عدد رقم 5 لسنة 2015
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
جيل الثورة أم جيل النهضة 5  


خامسًا: الاندفاع نحو الحرية

(تابع ما قبله)

  تكلمنا في المقال السابق عن تطور مفهوم الحرية باعتباره الأثر الخامس من آثار الموجة الثانية للثورة، وكالمعتاد تأثر شبابنا المسيحي بهذا الأمر، وقد ظهر هذا التأثر في صورة رفضهم كل أشكال السلطة الكنسية مثل الإنذار أو التأديب والحكم داخل الكنيسة، على أنني لم أقم بكتابة هذا المقال بغرض شرح التعليم الخاص بهذا السلطان الكنسي، لكن لي غرضان وراء كتابة هذا المقال هما: توضيح مفهوم الشركة التي أرى أننا اختزلناها لتكون شكلاً من أشكال العلاقات الاجتماعية، وتفسير بعض الآيات المتعلقة بمفهوم الحكم والإدانة والتي أُسيء استخدام بعضها وأُهمل البعض الآخر.

   وقد أوضحنا مفهوم الشركة من خلال الأصحاح الأول من رسالة يوحنا الرسول الأولى، الذي يكشف أن هناك صلة وثيقة بين شركتنا مع الرب وشركتنا بعضنا مع بعض، وأن الشركة بعضنا مع بعض تتطلب شيئًا واحدًا لممارستها هو السلوك في النور.  لذا فلم يكن من المُستغرب أن نجد الرسول بولس يكلف الروحيين في كنيسة الله بإصلاح من أُخذ في زلة ما (غل6: 1)، هذا لأن الزلة إذا لم تُعالَج ستتحول إلى سلوك في الظلمة، الأمر الذي يستوجب العزل من الشركة، وهو سلطان منحه المسيح للكنيسة المجتمعة إلى اسم الرب فقط، وهو ما يُطلق عليه "سلطان الحل والربط" (مت18: 18-20).  والسؤال الآن: لماذا يتدخل الروحيون ليصلحوا؟ ولماذا يتدخل الشيوخ لينذروا؟ ولماذا تتدخل الكنيسة لتحكم إذا فشلت المحاولات السابقة؟  والإجابة المبدئية هي أن الله لم يدعُنا لنؤسس علاقة وشركة معه فحسب، ولكنه أسس كيانًا يضم إليه كل هؤلاء المدعوين، فيمتعهم بالفرح الكامل الذي يصل لقلب المؤمن من خلال علاقة تواصل حميمة ذات وجهين هما الشركة معه والشركة بعضنا مع بعض.

   وقد يظهر البعض اعتراضًا على هذا الكلام، وهذا الاعتراض يبدو من الخارج أنه اعتراض على التعليم نفسه، لكني إحقاقًا للحق، وبعد مناقشات كثيرة مع شباب مخلصين يحبون الرب وكلمته، وجدت أن الاعتراض الحقيقي ليس على التعليم، فهذا التعليم له غلاوته على قلوب الكثيرين منهم، إذا تم تطبيقه بشكل صحيح في اجتماعاتنا دون محاباة.  لكن حقيقة الأمر أن واقعنا يشهد أننا كثيرًا ما فشلنا في تطبيق الحق المختص بالتأديب الكنسي كما علمته لنا كلمة الله، مما أدى لإيجاد ثغرات عديدة، دخلت منها الثعالب الصغيرة لتفسد العلاقة بين شبابنا وشيوخنا.  ومن ينكر هذه الحقيقة فهو كمن يريد أن يضع برقعًا على وجهه لينكر وجود الشمس في وضح النهار.

