عدد رقم 5 لسنة 2015
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
كالب والإيمان الغالب  


   كالب من الشخصيات المضيئة والمتميزة في جيله، وهو بطل من أبطال الإيمان وإن لم يكن قد ذُكر بالاسم في سحابة الشهود المدونة في (عب 11)، لكنه يُحسب ضمن الذين بالإيمان نالوا مواعيد، وهو ضمن أقلية أكرموا الرب بإيمانهم وولائهم له في الوقت الذي كان فيه معظم الشعب في حالة العصيان وعدم الإيمان.

   سنتأمل بنعمة الرب في هذه الشخصية المُتميزة التي ورد ذكرها في 10 فصول من كلمة الله، في 4 أسفار متتالية - العدد والتثنية ويشوع والقضاة - فنجد فضائل تحلَّى بها كالب، لعلها تولد فينا غيرة حسنة للعيش بمثل هذا الايمان الفريد.   

   أولاً: كالب والصحبة الفاضلة

   اقترن اسم كالب بيشوع.  تطبع به وصار لهما ذات الفكر والإيمان والثقة في مواعيد الرب.  يشوع رمز للمسيح لذلك من الطبيعي أن اسم يشوع يتفوق على اسم كالب ويكون متقدمًا عن كالب.  هنا نتعلم درسًا عمليًا هامًا؛ أن كل انسان يتأثر بمن يقترب إليهم ويصادقهم ويقضي معهم معظم وقته.  خاصة إذا كان مغرمًا بشخصياتهم أو معجبًا بآرائهم وإنجازاتهم في الحياة، لا بد أن تتطبع حياته بهم ويتأثر بتوجهاتهم وتصرفاتهم.  «رَفِيقٌ أَنَا لِكُلِّ الَّذِينَ يَتَّقُونَكَ وَلِحَافِظِي وَصَايَاكَ» (مز 119: 63) «الْمُسَايِرُ الْحُكَمَاءَ يَصِيرُ حَكِيمًا..» ( أم 13: 20 )، الأتقياء يتلاقون ويسرون بصحبة  كل من يتقون الرب.  كذلك العلاقة القريبة من الرب لا بد أن تطبع في المؤمن ملامح الرب، فأجمل الخصال تنبع وتلمع داخل الحجال.  الرب يشكل ويؤهِّل ويجمٍّل الذين يلتصقون به ويتطلعون إليه وحده، وينظرون مجده بوجه مكشوف، فيتغيروا إلى تلك الصورة البهية بقوة الروح القدس. 

   ثانيًا: كالب والتبعية الكاملة 

   ست مرات يُذكر عن كالب أنه "اتبع الرب تمامًا"، أي أن كالب كان له الفكر الموافق لفكر الرب ووجهة النظر التي تتوافق مع قلب الرب، وكان يُقيِّم الأمور ويراها بعين الرب.  وهذا واضح جدًا من موقفه من الإرسالية التي أرسل فيها مع إخوته الآخرين الذين ذهبوا ليروا الأرض.  أغلبهم رأى الأمور بعين الإنسان الطبيعي، لكن كالب ويشوع رأيا الأمور بعين الله.  «وَكَلَّمَا كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلَيْنِ: «ٱلأَرْضُ ٱلَّتِي مَرَرْنَا فِيهَا لِنَتَجَسَّسَهَا ٱلأَرْضُ جَيِّدَةٌ جِدًّا جِدًّا... لاَ تَتَمَرَّدُوا عَلَى ٱلرَّبِّ، وَلا تَخَافُوا مِنْ شَعْبِ ٱلأرْضِ لأنَّهُمْ خُبْزُنَا.  قَدْ زَالَ عَنْهُمْ ظِلُّهُمْ، وَٱلرَّبُّ مَعَنَا. لا تَخَافُوهُمْ» (اَلْعَدَد ١٤: ٧- ٩).

