عدد رقم 1 لسنة 2015
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أَبْشَالُوم والثورة ... ودروس هامة  


(2صم15-18)

المعركة الفاصلة وموت أبشالوم

(2صم18: 1-18)

 تأملنا فيما سبق في الأحداث التي مهدت لثورة أَبْشَالُوم على داود أبيه، وتحدثنا عن بعض الدروس الأدبية الهامة التي تعلَّمناها مِن فترة ما قبل الثورة، ثم انتقلنا إلى التأمل في أحداث الثورة نفسها، والتي بدأت بإتيان الخبر إلى داود «إِنَّ قُلُوبَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ صَارَتْ وَرَاءَ أَبْشَالُومَ» (2صم15: 13).  ويا لها من رحلة آلام ودموع ومعاناة، كان على داود وعلى رجاله الأمناء، أن يقطعونها!  هذه الرحلة بدأت من أورشليم وانتهت بالوصول إلى البرية.  وطبقًا للترتيب الزمني والجغرافي لأحداثها، وطبقًا للأماكن التي توقفت فيها الرحلة، قسمنا هذه الرحلة إلى تسع محطات أو تسعة مشاهد، تأملناها فيما سبق.  ونصل الآن إلى المعركة الحاسمة التي قُتل فيها أبشالوم (2صم18: 1-18).  ومشهد هذه المعركة مليء بالدروس الأدبية النافعة:

أولاً: مشاعر الرَّجُل الذي حسب قلب الله:

إن الإيمان والثقة بالرب لا تعني اللامبالاة والتواكل، وهذا ما نتعلّمه من داود الذي أحصى الشعب الذي معه، وجعل عليهم رؤساء ألوف ورؤساء مئات، جاعلاً يوآب وأبيشاي وإتَّاي القواد لهم (2صم18: 1، 2).  لكنه يريد أن يخرج بنفسه معهم لأن خطيته هي التي جلبت كل هذا الضرر والأذى على الأرض.  وهو – لنُبل قلبه – لا يسمح لهذا الضرر أن يُصيب أي شخص في الصدارة غير نفسه.  إنها مرة أخرى مشاعر التائب المتضع الحقيقي. 

وبجانب ذلك كانت لا تزال هناك رغبته من جهة أبشالوم، ويعتبر أن وجوده في المعركة يُمكن أن يُساعد في حماية ابنه، لأن داود ذا القلب الرقيق لا يمكن أن يتخلى عن مشاعره الأبوية حتى نحو ابن متمرد.  ولذلك لا نجد صلاة في فم داود ضد أبشالوم كما كانت ضد أخيتوفل.

لكن شعبه لا يُذعنون لرغبته هذه في الخروج معهم؛ أي رجل محبوب كان؟!  وهذا عن استحقاق بكل تأكيد، فهو واحد من أكثر الرجال الذين عاشوا جاذبية.  ومَنْ مثله كان له من الصفات ما يملك قلوب ورغائب جميع الذين يعرفونه؟  «وَقَالَ الْمَلِكُ لِلشَّعْبِ: إِنِّي أَنَا أَيْضًا أَخْرُجُ مَعَكُمْ.  فَقَالَ الشَّعْبُ: لاَ تَخْرُجْ، لأَنَّنَا إِذَا هَرَبْنَا لاَ يُبَالُونَ بِنَا، وَإِذَا مَاتَ نِصْفُنَا لاَ يُبَالُونَ بِنَا.  وَالآنَ أَنْتَ كَعَشَرَةِ آلاَفٍ مِنَّا.  وَالآنَ الأَصْلَحُ أَنْ تَكُونَ لَنَا نَجْدَةً مِنَ الْمَدِينَةِ» (2صم18: 2، 3).  وقد أظهروا نفس الشعور فيما بعد عندما كان يُخاطر بحياته في المعركة مع الفلسطينيين، حيث حلف رجاله له قائلين: «لاَ تَخْرُجُ أَيْضًا مَعَنَا إِلَى الْحَرْبِ، وَلاَ تُطْفِئُ سِرَاجَ إِسْرَائِيلَ» (2صم21: 17).  وفي الحقيقة أنه كان سراجهم وفرحهم وقائدهم؛ الشخص المُكرَّم والمحبوب في زمانه، له نعمة لدى الله والناس.  لكن نراه الآن يخضع لكلمة شعبه.  ورغم أن قلبه لا يزال نحو أبشالوم، إلا أنه لا يخرج، لكنه يُعطي آخر وصية لقواده عندما أرسلهم إلى المعركة «تَرَفَّقُوا لِي (for my sake) بِالْفَتَى أَبْشَالُومَ».  وأليس في هذا تحريض لنا أن نترفق بالخطاة الضالين من أجل خاطر محبوبنا؛ الرب يسوع المسيح؟

