عدد رقم 4 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المطوبة مريم(10)  

                                                               سيفٌ يجتاز... وأمٌ واقفة

«وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ»

(يو19: 25)

--

وصلنا في جولتنا في رحاب ما ذكره الروح القدس عن المطوبة مريم «أم يسوع» عند مشهد لعله ليس فقط أبرز مشهد في حياة مخلصنا وسيدنا؛ ولكنه أهم مشهد وقع على الأرض بطول تاريخها العريض، ألا وهو مشهد الصليب.

لم يكن الصليب كما نعرف شيئًا عارضًا بل قصدًا إلهيًا سابقًا، تحدث عنه لاحقًا الرسول بطرس إلى اليهود، بعد قيامة المسيح ومجيء الروح القدس في سفر الأعمال، واصفًا هذا المشهد التاريخي الذي لا نظير له لا سابقًا عليه ولا لاحقًا له بالقول أنه تم بحسب "ِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ"(أع2: 23).

أما في حياة المطوبة العذراء مريم فهو مثل محطة عظمى؛ بل والأعظم في حياتها دونما مبالغة؛ تمامًا مثلما مثل ويمثل صليب المسيح المحطة الأعظم في حياة كل القديسين عبر التاريخ وفي كل الأجيال.  صحيح أن بُشرى المولد العذراوي لمخلص العالم كانت محطة عظيمة في حياة هذه المطوبة الفاضلة على المستوى الإنساني والبشري.  لكن موت الصليب يمثل بالنسبة إليها ما هو أهم.  إنه يمثل الأساس الراسخ الذي علي أساسه يخلصها الله كما سبق وأن ترنمت بصدد قرب ولادتها قائلة: «تَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي» (لو1: 37) وهو أساس روحي أعمق تأثيرًا وأبقى أثرًا ولاشك.  كما أنه مثل لها أمرًا آخر سبق وأن سمعت عنه نبوة منذ أكثر من ثلاثين عامًا من سمعان البار عندما قال لها:  «وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ» (لو2: 35).

*سيف يجتاز

عندما نتحدث عن سيف يجتاز فإن الفكر يذهب مباشرة إلى الألم، والألم العميق وبالأخص إذا كان هذا السيف سيجتاز في «نفسها»، فإن للآلام النفسية أوجاعها وآثارها التي نعرف شيئًا عنها كلنا – مع اختلاف القياسات – حسب ظروف البرية التي في خطة الله لنا أن نجتازها.

وهل من السهل على تلك المرأة الفاضلة أن تجد ابنها «البكر» معلقًا على صليب العار يموت في عز شبابه أمام عينيها وهي لا تملك شيئًا تفعله له على وجه الإطلاق؟  إن كل أم تتوقع أن يدفنها ابنها بعد أن تتقدم بها الأيام وتشبع من العمر ومن رؤية أولادها..الخ.  ولعل أصعب وأقسى شعور إنساني هو أن تدفن الأم ولدها وهو في ريعان الشباب!  إنها تجربة عظمى ولا شك وتحتاج إلى إيمان عظيم وإلى تشديد إلهي عظيم أيضًا.  ونحن ليس بوسعنا تجاهل هذه المشاعر الإنسانية والآلام النفسية القاسية مهما كان سمو إيمان من يجتاز فيها.  إنه بدون مبالغة سيف يجتاز في النفس كقول الكتاب.

أما والذي يموت فهو البار، القدوس.  وأما الأم فهي المطوبة فهذا ما يجعل الأمر أقسى وأمر.  فها هو ابنها يموت أمام عينيها معلقًا على الصليب لنحو ست ساعات في نهاية يوم طويل من الآلام والمعاناة وليس في حادث أليم، ولا بمرض مفاجئ،..الخ بل يموت ببطء ميتة بشعة، هي كقول أحدهم : كما يموت أحد السفهاء.  وليس كموت النبلاء!!