  وقد أشرنا في العدد السابق إلى ثلاث آيات هي: "لا تدينوا لكي لا تُدانوا" (مت7: 1-5)، "لا لمحاكمة الأفكار" (رو14: 1)، "إذًا لا تحكموا في شيء قبل الوقت" (1كو4: 3-5)، ونواصل حديثنا في نصين من النصوص الكتابية الهامة كما يلي:

رابعًا: " وأما الروحي فيحكم في كل شيء " (1كو2: 12-15)

  رأينا أن الناس أساءوا استخدام الثلاث آيات السابقة، وسنرى أنهم أهملوا هذه الآية والتي تليها.  للأسف يعتبر الكثيرون أن الروحي يتميَّز بأنه يتكلم دائمًا عن المسيح فقط، وبالقطع فإن هذا صحيح، لكننا نرى هنا شيئًا آخر يُميِّز الروحي، وهو أنه يستطيع أن يحكم في كل شيء، ولما كانت خلفية الكلام تتعلق بالوحي، وجدنا الرسول يقول إن الإنسان الطبيعي، أي غير المولود من الله، لا يمكنه أن يقبل ما يقدمه روح الله من خلال الوحي، بل إنه يراها جهالة أن يتبع إنسان هذه التعاليم، أما الروحي فليس فقط يقبلها ويعرف كيف يطبقها على حياته، لكنه فوق هذا يملك القدرة على التمييز بين ما يتفق مع كلمة الله وما لا يتفق معها، وهذا هو معنى الحكم هنا.  نلاحظ أن الشرط الوحيد لامتلاك الإنسان لهذه القدرة هو أن يكون روحيًّا.  وعندما اختلطت المسيحية بالعالم طبقت منهجه في أمور الله، فجعلت الدرجة العلمية في العلوم اللاهوتية هي المعيار لمدى صلاحية صاحبها في التمييز في الأمور الروحية، وما يؤهله لأن يكون خادمًا للمسيح.  وبالطبع إن كلمة الله تخبرنا أن هذا منهج محكوم عليه بالفشل، فأمور الله لا تُدرَك بالمنهج العلمي لكن بعمل الروح القدس، وهذا رأيناه بعيوننا في كثير من أولاد الله البسطاء علميًّا.  إن التمييز الروحي لا يقتصر على التمييز بين الخير والشر، لكنه يمتد ليميز بين الغث والثمين بل بين ما هو حسن وما هو أحسن.

  ليتنا نفهم أننا سنعاني من مغبة تجاهل ما يُحذر منه الروحيون الذين يتذوقون السم وقد وضعه المُعلِّمون الكذبة في العسل.  إنها نعمة من الله أن يوجِد بيننا روحيين يكتشفون الماء المُضاف إلى لبن الكلمة، فالشعب قبل ذهابه للسبي تأديبًا من الرب لهم، أرادوا أن لا يكون بينهم أنبياء ونذيرين، لأنهم كانوا يُهَيِّجون ضمائرهم على ما كانوا يريدون أن يعيشوا فيه خلافًا لكلمة الله، فمنعوا الأنبياء من التكلم، ونجسوا انتذار النذيرين بأن سقوهم خمرًا (عا2: 11، 12 )، ليتنا لا نجهل أفكار إبليس الذي أغوانا بكثرة من سيسمعوننا ويأتون إلى اجتماعاتنا إذا توقفنا عن فضح كل تعليم ليس بحسب الكتاب، فلم تعد لدينا الرغبة في أن نكون مُميِّزين حتى بين الخير والشر، بل وتوقفنا عن أن نمتحن كل شيء لنتمسك فقط بالحسن (1تس5: 21)، ليتنا في النهاية نسمع ما يقوله الروح للكنائس من خلال أولئك الروحيين.

 

خامسا: " ألستم أنتم تدينون الذين من داخل ؟ " (1كو5: 12، 13)

