عدد رقم 4 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
فاني كروسبي "السعادة بدون عطية البصر"  


(1820 -  1915)

 

   هي فرانسيس جين كروسبي التي عُرفت دائمًا باسْم "فاني كروسبي"، والتي كتبت حوالي ثمانية آلاف ترنيمة مازالت الكنائس تردد الكثير منها حتى يومنا هذا.

   وُلدت في 24 مارس 1820 في بلدة صغيرة جنوب شرق نيويورك بالولايات المُتحدة الأمريكية، وفي بيت صغير بسيط الأثاث حيث لم يكونوا أغنياء، ولكنهم كانوا أتقياء.

   عندما كان عمرها أربعين يومًا أصيبت بالتهاب حاد في عينيها، ولأن طبيب العائلة كان متغيّبًا وقتئذٍ، فقد استدعت العائلة طبيبًا شابًا للكشف على عينيها، والذي اكتشفوا بعد ذلك أنه لم يكن وقتها مصرحًا له بمزاولة المهنة.  كشف الطبيبُ على عينيها ونصح باستخدام كمادات ولبخات دافئة على عينيها مما أدى إلى تدمير بصرها تمامًا.  بعدها رحل الطبيب عن البلدة ولم يُسمع عنه أيّة أخبار.  بالطبع كانت كارثة بالنسبة إلى العائلة.  ولكن الجدة، بسبب تقواها وعلاقتها القوية بالرب، أدركت أن هذه التجربة المُرّة لا بد أن الله يقصد بها خيرًا جزيلاً للطفلة وللعائلة.  أما جون والد فاني والذي كان يعملا فلاحًا في حقله الخاص، فقد تُوفيّ عندما كان عمر فاني لا يزيد عن العام الأول، وهكذا توّلتْ الأم رعاية فاني بمساعدة الجدة التي كان لها الدور الأكبر في تشكيل حياة الطفلة.

    كانت الجدة تدعو فاني كل ليلة للجلوس على مقعد صغير بقرب كرسيّها الهزاز وتحكي لها قصص الكتاب المقدس مُوضّحةً كيف أن الله هو أبونا الذي يقصد لنا كل خير حتى ولو حرمنا من بعض الأشياء، وأنه يجب علينا أن نسلّم كل أمورنا لمشيئته الصالحة واثقين من محبته الشديدة لنا.  ثم تسألها في حوادث القصة في صورة ألغاز لتزيد تركيزها وانتباهها، مُستخرجة منها دروسًا لحياة عملية صحيحة وتصرفًا لائقاً بها كفتاة دُعيَ عليها اسم المسيح.  هذه الجلسة التي كانت تنتهي دائمًا بصلاة مشتركة بين الجدة وفاني كانت متعة كل ليلة وسبب سعادة كبيرة للطفلة.

   تأثرت فاني بجدتها وبحديثها الحلو لها، وظلت تتذكر جدتها لأعوامٍ طويلة بعد وفاتها.

   وبعد أن تُوفيت الجدة، عندما كانت فاني في العاشرة من عمرها، وأعطت العائلة الكرسي الهزاز لشخص آخر بالعائلة، كتبت فاني قصيدة صغيرة تقول فيها:


  بعضُ   الأشكالِ     تمرُ                   كالأطيافِ   بعينيّ

                                   بعضُ الأصوات ما زالتْ                  تتردد  في    أذنيّ

  لكنما    صوتُ     الجدةْ                  أحلى بل أغلى عليَّ

..................................................................................

                                      كانت تسليتي لديها                          بالقصص وبالألغاز

                                 وفهمتُ منها دروسًا                                  وتصرُّفًا      ممتاز

                                إذ كنتُ أجلس قرب                          كرسيّها      الهزاز

         في سن الخامسة سافرت بها والدتها إلى نيويورك لتستشير أكبر طبيب وقتئذ في أمريكا.  كان الأمل يراودها بشدة أن يكون هناك شفاءٌ لبصر ابنتها.  كانت فاني تُدرك مقدار ما تستشعره أمها وما ترجوه من تلك الزيارة.  أما هي فقد كانت تشعر بالهدوء التام متذكرة نصيحة الجدة القائلة أن كل الخير يأتي إلينا عندما نكون هادئين، واثقين في مشيئة الآب.