أحبائي، وبالأخص يا من تجتازون ظروفًا مشابهة وتشعرون بالحق والصدق أن هناك سيفًا يجتاز في نفوسكم ويمزق أحشاءكم الرقيقة من الداخل تمزيقًا مؤلمًا:  دعونا نتوقف قليلاً أمام الحقائق الآتية التي ظهرت بكل وضوح في هذا المشهد الذي نحن بصدده الآن.

v    أن سمو الإيمان وعظمة الحياة الروحية لا تعفينا مطلقًا من كوارث ونكبات الزمان التي لا دخل لها مطلقًا بتفسيرات محدودي الفكر الذين يربطون الآلام بأخطاء سابقة لمن يجتازون فيها بالضرورة.  فالتاريخ المقدس لا يعلمنا ذلك مطلقًا منذ أيام أيوب المبتلى وإلى اليوم.  بل كثيرًا ما نجد أن العكس هو الصحيح.

v    أن إلهنا لم ولن يخطئ قط. وإن كان «كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا» (أي33: 13).  فإن هذا ناتج عن سمو أفكاره عن أفكارنا وطرقه عن طرقنا (رو11: 33)، وعلينا دائمًا أن نثق فيه وفي صلاحه، ومحبته، وحكمته أيضًا.  وقد قيل حسنًا ”إن طرق الله تبدو عجيبة وأحيانًا محيرة ولكنها دائمًا صحيحة“

v    أن الحكمة الإلهية من الآلام القاسية تظهر بعد وقت: طال أم قصر.  فبعد القيامة والصعود علمت تلك الأم الرائعة الفاضلة أنه كان حتمًا أن يجتاز في نفسها ذلك السيف وأنه بدون نفس ذلك السيف ذي التأثير الزمني المؤقت ما كان لها خلاص أبدي ولا أفراح روحية مقدسة فيما تبقى لها من عمر على الأرض، أفراح العبادة والشركة والخدمة والشهادة..الخ، وهو ما اختبرته المطوبة مريم لاحقًا مع أسرتها بعد قيامة المسيح وصعوده حسبما نرى في سفر الأعمال بعد أسابيع قليلة.

أضف إلى كل ما سبق بركات الألم المعروفة لنا جميعًا من تنقية وتذرية، من بهاء ولمعان، مثل كيف أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا (رو8: 18) وكيف أن «خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا» (2كو4: 17) وأن الآلام لا بد وأن تلحقها الأمجاد....الخ إلخ.

*أم واقفة

لكن العجيب أن المريمات وفي مقدمتهن «مريم أم يسوع» لم يكن "منهارات" مغشيًا عليهن أو صارخات نادبات بل «واقفات» عند صليب يسوع!!  يا للعجب!! إننا لا نشك أن ثمة مزيج مدهش من الإيمان الذي بان والتعزية الإلهية المجيدة هما اللذان شكلا معًا هذه الصورة الجميلة والشهادة العجيبة التي نشكر الله أنها لا زالت تظهر في عائلة الإيمان عبر الأجيال وإلى الآن.

صحيح أن السيف يجتاز لكن صحيح أيضًا أن هذه لحظة كاشفة لحقيقة الإيمان وعمق الثقة وصحة الاتكال على الله في أصعب الظروف وأقساها.  أما إلهنا العظيم، فهو أبو الرأفة وإله كل تعزية (أي التشجيع والتسنيد) وهو قط لا يترك أحباءه في مثل هذه المحن ليجتازوها بأنفسهم، فهو في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم (إش 63: 9).  وهو الذي يتراءى في الأتون، وينجي النفس من جب الأسود، وفي أحلك المواقف ينشئ فينا السجود!! (2تي4: 18).

والخلاصة أننا في أشد الحاجة لمزيد من حياة التقوى والإيمان من جانبنا، أما أمر الحياة ومفاجآتها ومستقبلها فلندعها لمن في يده أمرنا، وهو أكثر شخص في الوجود يمكن الوثوق فيه والاتكال عليه، بل وإن شئنا الدقة – هو الوحيد ­– الذي يمكننا ضمان دوافعه وصحة أفعاله وصدق مشاعره من نحونا، وذاك الذي ما أعظم جوده الذي يذخره لخائفيه، ويظهره في مثل هذه المحن والشدائد.  نثق بأنه لن يدعنا فريسة لآلامنا ولا لليأس والقنوط، ولا للاكتئاب والحزن المفرط بل سيرسل إلينا  - دائمًا – العون في حينه وسيعرف أن يغيثنا في وقته بكلامه.  فقط لنقترب منه على الدوام ونترك له المجال بالروح القدس ليعمل عمله العجيب فينا قبل أن يعمل عمله العجيب من خلالنا، فنكون سبب تعزية ورجاء لكثيرين يعبرون هذا الوادي مثلنا في جيلنا أو يأتون بعدنا، مثلما حدث مع المطوبة مريم التي كانت يومها «واقفة».  وقريبًا جدًا جدًا سينتهي هذا المشهد إلى غير رجعة ولن يبقى سوى المجد وأفراح الخلود.  آمين تعال أيها الرب يسوع.

(يتبع)

                                                                            

                                                                 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com