  بالطبع ليس بوسعي هنا أن أشرح الحق الخاص بالتأديب الكنسي لاسيما وقد أشرنا لبعض الأمور المتعلقة بهذا الحق سابقًا، لكني فقط أريد أن أوجه نظر القارئ لمدى اهتمام الناس الشديد بكلام المسيح في الآية الأولى التي سبقت الإشارة إليها، أعني عندما قال: " لا تدينوا لكي لا تُدانوا "(مت7: 1-5)، وتجاهلهم الشديد في الوقت نفسه لتلك الآية، ألا يثير هذا تساؤلاً عن السبب وراء ذلك؟ وستكون الإجابة المخيفة بالقطع: هي أننا نريد نعمة بدون حق، وأننا نريد أن نتعامل مع الله المحبة وليس الله النور، ألا ترى معي قارئي العزيز أننا وضعنا أرجلنا على قمة المنحدر الذي سبقنا إليه كثيرون منذ سنين طويلة ليصلوا في النهاية إلى القاع فوجدناهم الآن يكرزون بإنجيل ينكر أن جهنم حقيقة.  السؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا: هل نظن أننا أفضل منهم؟ وأنه بإمكاننا أن نحمي أنفسنا من الانزلاق نحو هذه الهوة؟ كلا البتة، وهذا ليس من قبيل جلد الذات لكنها الحقيقة التي يجب أن نعترف بها جميعًا، ولا سبيل أمامنا للخروج من هذه الحالة سوى بالانفصال عن الشر الموجود خارج دائرة شركتنا الكنسية وإدانته إذا وُجد داخلها، وبطبيعة الحال معروف لدينا أن الشر له نوعان هما الأدبي والتعليمي، وجدير بالذكر أننا لا نتكلم هنا عن زلة أو خطية، لكن عن سلوك أو فكر شرير يصر عليه صاحبه، مما يستلزم منا إدانته التي تتمثل في عَزله من الشركة معنا.

تلخيص ما سبق عن الإدانة والحكم

  إن الإدانة لها نوعان، نوع يخدم الذات البغيضة والإنسان يمارسه إما ليبعد أنظار الناس عن أخطائه أو ليظهر تفوقه على إخوته في أمور الله، وعادة ما يلجأ من يدين بهذه الطريقة للتدخل فيما لا يمكن له أن يتكلم بشأنه وهو الدوافع الخفية، أما النوع الثاني فهو يخدم الرب وتمارسه الكنيسة المجتمعة إلى اسم الرب فقط بناءً على سلطة منحها لها المسيح، وتتميم لتكليف قبلته منه، وهو يُمارَس فقط مع مَن بداخلها ولا يدخل في اختصاصه إلا ما بدر من الشخص سواء بالقول أو بالفعل، أما الحكم بمعنى التمييز الروحي بين التعليم الصحيح والخطأ ومدى مطابقة ما نسمعه مع كلمة الله فهذا لا غبار عليه بل إننا جميعًا مطالبون بذلك، وهذا ما يستطيع الروح القدس أن يعمله فقط في الإنسان الروحي.

  نعم لقد كان الناموس عبودية لأنه كان يخاطب الإنسان في الجسد الذي هو غير خاضع لناموس الله لأنه أيضًا لا يستطيع (رو8: 7)، أما الحرية المسيحية فلا تعني أن أفعل ما أريد، لكنها تعني أن أعيش عبدًا وحرًا في آن واحد، فأنا عبد مسؤول أن أطيع السيد في كل ما أوصاني به، لكني في الوقت نفسه حر لأني أمتلك طبيعة مولودة منه وبالتالي فهي ترغب أن تفعل ما يرضيه، وأمتلك أيضًا روحه القدوس الذي يمنحني القوة لتتميم هذا إذ هو وحده الذي يستطيع أن يميت أعمال الجسد، وبالطبع لم يتركنا الله في هذا العالم دون أن يكون لنا مثالاً نتبع خطواته، هو الرب يسوع الذي بالرغم من أن إرادته كانت هي بالضبط إرادة الآب، لأنه هو والآب واحد، لكنه لم يفعل شيئًا واحدًا مدفوعًا بإرادته، بل كان ينحي إرادته جانبًا كما لو أن لا إرادة له، ويصنع كل شيء كعبد ينفذ إرادة سيده، ولذا كان شعار حياته: "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".  ليس هناك مجال للمقارنة بيننا وبينه فالمسافة تصل إلى ألفي ذراع بالقياس لكننا نضعه أمامنا متذكرين ما سبق وأشرنا إليه أن تأثرنا بفكر المسيح هو العلاج الوحيد لأمراضنا الروحية.


 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com