   بعد أن فحص الطبيب عيْني فاني وعرف عدم نفع العملية تحيّر في نفسه، وإذ لم يعرف ماذا يقول، سألها سؤال غريب: "هل تريدين يا فتاتي أن أجري لك عملية لكي تُبصري؟" وجاءته الإجابة هادئة وواثقة: "كلا.  أنا أتمتع بأشياء كثيرة وجميلة غير البصر، وقد أُحرم منها لو أبصرتْ، ثم إن العملية قد تضرني أكثر".  كانت هذه الإجابة مريحة جدًا للطبيب، فأفهمها أن العملية لن تُجدي معها نفعًا على الإطلاق.  وهي تقبلت ذلك بروح الشكر والامتنان.

    كان القول الذي تردده دائمًا هو: "إن الأعمى – إلى حدٍ كبير – ليس عاجزًا عن القيام بأي عملٍ يقوم به المُبصر، كما أنه ليس أقل تمتعًا منه بأمور الحياة"

    كانت تعترف أن هناك بعض الأمور البسيطة لا يمكنها القيام بها ولكنها ليست ذات أهميةٍ لها، كالرسم والنحت والتصوير، لكنها بالمقابل تستطيع أن تعزف وأن تتذوق الموسيقى، تستطيع أن تكتب الشعر، تستطيع أن تتمتع بالقراءة بطريقة برايل، تستطيع أن تحفظ ما تقرأه وتسمعه أكثر من كثير من نديداتها، تستطيع أن تشعر بدفئ الشمس، ودفئ المشاعر، وتقيم علاقات حبية واجتماعية راقية، وتستمتع بالحياة كاملة وفي أفضل صورها.  كان أجمل ما في فاني كروسبي هو شعورها بالاكتفاء والسعادة خاصة بعدما عرفت الرب مخلصها في سن السابعة عشر، عندما حضرت اجتماع روحي وسمعت ترنيمة: "هل دمك الزكي أريق عن ذنبي؟" وفي المقطع " يارب إنني لك أكرس الحياة" صلت من أعماق قلبها طالبة تكريس قلبها بالكامل للرب، وسلّمتْ له حياتها بالكامل، والتي امتدت إلى عمرٍ يناهز الخامسة والتسعين.

   كان لفاني علاقات وصداقات قوية مع كبار الأدباء والشعراء والفنانين وكل رؤساء أمريكا التي عاصرتهم، وكانت أول سيدة تحضر وتتكلم في مجلس الشيوخ الأمريكي حيث بدأت الجلسة بشعر رقيق باركتْ فيه الله وشكرت رئيس المجلس.

 وفي عام 1858 تزوجت فاني من الموسيقار الكفيف ألكساندر أليستاين بعدما جمع الحبُ قلبيْهما واستمر الزواج السعيد إلى أن توفي الكساندر عام 1902 وقد أثمر زواجهما طفلة صغيرة لم تلبث أن تُوفيت.

      تقول فاني: "كان كل من يسمع قصتي يصب غضبَه على الطبيب الشاب، وهذا مالم أشعر به يومًا من الأيام، لأنني كنت مُقتنعة تمامًا بكلام جدتي أن هذا الحرمان هو جزءٌ من خطة الله في حياتي، لذلك كنت أشعر أنني محظوظة بهذا الحرمان"

     وعندما سألها أحدهم ذات يوم: "أليس هذا مُحزنا أن يحرمك الله من نعمة البصر بعد أن وهبك موهبة الشعر الجميلة؟" أجابته على الفور: "ألا تعلم أن أكبر بركة حصلتُ عليها في حياتي هي فقدان بصري؟ لقد كان فقدان بصري هو السبب الرئيسي في تنمية موهبة الشعر وكتابة الترانيم.  كما كان السبب في تأملاتي الهادئة الجميلة في خلوتي وتحليقي في جو السماويات.  أيضًا كان السبب في مشاعري المرهفة التي تشعر بمحبة الآخرين وتستجيب لها، وأيضًا كان السبب في قدرتي الكبيرة على الحفظ، حتى أنني استطعتُ حفظ أسفار موسى الخمسة وسفر راعوث وكثير من المزامير والأمثال وأنا مازلتُ طفلة صغيرة ... لقد كانت بركة الحرمان من البصر هي التي استجلبتْ امتيازاتٍ كثيرة لا أستطيع أن أعدها".

