عدد رقم 5 لسنة 2015
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
السجود  


   السجود يرتبط بالكهنوت المُقدس في البيت الروحي، الذي يضم جميع المؤمنين (كنيسة الله على الأرض)، لتقديم الذبائح الروحية المقبولة عند الله بيسوع المسيح (1بط2: 5).  وهو أسمى امتيازات المسيحي، وقمة ما يطلبه الآب من قديسيه في الوقت الحاضر، بل هو الشيء الوحيد الذي نقرأ في كل الكتاب أن الآب يطلبه، وهو ما سيشغل قلوبنا في السماء بطول الأبدية.

   إن السجود هو فيضان القلب، تحت تأثير النعمة، بالتعبد والتغني والتقدير والإكرام والمديح، لأجل من هو الله في ذاته ومن هو للساجدين.  والساجد هو شخص غير مشغول بحاجته وظروفه، ولا حتى بالبركات التي حصل عليها، بل بالله نفسه في أمجاده وعظمته وجلاله وسموه وتفرده وصلاحه ونعمته، طبقًا لما يعلنه الروح القدس ويلمس به قلب الساجد، فيهتف من أعماقه: ما أعظمك! ما أعظمك!  يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أعظم أعمالك وأعمق جدًا أفكارك!  باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس.  وفي صلاة حنة (1صم2)، وتسبحة مريم (لو1) نرى مثالاً للسجود، ففي الحالتين كانت المشغولية أساسًا بالرب نفسه.

   وفي رموز العهد القديم نقرأ عن مذبح البخور الذهبي الذي كان في القُدس في خيمة الاجتماع، حيث كان الكاهن يدخل ليُصعد البخور الذي يشتمه الله رائحة سرور.  ولكن لأن «الله روح»، فإنه لا يمكن أن يُسر بمجرد رائحة البخور المادية.  لكن هذا كان جزءًا من منظومة العهد القديم الرمزية مثل الخيمة والكهنوت والذبائح الحيوانية والتقدمات ... الخ، والتي قال عنها الرسول: «وكل ذلك رمز» (غل4: 24؛ عب9: 9؛ 8: 1-5).  أما الحقيقة التي أُعلنت في العهد الجديد فهي المسيح.  فإننا في البخور العطر، نرى رمزًا جميلاً لكمالات وأمجاد المسيح، التي يُقدمها الساجد الآن، فيجد الآب كل سروره فيها (مت3: 17، 17: 5).  ولم يأتِ ذكر مذبح البخور الذهبي (خر30) إلا بعد الكلام تفصيليًا عن مذبح النحاس الذي في الدار الخارجية، والذي كانت تُقدَّم عليه الذبائح الدموية (خر27).  ومذبح النحاس يكلمنا عن صليب المسيح واحتماله لدينونة خطايانا.  فهناك يتقابل الإنسان الخاطي مع الله ويحصل على الغفران والمصالحة، والله يقبله ويرحب به في استحقاقات الذبيحة، وبعد ذلك يتسنى له أن يدخل إلى القدس ككاهن لكي يسجد ويصعد البخور على المذبح الذهبي.  ولكي يتأهل أدبيًا للاقتراب إلى الله وتقديم السجود، كان يمر أولاً على المرحضة النحاسية التي تلي مذبح النحاس في الدار الخارجية، لكي يغتسل بالماء ويتطهر أولاً ثم يدخل إلى القدس للسجود أو الخدمة.  وماء المرحضة لم يكن إلا رمزًا لتأثير الكلمة الإلهية المُطهر بفاعلية الروح القدس. 

   في خر 29 نقرأ عن المحرقة الدائمة التي تكلمنا رمزيًا عن سرور الله بعمل المسيح في الصليب، كمن أطاعه ومجده، وبعد ذلك نقرأ في خر 30 عن إصعاد البخور على مذبح الذهب الذي يتكلم رمزيًا عن السجود.  من هنا نفهم أن السجود الرمزي ارتبط بالمحرقة الدائمة الرمزية، أما السجود الحقيقي (الآن) فيرتبط بالمحرقة الحقيقية، شخص المسيح الذي قُدِّم على الصليب.  نحن الآن نُقدِّم للآب السجود بعد أن قدَّم الله ابنه الوحيد كفارة على الصليب.