ظاهريًا أظهر رجال داود محبتهم وتقديرهم لقائدهم المحبوب، فلم يسمحوا له بالخروج معهم للحرب، ولكن في الحقيقة كانت يد الرب الصائبة المُتحكّمة، والتي لا تُردّ، وراء هذا الترتيب، حتى لا يتداخل داود بعواطفه الأبوية لإنقاذ أبشالوم من مصيره المحتوم الذي يستحقه.  ومرة أخرى نلمح داود يحني رأسه خاضعًا للتأديب الإلهي، مُتدربًا به، منتظرًا تدخل الرب في الأمر أخيرًا بحسب مشيئته الصالحة.    

وهنا أيضًا نرى داود يُقابل الشر بالخير!  إن كل ما كان يسعى إليه أبشالوم هو أن يرى داود مقتولاً، لكن داود كان يشتاق أن يرى أبشالوم حيًّا.  ويا لها من صورة عن شر الإنسان تجاه المسيح، ورحمة المسيح من نحو الإنسان.

وبقلب ممتلئ بمثل هذه العواطف «وَقَفَ الْمَلِكُ بِجَانِبِ الْبَابِ» لكي ينتظر النتيجة، بينما خرج القواد وجيوشهم إلى معركة ”وَعْرِ أَفْرَايِمَ“.  إن النصر والهزيمة سيان بالنسبة لداود لأن أية نتيجة لا بد أن تُعيد إلى ذهنه الذكرى الحزينة لتلك المعركة التي سقط فيها شخص آخر هو أوريا الحثي الأمين، الذي تسبب هو في قتله رغم أنه كان كل الوقت ماكثًا في المدينة، لكن الرب لم يكن يقصد إلا تنقيته وليس تحطيمه.  إن تأديب الرب هو خلاص، لأنه – تبارك اسمه – رغم أنه غيور على اسمه القدوس، لكنه يُشفق على شعبه.

ثانيًا: نهاية المتمرد الغبي:

كانت المعركة حامية لفترة في ”وَعْرِ أَفْرَايِمَ“ «وَزَادَ الَّذِينَ أَكَلَهُمُ الْوَعْرُ مِنَ الشَّعْبِ عَلَى الَّذِينَ أَكَلَهُمُ السَّيْفُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ» بسبب وعورة أرض المعركة، والصخور الحادة والشقوق.  «وَكَانَتْ هُنَاكَ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.  قُتِلَ عِشْرُونَ أَلْفًا» (2صم18: 7، 8؛ قارن من فضلك يشوع10: 11).  كان كل شيء مرتبكًا، وكان الدمار الشامل من نصيب صفوف المتمردين مع أبشالوم «وَصَادَفَ أَبْشَالُومُ عَبِيدَ دَاوُدَ، وَكَانَ أَبْشَالُومُ رَاكِبًا عَلَى بَغْلٍ، فَدَخَلَ الْبَغْلُ تَحْتَ أَغْصَانِ الْبُطْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُلْتَفَّةِ، فَتَعَلَّقَ رَأْسُهُ بِالْبُطْمَةِ وَعُلِّقَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» لكي يكون فُرجَة لكليهما (2صم18: 9).  ويا للذعر!  ويا للألم!  ويا للعجز!  لقد جُعل فُرجَة مكشوفة.  والأمر لا يحتاج إلى تعليق.

فالابن الفاجر يتعلَّق بشجرة للعنته وخزيه «لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ» (تث21: 23؛ غل3: 13).

والبَغل الذي كان يركبه – كان رمزًا مناسبًا لغباوته المتمردة ولتمرده الغبي – وقد تركه عندما كان هو في أشد الاحتياج إليه.