     وعندما سألها آخر عن سبب فرحها وسعادتها رغم حرمانها من البصر، أجابت على الفور:"لو أتيح لي أن أطلب بركة من الرب قبل فقداني لبصري، لطلبت منه بركة فقدان البصر.  يكفي أن أول وجه ستكتحل عيناي برؤيته هو وجه ربي يسوع المسيح مخلصي وفاديّ"

   ومن أقوالها المأثورة أيضًا: "لا تشعر بالأسى من نحوي فأنا أسعد إنسانة في الدنيا"

   وأيضًا في سن التسعين كانت تقول: "إن تقديري للكتاب المقدس وما يحتويه من تعليم هو أكثر جدًا في سن التسعين عما كان في سن التاسعة عشر".

     في مساء يوم 11 فبراير عام 1915 كتبت رسالة تعزية إلى صديق فقد ابنته، وفي الثالثة صباح اليوم التالي انتقلت في هدوء إلى مُخلصها.

   وفي حفلة وداعها رنّم المودّعون ترانيمها الجميلة مثل "آمنًا بين ذراعي يسوع" و "مخلصٌ بالنعمةِ"

    كانت ترانيمها بسيطة، جميلة، ومؤثرة جدًا، وقد استُخدمت استخدامًا مباركًا في اجتماعات مودي وسانكي، والكثير منها ما زال يُرنّم حتى الآن وله نفس التأثير العميق.

  ونذكر منها:

       خلّني قرب الصليب – وجهًا لوجهٍ سأراه -  اجذبني يارب للصليب – لا تغض الطرف عني يا مخلصي الرقيق – آمنا بين ذراعيّ يسوع (التي كتبتها بعد وفاة طفلتها) - سراجٌ لرجلي كلامك - أنقذ الهالكين – اليقين المبارك... والكثير الكثير جدًا.

    كان الكثير من ترانيمها نتاج اختبار معيّن أثّر على مشاعرها الرقيقة وأثمر هذه الترانيم المؤثرة والمشجّعة.  نذكر منها

Rescue the perishing   - (أنقذ الهالكين)، والتي كتبتها بعد خدمة مؤثرة لمجموعة من الشباب، وبعدها جاءها شاب في العشرينات يبدو عليه البؤس الشديد وأخبرها أنه في حال ميؤوسٍ منها بسبب الإدمان الذي دمرّه تمامًا.  ثم أخبرها وهو يبكي بمرارة أنه كان قد وعد أمه أن يقابلها في السماء ولكنه نكث عهده وانحرف بشدة إلى الضياع، ثم طلب منها أن تسمح له أن يصلي معها وصرخ إلى الرب طالبًا منه أن يقبل توبته الصادقة ويستلم حياته.  وفعلاً تغيّر ذلك الشاب وتغيّرت حياته بالكلّية.

   أما ترنيمة pass me not o gentle saviour – (لا تغض الطرف عني) فقد كانت قصتها أنها كانت تخدم في أحد السجون مبيّنة أن الرب رقيق المشاعر ويستجيب لصراخ طالبيه ولا يتجاوز المسكين الذي بين الحياة والموت، وعندها صرخ أحد السجناء بصوت مرتفع " لا تتجاوزني أيها المخلّص الرقيق".

    ونختم قصتها التي حاولنا اختصارها جدًا بهذه القصيدة التي كتبتها معبرةً عن سعادتها

 

كم سعيدةٌ أنا

رغم أني لا أرى

وسأحيا في هَنا

مهما يجري أو جرى

******

بركاتٌ لا تُعدْ

خصّني بها الإله

فضلُ ربي لا يُحدْ

فمتى تُرى أراه

******

ليتني أقضي الحياة

 أسمو من مجدٍ لمجدْ

وهناك في سماه

سوف أبقى للأبد

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com