   اتبع كالب الرب طوال الرحلة.  تمسك بوعد الرب ولم تُطفئ السنين لمعان هذا الوعد الذي جدَّد طاقاته وشدَّد همته فلم يستضعف أو يتراجع عما امتلأ به قلبه من سنوات طويلة مضت.  ظل متعلقًا بالوعد لمدة خمسة وأربعين سنة، «فَتَقَدَّمَ بَنُو يَهُوذَا إِلَى يَشُوعَ فِي ٱلْجِلْجَالِ. وَقَالَ لَهُ كالب.... كُنْتُ ٱبْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حِينَ أَرْسَلَنِي مُوسَى عَبْدُ ٱلرَّبِّ مِنْ قَادَشِ بَرْنِيعَ لأتَجَسَّسَ ٱلأرْضَ.  فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ بِكَلامٍ عَمَّا فِي قَلْبِي» ( يشوع 14: 6).  اعتبر كالب أن الأمور الثمينة في عيني الرب هي أيضًا ثمينة لديه.  عندما دخل الأرض لم ينشغل قلبه بثمار وادي أشكول، لكن بالجبل الذي في حبرون.  معنى حبرون "صحبة أو شركة".  ما أحلى وأغلى حبرون! إن أعظم نصيب للمؤمن من دائرة البركات التي بوركنا بها في السماويات في المسيح، هو الشركة مع الآب ومع ابنه. الإنسان الطبيعي لا يرى أي جاذبية في الجبل الذي في حبرون لكن عين الإيمان ترى عظمة وسمو العلاقة مع الله بصورة لا يفهمها الشخص الطبيعي.  زار كالب كنعان زيارة، وداست قدماه حبرون ورأى الجبل، ومن وقتها لم تغب هذه المناظر من مخيلته لمدة ٤٥ سنة، وكأن كل مشتهاه ورجائه أن يمتلك الجبل وتكون حبرون من نصيبه.  وعندما حانت الفرصة طالب بالوعد أن يكون له هذا الجبل ميراثا فقال ليشوع: «فَالآنَ أَعْطِنِي هَذَا ٱلْجَبَلَ» (يَشُوع 14: 12). 

   ثالثًا : كالب رجل الثقة الهائلة

   كالب من الرجال الذين لا يُحملون برأي الأغلبية، ولا يتزعزع بسبب التيارات السائدة أو المخاوف الزائدة.  لم يكن كموج البحر الذي تارة يعلو وتارة يهوي.  وضع في قلبه أن يقف في صف الرب ثابتًا وواثقًا مهما كان موقف الآخرين. وسط عتمة العناد والتمرد الأثيم وضباب الشك والخوف المبين، لمع إيمانه وأضاء وحاز إعجاب السماء فسطَّر الوحي شهادته الصادقة عن إيمانه القوي الذي حرك قلب الله، فأقسم بذاته أن ينال مجازاته.

   حين ذهب اثني عشر رجلاً لتجسس الأرض التي وعدهم بها الرب، رجع عشرة رجال منهم بتقرير رديء  كسر قلب موسى وأثار غضب الرب، بينما كان لكالب ويشوع رأيًا آخر.  رأيا أن مسرة الرب أن يعطيهم الأرض، وأنها جيدة جدًا جدًا، وأن هؤلاء العناقيين سيكونون خبزهم، وقد زال عنهم ظلهم.  أي أنهم رأوا الأرض بعين الرب، تمامًا كما وعدهم بأنها جيدة، ورأوا سكان الأرض أيضًا بعين الرب، أنهم سيكونون طعامًا لهم كالخبز، وأن الحماية قد رفعت عنهم.  قوتهم  قد تلاشت، فلا داع للخوف.

   أتصور كالب يتساءل ويقول: كيف نسي إخوتنا هكذا سريعًا ما فعل الله عندما أصعدنا من مصر بيده الرفيعة! كيف شق بحر سوف وأوقف المياه كندٍ!  وكيف قضى على فرعون بذراعٍ ممدودة وقوية!  هل يعسر عليه القضاء على العناقيين  ويعطينا الأرض؟ فصاح صيحة الإيمان: «إِنَّنَا نَصْعَدُ وَنَمْتَلِكُهَا لأَنَّنَا قَادِرُونَ عَليْهَا».