والشعر الجميل الذي كان مجده وافتخاره في الجسد (2صم14: 25، 26)، يُصبح الوسيلة لخرابه.

ورأسُه الذي تطلّع أن يُوضع التاج عليه، تَعَلَّقَ بين أغصان ِالْبُطْمَةِ الملتفة، وَعُلِّقَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.

والذي استرَق قلوب رجال إسرائيل، أنشب يوآب السهام - بلا رأفة - في قلبه، ليموت وحيدًا، بلا رفيق يهتم به أو يُساعده أو يخلّصه.  وحتى الرَّجُل الذي رآه مُعلّقًا، واحترم وصية الملك بشأن ابنه، فلم يمد يده إليه، هذا الرَّجُل لم يكن راغبًا في إنقاذه وتحريره، وكل ما عمله أنه أخبر يوآب القاسي الذي أنشب سهامه في قلب الابن المارد والمعاند.

وطلبة داود من أجله؛ «تَرَفَّقُوا لِي (for my sake) بِالْفَتَى أَبْشَالُومَ»، لم يكن ممكنًا لها أن تُستجاب، لأن «اَلْعَيْنُ الْمُسْتَهْزِئَةُ بِأَبِيهَا، وَالْمُحْتَقِرَةُ إِطَاعَةَ أُمِّهَا، تُقَوِّرُهَا غِرْبَانُ الْوَادِي، وَتَأْكُلُهَا فِرَاخُ النَّسْرِ» (أم30: 17)، وأيضًا «مَنْ سَبَّ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يَنْطَفِئُ سِرَاجُهُ فِي حَدَقَةِ الظَّلاَمِ» (أم20: 20).  وقد حلت دينونة الله عليه بواسطة يوآب القاسي.  وقد كان هذا ضد رغبة داود، ولكنه كان لخير المملكة وسلامتها، وقبل ذلك كان قضاء السماء العادل على ابنٍ عاق، وعلى قاتل مستهتر لم يتب.

وداود الذي استخدم مرة سلطانه وسلطاته، وأمر يوآب أن يقتل أوريا الحثي، لم يستطع الآن إنقاذ ابنه من القتل على يد يوآب قائد جيشه!

ويوآب الذي لم يرفع كلمة احتجاج واحدة ضد داود الملك عندما أمره بقتل أوريا، ها هو يقتل ابن داود الملك بدون اعتبار لداود الذي لم يتجرأ على النطق بكلمة احتجاج واحدة!  

ومرة أخرى يتبرهن لنا أن الخطية لها عقاب، وأن الزرع له حصاد «فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا» (غل6: 7).  

لقد كان أبشالوم واحدًا من أظلم صور الطبيعة البشرية التي أُعطيَ لنا أن ننظرها في كلمة الله.  وهكذا أيضًا كانت نهايته.  لقد علق بالبطمة، كذكرى أخرى دائمة كامرأة لوط.  وكان أبشالوم قد عمل نصبًا لتخليد نفسه (2صم18: 18)، ولم يُفكِّر أن نصبًا آخر سيُقام لخجله وعاره، هو تلك الرجمة العظيمة جدًا من الحجارة في المكان الذي طرحوه فيه، وهو يُشبه ذلك الذي لعاخان بن كرمي (يش7: 26).  لقد عمل هو نصبًا لتخليد اسمه، والله عمل له رجمة لتذكير إثمه!  «الْحُكَمَاءُ يَرِثُونَ مَجْدًا وَالْحَمْقَى يَحْمِلُونَ هَوَانًا» (أم3: 35).

إن هزيمة أبشالوم وموته تُشبه غرق فرعون وجنوده في بحر سوف، أو سقوط شاول على جبل جلبوع، أو كما سيحدث قريبًا لضد المسيح؛ شرير الأيام الأخيرة الذي يفعل كإرادته ليُعظم نفسه فوق الله، ولا يُعطي اعتبارًا لأي شيء إلا لنفسه وطريقه، ولكنه «يَبْلُغُ نِهَايَتَهُ وَلاَ مُعِينَ لَهُ» (دا11: 45).      

                                                              (يتبع)


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com