عدد رقم 1 لسنة 2015
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
جيل الثورة أم جيل النهضة 3  

 

  استعرضنا في المقال السابق الآثار الروحية المترتبة على تأثرنا بالموجة الثانية للثورة، حيث تكلمنا عن أثرين هما رفض الدين والميل إلى الوسطية.  وسنتكلم في هذا المقال عن الأثر الثالث من تلك الآثار الروحية السلبية وهو:

ثالثًا: التمسك بنسبية الحق

   كان من أهم الوسائل التي استخدمها الإعلام للهجوم على المتطرفين وإضعاف حجتهم هو اتهامهم بأنهم يتسمون بأحادية الرأي، أي أنهم لا يتقبلون الرأي الآخر بل يكَفِّرون أصحابه، إذ حاولوا فرض رؤيتهم الخاصة للدين على الجميع.  وهذا الجدل الدائر وجد صداه عند بعض الشباب المسيحي الذي ينتظر وبشغف الحجة التي تبرر لضميره أن يسلك وفق رغباته وليس وفق ما تَعلَّمه من حق كتابي يحكم سلوكه، آخذًا من راحة ضميره على ما يفعله دليلاً على أن ما يفعله صحيح - على الأقل بالنسبة له - مستخدمًا آيات كتابية في غير محلها لتأييد موقفه مثل " طوبى لمن لا يدين نفسه في ما يستحسنه "(رو14: 22)، و " كل الأشياء تحل لي لكن ليس كل الأشياء توافق "(1كو10: 23).  فبالرغم من أن الآية الأولى تختص فقط بالأمور التي لم يُعطِ الوحي وصية بشأنها، وأن الثانية لا تعني أنه لا يوجد شيء لا يحل لي، لكنها تعني أن أمتنع عن بعض الأشياء لكونها لا توافق مع أنها تحل لي، نجد البعض يستخدم هاتين الآيتين لصالح إرادته الذاتية المستقلة عن الله.  ولما كانت الحالة العامة تتسم بالارتخاء في التمسك بالحق الكتابي لم نستطع أن نصمد أمام الموجة العاتية التي تدفع بكل قوة لتجعل كل شيء نسبي لنصل معًا لذات الحالة التي وصل إليها الشعب أيام حكم القضاة  " في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل.  كل واحد عمل ما حسن في عينيه " (قض21: 25).

   إننا إذا حاولنا أن نجد في كلمة الله إطارًا مُحددًا للحق سنجده بشكل واضح في كلام المسيح عن نفسه عندما قال: " أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو14: 6)، لكن القول بأن تعريف الحق هو شخص المسيح لا يزال غير كافٍ لمعرفة حدود إطار الحق، على أن الروح القدس أعطى لنا من خلال خيمة الاجتماع نورًا واضحًا لتحديد إطار الحق، وهذا يتفق مع كون خيمة الاجتماع تصور لنا المسيح، فالمسيح هو الكلمة الذي عندما أخذ جسدًا حلَّ بيننا أي نصب خيمته بيننا (يو1: 14)، فالمشابهة بين خيمة الاجتماع والمسيح من جهة معينة لها أساس كتابي.

   والآن في عُجالة يمكننا من خلال تعليق مختصر على كل جزء في خيمة الاجتماع أن نصل إلى غايتنا وهي معرفة حدود إطار الحق المطلق غير النسبي الذي نحن مدعوون للتمسك به وعدم التفريط فيه تحت أي مُسمَّى.  فإذا افترضنا أن إطار الحق هو كالمربع، فإن الخيمة تصور لنا أضلاعه الأربعة من خلال أجزائها الثلاثة وهي قدس الأقداس والقدس والدار الخارجية، ثم الضلع الرابع نراه في شكلها الخارجي.

الضلع الأول للحق: قُدس الأقداس، ونرى فيه تابوت العهد الذي يُمثل حضور الله.  وهكذا نجد أن الضلع الأول من الحق هو ما يختص بشخص الله، من حيث وحدانيته وطبيعته وصفاته وسلطانه، وتجسد أقنوم الابن في جسد حرفي ممثَّلاً في صنع التابوت من ذهب (اللاهوت) وخشب (الناسوت).

الضلع الثاني للحق: القُدس، ونرى فيه ثلاث مسؤوليات على الكنيسة ممثلة في قطعه الثلاث.