   وفي حديث الرب مع السامرية (يو4) أعلن إعلانًا جديدًا أن السجود الحقيقي (وليس الرمزي كما كان عند اليهود) هو الآن في ساعة النعمة، وهو للآب الذي أعلنه الابن (وليس ليهوه كما في العهد القديم)، وهو ليس في أورشليم (في الهيكل الأرضي)، ولا في جبل جرزيم الذي يسجد فيه السامريون، ولا في الأرض إطلاقًا، بل في السماء عينها، حيث دخل يسوع بدم نفسه، إلى الأقداس الحقيقية (وليس الرمزية)، بعد أن انشق الحجاب وفُتح الطريق إلى محضر الله.  وأن السجود الحقيقي طابعه روحي (وليس جسدي أو نفسي بتأثيرات حسية كما في العهد القديم)، وهو موضوعه شخص المسيح في أمجاده، ويُقدَّم بقوة الروح القدس.  كما أنه طبقًا للحق المُعلَن في كلمة الله في العهد الجديد، وما يُطابق الوضع المسيحي في المركز والمقام والامتيازات.  وأخيرًا فإن الآب طالب هؤلاء الساجدين الذين يسجدون له بالروح والحق.  ولم يقل إن الآب طالب مجرد سجود بل ساجدين، فهو يهمه الساجد نفسه من حيث إدراكه وتقواه وخشوعه وتقديره لشخص المسيح وتأثره به، وليس مجرد كلمات يقولها في محضر الله بلا قلب وبلا حياة تقوية تزينها.

   وفي حديث يوسف مع إخوته، عندما عرَّفهم بنفسه، إذ كان متسلطًا على كل أرض مصر، وهو يُرسلهم إلى أبيه، قال لهم: «تخبرون أبي بكل مجدي في مصر، وبكل ما رأيتم» (تك45: 13).  لقد أراد أن يُفرِّح قلب أبيه بهذه الأخبار السارة، بعد أن كُسر قلبُه عليه، إذ حُرم منه لمدة اثنتين وعشرين سنة، واعتقد أن وحشًا رديئًا أكله، وأنه قد افتُرس افتراسًا، ولم يخطر بباله قط أنه حيٌ بعد، وأنه سيراه مُمجدًا في أرض مصر.  وعندما وصل الأولاد إلى يعقوب أبيهم في كنعان، وأخبروه بكل كلام يوسف، وأبصر العجلات الملكية التي أرسلها لتحمله إلى مصر، عاشت روح يعقوب أبيهم.  فإن أحلى وأعذب حديث ينعشه ويُفرحه هو أن يسمع عن ابنه المحبوب، ابن شيخوخته، الابن المُتميِّز في صفاته وأخلاقه، صاحب القميص الملون.  الابن الذي أطاع وقبِلَ الإرسالية، وتحمل الآلام الكثيرة في طريق الطاعة، واستحق أن يتمجد ويلبس البوص النقي البهي، ويوضع طوق الذهب في عنقه، وخاتم فرعون في يده، ويركب المركبة الملكية، وتركع أمامه كل أرض مصر، بمرسوم ملكي من فرعون نفسه.

   ولم يكن يوسف إلا رمزًا لشخص الرب يسوع المسيح، وحيد الآب وابن محبته قبل إنشاء العالم، الذي أطاع وجاء إلى العالم متجسدًا، وسلك طريق الكمال الأدبي الفريد، واستطاع أن يقول للآب في نهاية حياته: «أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو17: 4).  لقد توج طريق الطاعة بموته فوق الصليب.  لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربٌ لمجد الله الآب (في2: 9-11).

   ولأن الرب يسوع يحظى بهذه المكانة الرفيعة عند الآب، فإن سرور الآب الأعظم هو أن يرانا دائمًا مشغولين بابنه ونفكر في أمجاده، ويكون هو موضوع شبعنا وفخرنا وحديثنا، معبرين عن تقديرنا وحبنا وإكرامنا له.  فالسجود الحقيقي يتلخص في هذه العبارة التي قالها يوسف لإخوته: «تخبرون أبي بكل مجدي ... وبكل ما رأيتم» (تك45: 13).  إنه فيضان القلب بما تأثرنا به من إعلان الروح القدس عن أمجاد الرب يسوع المسيح.  هذا ما عبَّر عنه المرنم بقوله: «لساني قلم كاتب ماهر، أنت أبرع جمالاً من بني البشر» (مز45: 2).  إن الساجد يأتي إلى حضرة الله، وقد ملك المسيح على مشاعره وقلبه بالحب والإعجاب، فيُردده ترديدًا أمام الآب.  والسجود ليس مجرد سرد حقائق عن المسيح، وإنما التعبير عن فكرة أو لمحة من أمجاده، لمس الروح القدس بها قلوبنا في هذا الوقت، فتحركت عواطفنا.  ولهذا فإن السجود ليس عبارات محفوظة ومتكررة، بل حية ومتجددة وبقوة الروح القدس.  وهي تدور حول أمجاد المسيح المتنوعة: أمجاده الإلهية، وأمجاده الأدبية كالإنسان الكامل، وأمجاده الاكتسابية والملكية في المستقبل.  هذا ما يفرح الآب.  وهذا ما طلبه يوسف من إخوته، قبل أن يخبروا الناس في كنعان أن يوسف حيٌ ومُمجدٌ، أن يحدثوا أباه بهذا الأمر.  هذا يرينا أهمية السجود أولاً قبل الخدمة والحديث إلى الناس.

                                                               

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com