحاول إسكاته. لقد
جعله الله في الإنسان ليُرشده إلى الصواب في أي مكان وزمان. وإذا كان الله قد أعطى الناموس لليهودي، فإنما
لكي يُعطيه إدراكًا أعمق وأكمل للحق. أو
في عبارة أخرى لكي يرى الحق في نور أبهر وأبهى.
لكن الأممي أيضًا كان له النور في وجدانه وضميره «لأَنَّهُ الأُمَمُ
الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ
فِي النَّامُوسِ، فَهَؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ
لأَنْفُسِهِمِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي
قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا
مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً» (رو2: 14، 15).
ولكن
يا لرعب ما يُمكن أن يُسبّبه الضمير المُشتكي الملوم من هلع وفزع! ولنذكر أنه عندما اختلف الناس حول شخص الرب
يسوع، في أيام جسده، وذهبوا شتى في الحديث عن شخصه، فإن هِيرُودُس رَئِيس الرُّبْع،
قاتل يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ؛ كان له رأي واحد: «هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي
قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ
مِنَ الأَمْوَاتِ!» (مر6: 16؛ مت14: 2).
هذا هو الضمير الذي امتلأ إحساسًا بالذنب!
لم يجد هيرودس عذرًا يعتذر به عما فعل، أو تبريرًا له. «الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ»؛ هذا هو
الصوت الذي يصرخ في أعماقه قائلاً له: ”قاتل!
قاتل!“ ويُتابعه أينما ذهب؛ في
وحدته أو في وسط الجموع ... وأينما ذهب ولو إلى آخر الأرض. ويا للخوف!
ويا للقلق! ويا للفزع! ويا للاضطراب!
لقد فعل ذلك إرضاءً لراقصة فاجرة، لمجرد إشباع شهوته. فهو الذي كان يقول له: «لا يحل لك». لقد ظن بقطع رأسه أن هذا الصوت سيصمت إلى
الأبد، لكنه شعر الآن أن ذات الشخص قد قام من الأموات، وأن الله قد وقف في صفه
وأيده بقوات وآيات معجزية، مع أنه في حياته السابقة لم يعمل ولا آية واحدة. نعم لقد قام وهو يتحرك بحرية حوله، وسيأتيه
يومًا ليُصفي الحساب معه، وهو إلى أين يذهب؟ أي ذعر كان فيه! هذا هو نصيب كل مَن يلومه قلبه وضميره ولا
ينسحق تائبًا. فالله على استعداد أن يغفر
مهما كان الشر عظيمًا، على أساس التوبة والإيمان بدم المسيح، وهذا ما يريح الضمير
المُتعَب ويعطي للقلب السلام.
أيها
الأحباء: ما أحوجنا في هذه الأيام أن نُطيع التحريض: «الْبَسُوا
سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ
إِبْلِيسَ ... لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ ... فَاثْبُتُوا
... لاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ» (أف6: 11-14). ”دِرْعُ
الْبِرِّ“ يعني السيرة المقدسة والضمير الحساس الذي بلا عثرة من نحو الله
والناس (أع24: 16). هذا الضمير يجب أن
يُميِّز المؤمن سواء كان تاجرًا في تجارته، أو موظفًا في وظيفته، أو طالبًا في
امتحاناته، فلا يجد العدو ثغرة في سلوكنا العملي ينفذ منه ليشتكي علينا، ويُصيبنا
في مقتل. لذا يجب على كل المؤمنين
الحقيقيين الذين تبرروا مجانًا بالفداء الذي بيسوع المسيح أن يحيوا حياة البِرّ
العملي «قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ للهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ
آلاَتِ بِرٍّ للهِ» (رو6: 13؛ 3: 24).
لأنه هل نستطيع أن نثبت ضد مكايد إبليس، وصوت الضمير يشتكي علينا ويلومنا،
بسبب أمور لا يرضى عنها الرب، ونسكت عليها دون أن نحكم على أنفسنا؟
لقد
كان يوسف الشاب - في بيت فوطيفار، وفوق
ثياب الخدمة - لابسًا ”دِرْعُ الْبِرِّ“، فخابت معه غوايات
الشيطان، وارتدت عنه سهام تلك المرأة الشريرة، إذ قال مقولته الشهيرة: «كَيْفَ أَصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ
وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟» (تك39: 9). صحيح دخل السجن، لكن دخله بضمير غير منزعج،
وهذا أهم شيء. اسمعه يقول: «لأَنِّي قَدْ
سُرِقْتُ مِنْ أَرْضِ الْعِبْرَانِيِّينَ. وَهُنَا أَيْضًا لَمْ أَفْعَلْ شَيْئاً حَتَّى
وَضَعُونِي فِي السِّجْنِ» (تك40: 15).
ونحن نعلم كيف أكرمه الرب بعد ذلك، فركعت أمامه كل ركبة في مصر (تك41: 43).
ودَانِيآلُ - فوق ثيابه الرسمية
في بابل - كان لابسًا «دِرعَ البِرِّ»؛ «ثُمَّ إِنَّ الْوُزَرَاءَ وَالْمَرَازِبَةَ كَانُوا
يَطْلُبُونَ عِلَّةً يَجِدُونَهَا عَلَى دَانِيآلَ ... فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ
يَجِدُوا عِلَّةً وَلاَ ذَنْبًا، لأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ
خَطَأٌ وَلاَ ذَنْبٌ» (دا6: 4)، وهكذا خابت معه مكايد الشيطان وارتدت عنه سهام الوزراء
والمرازبة. واسمعه، من داخل جب الأسود الذي دخله بضمير غير منزعج، يقول
مقولته الرائعة: «يَا
أَيُّهَا الْمَلِكُ، عِشْ إِلَى الأَبَدِ! إِلَهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ
أَفْوَاهَ الأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّنِي، لأَنِّي وُجِدْتُ بَرِيئًا قُدَّامَهُ،
وَقُدَّامَكَ أَيْضًا أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَمْ أَفْعَلْ ذَنْبًا» (دا6: 21،22).
ليت كل منا يكون لسان حاله:
«أَنَا أَيْضًا أُدَرِّبُ
نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِمًا ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ اللهِ
وَالنَّاسِ»
(أع24: 16).