 

    مائدة خبز الوجوه: التعليم الخاص بشركة القديسين ككنيسة معًا، وما تقتضيه هذه الشركة من مسؤولية مُلقاة على الكنيسة نفسها بمشاركتها الرب في موقفه من أي خطأ يحدث بداخلها، واتخاذها إجراءات تأديبية متناسبة مع حجم الخطأ، تصل في صورتها القصوى إلى العزل من الشركة، وكذا إجراءات احترازية في حالة رغبة من بخارجها في الانضمام إليها.

  مذبح البخور: التعليم الخاص بمسؤولية الكنيسة في تقديم السجود للآب بالروح والحق، أي بما يتفق مع الطبيعه الجديدة المولودة من الله، فهو سجود روحي يخلو من أي طقوس جسدية أو مؤثرات حسية ونفسية كالموسيقى على سبيل المثال.

  المنارة الذهبية: التعليم الخاص بمسؤولية الكنيسة في كونها شاهدة للحق إذ هي عمود الحق وقاعدته، وهي مسؤولة عن إعلان مجد المسيح في كنيسته.  فمن يدخل إلى اجتماع الكنيسة إلى اسم الرب لا بد أن يرى شخصية الله واضحة من خلال ترتيبه لبيته، فالكنيسة مسؤولة عن احترام هذا الترتيب.  إن اعتراف الكنيسة برئاسة الرب لها في العبادة والخدمة هو جزء هام في هذا الترتيب، فعدم وجود رئيس لاجتماعنا معًا حول الرب، وعدم وجود هيئات لتدريب وإقامة وإرسال الخدام، وترك هذه الأمور للمسيح الرأس، ولحرية الروح القدس هو ما يُظهر احترامنا لهذا الترتيب.  بالطبع إننا لا نغفل هنا ما يختص بدور المرأة في العبادة والخدمة وعدم قيامها بأي عمل قيادي في هذين الأمرين أثناء اجتماع الكنيسة، واحترامها لمبدأ غطاء الرأس، واحترام الرجال لمبدأ كشف الرأس، وهذه بعض الأمثلة الهامة المتعلقة بترتيب الله لبيته.

الضلع الثالث للحق: الدار الخارجية، ونرى فيها المسيح وكونه الأساس في علاقة الإنسان بالله، فالتعليم بأن الإنسان له قيمة تجعله مؤهلاً في ذاته لإقامة علاقة مع الله يخالف ما يمكننا أن نراه في الدار الخارجية مختصًا بالمسيح، وهذا سيتضح مما يأتي.

   مذبح المحرقة: نرى فيه التعليم بفساد الإنسان وإلا فما كانت هناك حاجة لذبيحة المسيح لتأسيس علاقة بين الله والإنسان، كما نرى فيه كفاية الدم للتبرير دون الحاجة لأعمال الإنسان، فلم يكن الإنسان لكونه مخلوقًا على صورة الله ولا أعماله الصالحة يصلحان أساسًا لإقامة تلك العلاقة بعد السقوط.

   المرحضة: نرى فيها التعليم بكل ما سبق وعلَّم به المسيح وهو هنا على الأرض، فالمرحضة صُنعت من مرائي المتجندات، وعلى المسيحي أن يقيس نفسه على القياس الوحيد الصحيح الذي هو الكتاب أي كلمة الله المكتوبة، كذلك المسيح الذي هو كلمة الله المتجسد.  فمن اطلع على الناموس الكامل (أي تعاليم المسيح) هو كمن ينظر في مرآة وهو مسؤول أن يتجاوب مع ماء الكلمة ليتطهر من أي سلوك أدبي لا يتوافق مع قداسة الله (يع1: 21-25).  فأي تعليم يبيح للمسيحي أن يسلك وفق ما يراه صحيحًا دون الرجوع لما تقوله كلمة الله هو تعليم يخالف الحق.

