عدد رقم 4 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
ليلة على جبل التجلي  



(مت17: 1 – 8؛  لو9: 28 – 36)

   ألا يبدو غريبًا أن هذا المشهد الليلي الفريد قيل عنه: إن التلاميذ «سكتوا ولم يخبروا أحدًا في تلك الأيام بشيء مما أبصروه» (لو9: 36)؟ ولكن لماذا سكتوا؟ نقرأ أن يسوع أوصاهم قائلا: «لا تعلنوا أحدًا بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات»، لقد كانت لحظات مدهشة حقًا.  ففي ظلمة الليل الساكن شاهدوا قمة الجبل مضاءة بمجد فريد في لمعانه، إذ أن جسد ابن الإنسان الممجد أضاء ذلك المنظر في ظلمة الليل.  هل تعلم أيها القارئ العزيز أنه سيأتي وقت لا نحتاج فيه إلى الشمس أو القمر؟ يقول عنه الكتاب: «والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها» (رؤ21: 23).

   ربما تقول: ليتني شاهدت هذا المنظر، فقد رأى التلاميذ المسيح ممجدًا كإنسان كامل على الأرض.  ولكن أيها القارئ العزيز أقول لك إنك سوف ترى مشهدًا أعظم وأروع موصوفًا في نهاية أصحاح 21 من سفر الرؤيا.  هو مشهد قداسة وطهارة وبركة وراحة ومجد فائق، وكل مؤمن له الحق أن يشارك وليس فقط يشاهد، في هذا المشهد العجيب في المستقبل.

   ولنتأمل الآن في مشهد التجلي على الجبل.  أثناء خدمة المسيح على الأرض، سأل التلاميذ على انفراد: «من تقول الجموع إني أنا؟» (لو9: 18).  ويخبرنا إنجيل لوقا إنه في ذلك الحين كان منفردًا ليصلي.  وهذه هي المرة الرابعة في هذا الإنجيل فيها نقرأ عن الرب المبارك كالإنسان المتكل على الله إنه كان يصلي.  لقد اعتزل عن الناس، ولكن تلاميذه كانوا معه، وشاهدوه بكل وضوح وهو يصلي.  ثم اتجه إليهم وقال: «من تقول الجموع إني أنا؟» ماذا يفكر الناس عنه؟ لقد مرت عليه وهو في خدمته على الأرض ثلاث سنوات وهو يجول بينهم يصنع خيرًا، وقد أعطى شهادة كاملة عن إرساليته، والآب أيضًا كان قد أعطى شهادته عن الابن في لحظة المعمودية، حيث نراه مصليًا هناك أيضًا (لو3: 21). 

   ولعلنا نتذكر ما حدث أثناء معموديته في الأردن، كيف أن الروح القدس نزل عليه مثل حمامة، رمزًا للطهارة والوداعة، كحمامة وليس كنار.  لقد وجدت الحمامة فيه مقرًا لها.  إننا نذكر عندما أرسل نوح الحمامة من الفلك، أرسلها مرتين ولكنها كانت تعود.  لماذا؟ لأنه لم يكن هناك شيء سوى الجثث التي تغطي المشهد، ولم يوجد مقرٌ لرجلها.  وأخيرًا في المرة الثالثة وجدت الحمامة شيئًا فوق الماء كمقر لها.  وجدت مشهدًا للقيامة لتستريح عليه.  لقد طاف الروح القدس فوق هذا العالم لمدة أربعة آلاف سنة، وماذا كان يجد؟ لا شيء سوى الفساد الأدبي في كل مكان.  حقًا لقد رأى الإنسان، كل إنسان، في حالته الطبيعية كما يراه الله.  وها هو أخيرًا يأتي في شكل حمامة على يسوع المبارك. 

   نحن لا ننكر أن الروح القدس كان يحل في الأزمنة الماضية، حلولاً مؤقتًا على بعض الناس، معطيًا لهم قوة لكي يتمموا مشيئة الرب وغرضه، بل لقد استخدم بعض الأشرار مثل بلعام وشاول، كما استخدم القديسين مثل جدعون وشمشون وداود وغيرهم، ولكنه كان يحل عليهم وقتيًا فقط ولم يسكن في واحد منهم، ولكن أخيرًا أتى الوقت الذي ظهر فيه إنسان قدوس بلا خطية، استقر عليه الروح القدس.  وشهادة الله ليوحنا المعمدان كانت: «الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه، فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس».  وأثناء المعمودية انفتحت السماوات ونزل عليه الروح القدس، وسُمع صوت الآب قائلاً: «أنت ابني الحبيب بك سررت».

   من تقول الجموع إني أنا؟ إن الإجابات المختلفة على هذا السؤال كانت تخمينات، وجميعها كانت غير صحيحة.  فقال لهم: «وأنتم من تقولون إني أنا»؟ أجاب بطرس على هذا السؤال قائلاً: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (مت16: 16).  فقال له الرب: «طوبى لك يا سمعان ابن يونا، إن لحمًا ودمًا لم يعلن لك (هذا)، بل أبي الذي في السماوات».  واسمح لي أيها القارئ أن أقول لك: إنك لن تتعلم المسيح من مدارس الناس، ولن تتعلمه من العقل، بل من تعليم  الآب.  لا يأتي أحد إلى المسيح إن لم يجتذبه الآب. 

   ثم يخبر الرب بطرس بالحقيقة الخطيرة أنه (أي يسوع) يجب أن يموت، وبطرس لا يحب أن يسمع هذا، ولا تكاد أذناه تصدقان، ولكن الرب يقول له: «إنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم».  وهو يكشف عن الهدف الرئيسي لمجيئه إلى العالم.  ثم يقول لتلاميذه: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني.  فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها.  ومن يهلك نفسه من أجلي فهذا يخلصها.  لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها؟».

