عدد رقم 4 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
تكريس أوريا الحثي  


في هذه القصة دائمًا ما يُسلَّط الضوء على داود باعتباره الرجل الذي ما كان متوقعًا البتة أن يُخطئ هكذا، وهو الرجل الذي بحسب قلب الرب، الملك والنبي صاحب المزامير الحلوة المملوءة بالاختبارات الروحية العميقة والتسبيحات الرائعة، ولكننا بهذا ننسى البطل الحقيقي لهذه القصة ألا وهو: أُوريَّا الحِثِّي. 

هذا الشخص كان لله المقام الأول في حياته، وكان منكرًا لذاته ومُخلصًا ووفيًا للرب ولمسيحه حتى الموت، وكان لسان حاله: «إننا من أجلك نُمات كل النهار. قد حُسبنا مثل غنمٍ للذبح» (رو 8: 36).

دوافع التكريس في حياة أُوريَّا:

1- النعمة: إنه كان حِثيًا وثنيًا لا يعرف الله، لكن النعمة افتقدته ليعرف الله الحي الحقيقي ويؤمن به، وبالنعمة صار له مكان وسط شعب الله وتزوج إحدى بنات إسرائيل، بل وصار واحدًا من أبطال جيش إسرائيل، وذُكر في سلسلة أبطال داود (2صم 23: 39)، بعد ما كان يومًا في صف الأعداء، كل هذا من امتيازات النعمة الغنية.

وإن كان الكتاب لم يذكر بالتحديد كيف تعاملت نعمة الله معه ولكن من المؤكد أن للنعمة قصة معه، كما أن للنعمة قصة مع كل شخص اختبر الرب، وأن هذه النعمة التي صارت لنا في المسيح تعطينا القوة الدافعة لحياة التكريس الحقيقي، كما كتب بولس إلى تيموثاوس «فتقوَّ أنت يا ابني بالنعمة التي في المسيح يسوع ... فاشترك أنت في احتمال المشقَّات كجنديٍّ صالحٍ ليسوع المسيح» (2تي2: 1، 3).

2 - المحبة: كان أُوريَّا متعلقًا جدًا بداود ومُقدرًا تقديرًا عميقًا لما عمله معه، فربما كان واحدًا من مُري النفس والمُتضايقين، أو مَنْ كان عليهم دين (1صم 22: 2)، الذين اجتمعوا إلى داود، فكان عليهم رئيسًا.  لقد قضى معهم أوقاتًا طويلة معالجًا نفسياتهم من خلال اختباراته الروحية المسجلة في مزاميره، علَّمهم فنون الحرب، قادهم من انتصار إلى آخر، حتى وصل إلى المُلك، لقد كان أُوريَّا مقدِّرًا لمحبة داود له، لكن ما هذا بالنسبة لمحبة المسيح لنا؟! ذاك الذي قال: «ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا: أن يضع أحدٌ نفسهُ لأجل أحبائه».  ربما كرَّس داود لأصحابه بعضًا من وقته، ربما أعطاهم من خبرته في الحياة وفي الحروب، ربما دافع عن قضاياهم وقادهم إلى حياة في ظروف أفضل مما كانوا فيها، لكن المسيح الراعي الصالح بذل نفسه لأجل خرافه ليعطيهم أفضل حياة ... ليهبهم الحياة الأبدية ... حياة الله ذاته (يو10:10، 11).  لقد مات لأجلنا ليسدِّد ديون خطايانا، ويعالج مرارة نفوسنا بسبب الخطية، لتفيض في قلوبنا أفراح الخلاص والابتهاج بشخصه.  إن محبة الرب لنا تقودنا لنُكرِّس له الحياة وكل ما نملك (2كو5: 14، 15؛ غلا2: 20).