الضلع الرابع للحق: كانت الخيمة مغطاة بجلود كباش محمرة وجلود تخس، وهذه الأشياء لم تكن ذات شكل جميل.  وهذه نظرة العالم للمسيح، كذلك للكنيسة التي ارتبطت بالمسيح.  فالتعليم الذي نجده هنا هو انفصال الكنيسة عن العالم إلى الدرجة التي تجعل العالم غير مُعجب بشكل الكنيسة.  إن ربح غير المؤمنين لا يأتي عن طريق أن نُغيِّر في مبادئنا وتطلعاتنا وسلوكياتنا لنصبح أكثر شبها بأهل العالم لنستطيع أن نصل إليهم، لكن ربحهم يأتي عن طريق محاولتنا إيجاد أرضية مشتركة للحديث معهم عن المسيح، بحيث لا نضطر أن نقول شيئًا بخلاف الحق لنصل من تلك الأرضية المشتركة إلى مطالبتهم بأن يتصالحوا مع الله، وهذا يعني ضمنًا أننا نشهد ضد العالم بأنه أخذ موقف العداوة مع الله (2كو5: 18-20).  كما أن الخلط بين الكنيسة وإسرائيل وعدم التمييز بين تدبير النعمة الحاضر وتدبير الملك في المستقبل – وهو جزء هام في إطار الحق – أدى إلى سعي كثير من المسيحيين لمشاركة العالم في تطلعاته نحو عالم أفضل سياسيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا ظنًا منهم أن بإصلاح العالم سيتوافق العالم مع الكنيسة، وهكذا ستمتلئ الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر، الأمر الذي سيحدث عندما يملك المسيح بالمجد والقوة في تدبير الملك، أما كنيسة الله في تدبير النعمة فليست مدعوة لتحقيق هذا بل إنها مدعوة لإظهار انفصالها عن العالم فكريًا وأدبيًا، فيجب على المؤمن ألا يدع أقوال الفلاسفة سواء المسيحيين أو غير المسيحيين أن تؤثر على أفكاره، ولا يدع مبادئ العالم المدني - وعلى رأسها حرية الإنسان في أن يفعل ما يشاء طالما لم يؤذِ غيره - هي التي تحكم سلوكه، بل عليه أن يُخضع أفكاره وسلوكياته لكلمة الله.  فالذي يؤمن بالمسيح مدعو أن يخرج خارج كل دائرة لا تعترف بالمسيح ربًا، بل وخارج كل نظام بشري ذي شكل مسيحي للعبادة والخدمة، وينضم إلى الكنيسة المنفصلة عن العالم التي تعترف بحق المسيح في رئاسته لها وفقًا لما قصده الآب إذ جعله رأسًا للكنيسة.  إن هذه الأمور تُعد من الحدود الهامة التي تحدد إطار الحق، فانفصال الكنيسة عن العالم فكريًا وأدبيًا يجعلها قادرة على الوجود في وضع روحي صيحيح جماعةً وأفرادًا، كما يمكنها من الشهادة عن رجائها الذي سيتم باختطافها إلى السماء وفقًا للحق المعلن في كلمة الله، وأن العالم العتيد سوف يُخضَع بالتمام للمسيح في الملك الألفي، كما أن إدراكها لتميزها عن إسرائيل يتيح لها الفرصة للشهادة عن أمانة الله تجاه مواعيده في العهد القديم مما يحتم عودة علاقته بشعبه الأرضي في فترة الضيقة لتتميم بركاتهم أيضًا في الملك الألفي.  إن كل ما ذكرناه من حقائق تعليمية وتدبيرية في هذه النقطة هي بالطبع تُعد ضمن محددات إطار الحق.

   وقد رأينا في النقاط السابقة وضع الكتاب المقدس كالسلطة الوحيدة للتعليم، وهذا ما تشهد عنه الكنيسة أن كل الكتاب هو موحى به من الله، وأنه لا يوجد إعلان إلهي خارج الكتاب المقدس، وعلى كل من يريد أن يكون في علاقة حقيقية مع الله أن يعترف بأن هذا الكتاب هو كلمة الله وأن يعلن خضوعه التام له ويعترف بسلطانه على ضميره.

  بالطبع إن كل نقطة من النقاط السابقة تمثل موضوعًا مستقلاً بذاته يمكن مناقشته في مقال كامل لكنني قصدت أن أرسم من خلال رؤية لخيمة الاجتماع من زاوية معينة حدودًا لإطار الحق المطلق بحيث يصبح أي تفسير لآية أو وجهة نظر في موضوع ما تكون مقبولة طالما أنها لم تخرج خارج هذا الإطار، أما إذا خرج التفسير أو الرأي عن هذا الإطار فعلينا أن نرفضه.


 

 

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com