   ثم يختم الرب حديثه قائلاً: «إن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله».  قد تقول: ما معنى هذا؟ المعنى يتضح من الأعداد التالية مباشرة: «وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام أخذ بطرس ويعقوب ويوحنا، وصعد إلى جبل ليصلي».  هذه هي المرة الخامسة في إنجيل لوقا التي نرى فيها يسوع مصليًا.  «وفيما هو يصلي، صارت هيئة وجهه متغيرة، ولباسه مبيضًا لامعًا».  ونقرأ في إنجيل متى: «وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيايه بيضاء كالنور».  وإلى جانبه نرى موسى وإيليا.  ها قد تحققت كلمة الرب لهم: «إن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله».  أو طبقًا لتعبير متى البشير: «حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته».  إن الرب لم يأتِ بعد في عظمته ومجده الظاهر كملك الملوك ورب الأرباب، ولا شك أنه في مشهد التجلي أعطى تلاميذه الأحباء صورة مصغرة لملكه العتيد.  ولو كان لديك شك في هذا فهذا الشك يتبدد عندما تصغي إلى ما قاله شاهد عيان، واحد من الثلاثة الذين كانوا مع المسيح على الجبل.  يقول بطرس الرسول في رسالته الثانية: «لأننا لم نتبع خرافات مصنعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته، لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدًا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به.  ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس» (2بط1: 15 – 18).

   نستطيع أن نستنتج أن التجلي حدث ليلاً حيث أن الرب كان معتادًا أن يقضي الليل في الصلاة، وأن التلاميذ هنا كانوا قد تثقلوا بالنوم، وأن السحابة التي أتت كانت منيرة، وأن التلاميذ نزلوا من على الجبل في اليوم التالي. 

   لقد ظهر مع الرب موسى وإيليا، وكانا عمودين في العهد القديم.  فموسى هو معطي الناموس، وإيليا هو نبي الإصلاح.  موسى كان قد مات ودفنه الرب بيده، وكم كان تاريخه رائعًا.  لقد حُرم موسى من دخول أرض كنعان، ولكنه هنا دخلها مع الرب نفسه، وهو في صورة جسد المجد.  وإيليا كان قد أصعد إلى السماء دون أن يرى الموت.  وها هو يظهر مع الرب على الجبل المقدس.  وبهذا نرى صورة للملكوت المقبل بجانبيه السماوي والأرضي.  الجانب السماوي فيه ابن الإنسان في مجده الملكي، ويرافقه من يمثل فريق الراقدين الذين سيقومون بأجساد ممجدة في القيامة الأولى (موسى)، وأيضًا من يمثل فريق الأحياء المتغيرين عند مجيء المسيح، الذين لن يروا الموت (إيليا). 

   وفي بطرس ويعقوب ويوحنا نرى صورة للجانب الأرضي من الملكوت، إذ هم معاينون عظمة الرب ومجده الملكي، وهو جزء من أمجاد المسيح الاكتسابية مكافأة لعمله على الصليب.

   كان موسى وإيليا يتكلمان معه عن خروجه الذي كان عتيدًا أن يكمله في أورشليم.  كان هذا هو الحديث على جبل المجد!  فالصليب هو أساس كل بركة سواء لإسرائيل أو للأمم أو للخليقة كلها.  ولا مجد بدون الصليب.  هذا ما عرفه موسى وإيليا، وهذا ما كان يجهله التلاميذ.  إننا في الأبدية سندرك بفهم أعمق معنى الصليب وقيمته ونتائجه، وسيكون موضوع ترنمنا في السماء.  «مستحق أنت أيها الخروف المذبوح ... لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك» (رؤ5).

   التلاميذ استيقظوا من نومهم فرأوا مجده والرجلين الواقفين معه.  ومن الواضح أننا سنعرف بعضنا البعض في الأبدية.  وحتى لو كانت العلاقات الأرضية محدودة زمنيًا، لكن شخصياتنا ستظل دائمًا في الأبدية مميزة.  هذا المنظر دفع بطرس ليقول: «يا معلم.  جيد أن نكون ههنا».  ولا شك أنه كان مبهورًا وسعيدًا بمنظر المجد.  لقد رغب في اسبقاء هذا المنظر على الجبل.  ولكنه في عدم وعي، وهو لا يعلم ما يقول، أضاف: «فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال، لك واحدة، ولموسى واحدة ولإيليا واحدة».  لقد وضع السيد مع العبيد على قدم المساواة.

   وفيما هو يتكلم جاءت سحابة نيرة فظللتهم، فخافوا عندما دخلوا في السحابة.  أي أن التلاميذ خافوا عندما دخل موسى وإيليا في السحابة، لأن السحاب المنيرة كانت هي بعينها الشكينة أو سحابة المجد التي تعبر عن الحضور الإلهي، التي كانت على غطاء التابوت.

   الآب لم يحتمل إهانة ابنه، ففي الحال غاب موسى وإيليا، وصوت الآب من السحابة يعلن: «هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا».  وكان تأثير كلام الآب على التلاميذ عظيمًا، «فلما سمعوا سقطوا على وجوههم، وخافوا جدًا».  فجاء يسوع بكل حنان ولمسهم وقال: «قوموا ولا تخافوا».  إن يسوع هو هو لن يتغير وهو يملأ القلب بالسلام والفرح.

«فرفعوا أعينهم ولم يروا أحدًا إلا يسوع وحده».  فهو الذي يملأ المشهد بمجده.  هو المخلص الوحيد، وهو الديان الوحيد، وهو الراعي الوحيد، والرأس الوحيد، والعريس الوحيد، والملك الوحيد الذي سيملك ولا يكون لملكه نهاية.

                       

      

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com