مظاهر التكريس:

1- إنكار الذات: لقد رفض الراحة في وقت الجهاد والحرب، قال لداود: «وحياتك وحياة نفسك، لا أفعل هذا الأمر» (2صم 11: 11).  لم تكن احتياجاته أو طموحاته أو رغباته الشخصية لها مكانة في قلبه.  لقد تخلَّى عن حقه المشروع في أن يأخذ راحة ولو مؤقتة كرجل حرب وكأحد أبطال داود المُقربين له.  وأنكر على نفسه حقوقها، حتى الحقوق الطبيعية والمشروعة، لكي يذهب إلى بيته وإلى امرأته.  عاش ما قاله المسيح في وقت لاحق: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه».  ورغم محاولات داود المتعددة معه لكي يقنعه بأن ينزل إلى بيته، كان آخرها أنه أسكره، لكي يلبي نداء غرائزه في اللاوعي، لكن حتى هذه المحاولة باءت بالفشل.

2- حَمْل الصليب: إنه ليس فقط يُنكر نفسه، بل هو على استعداد لأن يضحِّي بحياته لأجل إلهه وشعبه.  إنه رجل الخطوط الأمامية في الحرب ... رجل المهام الصعبة الذي يتحمل المسؤولية بكل شجاعة كمعنى اسمه ”نار يهوه“ أو ”غيرة الله“، إنه في غَيْرَته لأجل مجد الله يُضحِّي بحياته، هذا هو التكريس في قمته، كما قال بولس: «ولكنني لست أحتسب لشيءٍ، ولا نفسي ثمينةٌ عندي، حتى أُتمِّم بفرحٍ سعيي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع» (أع20: 24)، «إن عشنا فللرب نعيش (حياة إنكار الذات)، وإن مُتنا فللرب نموت (حمل الصليب)».  لقد جُعِلَ أُوريَّا في وجه الحرب الشديدة، لكنه لم يتراجع! مع وجود حيثيات للتراجع مثل:

·        التناقض في المعاملة:  قد أراد داود إكرامه بإعطائه إجازة في بيته، وأرسل وراءه حصة من عنده (طعام شهي من مائدة الملك)، ثم بعد عودته للحرب كان يمكن له أن يسأل: لماذا يضعه يوآب في الصفوف الأمامية وفي وجه الحرب الشديدة، وهو يتوقع أن يوضع بعد رجوعه في الأماكن السهلة الآمنة، لكن لم يكن يفكِّر في شيء.  فأطاع الأمر فورًا.  إنه لا يُحارب لأجل نفسه أو لأحد، إنه يحارب لأجل الرب، إنه عبد للرب وليس للناس، لا يُحلل تصرفات الآخرين هل هي في صفه أو ضده، حتى الواضح منها كما هو في هذا الموقف! فلقد وضع على قلبه ألا يضيع وقته الثمين في التحليلات والاستنتاجات والحرب مع العدو مستعرة.

·        تراجع رجال الحرب من ورائه (2صم11: 15).  لم يتراجع هو فمات كبطل عظيم، وكم في هذا من توبيخ لنا في المرات التي فيها نبرر ضعفنا لسبب تأثرنا بضعف الآخرين وتراجعهم! فكم نحن عرضة لتقليد الآخرين حتى في تقهقرهم!

كيفية التكريس:

لقد تتلمذ أُوريَّا على يد داود، ذاك الذي تحمَّل الكثير من الضيقات والمُطاردات من شاول وكل جيشه.  وتعلّق أُوريَّا بداود حيث صار واحدًا من أبطاله القريبين منه، وكان على علاقة قوية به، حتى إننا نقرأ أنه نام على باب بيت الملك ولم ينزل إلى بيته (2صم11: 9) وعندما رجع للحرب صمد حتى مات ولكن رغم موته، ما زالت حياته تتكلم بعد.

والسؤال الفاحص الذي أتركه مع القاريء العزيز: وماذا عنا؟

إن كان داود له تابعين قد أخلصوا له وأحبوه وكان لديهم استعداد أن يموتوا من أجله، ومنهم مَن مات فعلاً وفاء للرب وشعب الرب، ألا يستحق رب داود منا أكثر من هذا؟! 

فداود - كسائر البشر- له ضعفاته التي كانت ظاهرة للمقربين منه، لكن رب داود حوى جميع أوصاف الكمال! ألا يستحق أن نكتفي به كقائد وهو أعظم من داود بما لا يُقاس؟!

لقد وجد داود في أوريا مثل هذا الولاء والتبعية، ألا يستحق رب داود أكثر من هذا؟! الذي ضحى بالثمين، ألا نضحي لأجله بالزهيد؟!


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com