   رابعًا: كالب والروح الفاضلة

   للأسف كان صوت عدم الإيمان قد غطى على صوت رجل الإيمان، « فَرَفَعَتْ كُلُّ الجَمَاعَةِ صَوْتَهَا وَصَرَخَتْ. وَبَكَى الشَّعْبُ تِلكَ الليْلةَ.  وَتَذَمَّرَ عَلى مُوسَى وَعَلى هَارُونَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيل وَقَال لهُمَا كُلُّ الجَمَاعَةِ: «ليْتَنَا مُتْنَا فِي أَرْضِ مِصْرَ أَوْ ليْتَنَا مُتْنَا فِي هَذَا القَفْرِ» (عد14: 1، 2)، هذا ما تمنوه .. ليتنا متنا!  لكن ماذا كان موقف الرب؟ « حَيٌّ أَنَا فَتُمْلأُ كُلُّ الأَرْضِ مِنْ مَجْدِ الرَّبِّ، إِنَّ جَمِيعَ الرِّجَالِ الذِينَ ... لمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِي  لنْ يَرُوا الأَرْضَ ... وَأَمَّا عَبْدِي كَالِبُ فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَتْ مَعَهُ رُوحٌ أُخْرَى وَقَدِ اتَّبَعَنِي تَمَاماً أُدْخِلُهُ إِلى الأَرْضِ التِي ذَهَبَ إِليْهَا وَزَرْعُهُ يَرِثُهَا» (عد14: 21 - 23).  كان مع كالب "روح أخرى"، "أي متميزة أو متفردة" كما قيل عن دانيال إنه كانت فيه روح فاضلة؛ توجهات قلبه كانت مختلفة عن أبناء جيله، لم يكن يسير في تيار الأغلبية مهما كان التيار جارفًا، ولم يتكلم بلغتهم أو له وجهة نظرهم.  كما أن الروح الأخرى نراها فيما يتضمنه أحد معاني اسمه "من كل القلب".  فكل شيء كان يفعله من كل قلبه بقناعة قوية وإيمان راسخ لا يتزعزع.  يليق بالرب ألا نتبعه ونعبده بقلوب فاترة، بل نحبه من كل القلب، ونشكره ونرنم له من كل القلب، ونخدمه من كل القلب.  

   خامسًا: كالب قدوة لأفراد العائلة

   «قَالَ كَالَبُ: «ٱلَّذِي يَضْرِبُ قَرْيَةَ سَفَرٍ وَيَأْخُذُهَا، أُعْطِيهِ عَكْسَةَ ٱبْنَتِي ٱمْرَأَةً».  فَأَخَذَهَا عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ، أَخُو كَالَبَ ٱلْأَصْغَرُ مِنْهُ. فَأَعْطَاهُ عَكْسَةَ ٱبْنَتَهُ ٱمْرَأَةً. وَكَانَ عِنْدَ دُخُولِهَا أَنَّهَا غَرَّتْهُ بِطَلَبِ حَقْلٍ مِنْ أَبِيهَا.  فَنَزَلَتْ عَنِ ٱلْحِمَارِ، فَقَالَ لَهَا كَالَبُ: «مَا لَكِ؟» فَقَالَتْ لَهُ: «أَعْطِنِي بَرَكَةً.  لِأَنَّكَ أَعْطَيْتَنِيً أَرْضَ ٱلْجَنُوبِ، فَأَعْطِنِي يَنَابِيعَ مَاءٍ».  فَأَعْطَاهَا كَالَبُ ٱلْيَنَابِيعَ ٱلْعُلْيَا وَٱلْيَنَابِيعَ ٱلسُّفْلَى» (اَلْقُضَاة 1: 10-15).  كالب كان من الذين يشجعون الآخرين على امتلاك البركات.  كان نموذجًا جيدًا للشيوخ الذين يشجعون الشباب، وأول من استفاد بتشجيعه هم شباب من عائلته.  عندما عرض العرض الذي نفهم منه أنه يريد أن يُكافئ شخصًا شجاعًا يقدر قيمة الأرض الجيدة التي أعطاها الرب ميراثاً لهم.  فاز بهذا العرض ابن اخيه؛ عثنيئيل بن قناز، أول القضاة في فترة حكم القضاة، فحارب وامتلك قرية "سفر" والتي معناها "كتاب" والتي تغير اسمها بعد ذلك إلى "دبير" أي "أقوالاً حية".  هنا نرى رمزًا جميلاً للمؤمن المجتهد الغيور على امتلاك البركات التي صارت له في المسيح ؛ فالكتاب يصير له ليس مجرد كلمات وسطور لكن يراه أقوالاً حية، يحيا بها.  ليس غريبًا أن نجد عثنيئيل يأخذ هذه الخطوة المباركة لأنه رأى في عمه نموذجًا وقدوة في مَن يُقدَّر أمور الرب ويثق في قدرة الرب وينتظر الرب بصبر حتى ينال المواعيد.  ما أروع المؤمن الذي يكون قدوة لأفراد عائلته في تقدير البركات الروحية وسائر الأمور الإلهية الثمينة!  وليس ذلك فقط بل كان كالب رمزًا للآب السماوي الذي يهب خيرات للذين يسألونه، ويعطي بسخاء ولا يُعيِّر.  فعندما طلبت منه عكسة ينابيع ماء، أعطاها بسخاء الينابيع العليا والينابيع السفلى.  والآب السماوي يهبنا البركات الروحية السماوية والبركات الزمنية التعويضية.

    وما أحلى أن يُمسك شيخًا مباركًا بيد شاب يشتاق لحياة البركة ويُقدِّر أمور الله المباركة!  

                                                                                    

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com