عدد رقم 4 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
كنيسة برغامس  

(رؤ2: 12 – 17)

الدور الثالث من 313م – 600م

   لقد بدأ هذا الدور باعتناق الإمبراطور قسطنطين الكبير المسيحية سنة 313م، عندما رأى رؤيا صليبًا، وكتابة تقول: بهذه العلامة تنتصر.  ودخل المعركة وانتصر ، فجعل علامة الصليب رمزًا لجيوشه، وجعل المسيحية هي الديانة الرسمية للدولة، وأصدر قرارات ومراسيم ملكية في صالح المسيحيين، وأعطاهم مراكز شرفية في الدولة، وأخذ مكانه أمام العالم كرأس الكنيسة، ولكنه احتفظ لنفسه بمركز رئيس كهنة الأوثان.  لم يكن مؤمنًا حقيقيًا بالمسيح، لكنه معترف فقط بالمسيح.  وفي عصره استراح المسيحيون من نار الاضطهاد، ولكن في عصره أيضًا دخلت المبادئ الوثنية إلى المسيحية.  وقد تحولت المعابد الوثنية إلى كنائس، وكهنة الأوثان صاروا كهنة في المسيحية، وكثير من الطقوس الوثنية دخلت إلى المسيحية.  ودخلت عبادة التماثيل والصور، التي تحولت إلى قديسين في المسيحية.  وتحولت الأعياد الوثنية إلى أعياد مسيحية، مثل الكريسماس الذي كان في ذات التاريخ هو عيد ميلاد ابن ملكة السماوات، وقبل القرن الرابع لم يُسمع عن هذا العيد في المسيحية.

   إن كلمة ”برغامس“ تعني ”زواج كثير، أو زواج بالإرغام“.  والكنيسة الآن مخطوبة للمسيح كعذراء عفيفة (2كو11: 2)، لكنها هنا ارتبطت بالعالم، واتحدت بالدولة في علاقة زواج غير مُقدس.  وفي هذا الدور أصبح العالم كنسيًا بدرجة قليلة، وأصبحت الكنيسة عالمية بدرجة كبيرة جدًا.  

   «واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في برغامس: هذا يقوله الذي له السيف الماضي ذو الحدين» (رؤ2: 12).  إن الرب يُقدِّم نفسه لهم كالديان، ويشير السيف إلى كلمة الله في صفتها القضائية نحو الأحباء والأعداء.  فقبل أن يدين الأشرار بالسيف الخارج من فمه (رؤ19: 15)، يدين الشر في شعبه.  ولو كانت برغامس تحت تأثير كلمة الله، لما وجدت في وفاق مع العالم.

    «أنا عارف أعمالك وأين تسكن، حيث كرسي الشيطان» (ع13).  كرسي الشيطان أو عرشه تعبير مجازي يعني سيادته وسلطانه، فهو «رئيس هذا العالم».  والكنيسة ترتحل وليس لها أن تسكن هنا حيث العالم الذي رفض المسيح وصلبه.  هنا الكنيسة نسيت دعوتها السماوية وغربتها واستقرت في العالم، واختلطت به.  وبعد أن كان الشيطان يعمل من الخارج ويشدد الهجوم كالأسد الزائر، فإنه هنا يعمل من الداخل كالحية الماكرة لكي يفسد الأذهان عن البساطة التي في المسيح.  وقد نجح كالحية فيما فشل فيه كالأسد.  في سميرنا كان يحاول أن يقحم نفسه في الكنيسة كضيف ثقيل، ولكن هنا هو صاحب البيت الذي يستضيف الكنيسة.

   لقد قدم رئيس هذا العالم للمسيح جميع ممالك العالم ومجدها، لكن المسيح رفض كل ذلك، أما المسيحيين هنا فقد قبلوا المجد العالمي من يد الشيطان.

   هذا الدور يقابل مثل «حبة الخردل» (مت13: 31) التي صارت شجرة عظيمة تآوت طيور السماء في أغصانها.  هكذا المسيحية هنا كبرت واتسعت، لكنها صارت محرسًا لكل روح نجس.  ونحن نعلم أن طيور السماء ترمز للشيطان.

   «وأنت متمسك باسمي، ولم تنكر إيماني، حتى في الأيام التي فيها كان أنتيباس شهيدي الأمين الذي قُتل عندكم حيث الشيطان يسكن» (ع13).  بالرغم من الانحدار الذي حدث في كنيسة برغامس لكن كان هناك ما يستحق المدح من الرب.  لقد تمسكوا باسمه، ولم ينكروا إيمانه.  فقد ظهرت في هذه الفترة بدع وهرطقات مثل ”بدعة آريوس“ الذي أنكر لاهوت المسيح، واعتبر أن المسيح هو أسمى المخلوقات.  وقد دعا قسطنطين لقد مجمع نيقية سنة 325م لحسم هذا الموضوع، وتصدى ”أثناسيوس الرسولي السكندري“ لهذه البدعة، وصدر قانون الإيمان الذي يُقر ويعترف بلاهوت المسيح.  فاسم الرب هو التعبير عن الحق الخاص بشخصه كابن الله الأزلي.

   «أنتيباس شهيدي الأمين».  لا نعرف شيئًا عن تاريخه، لكن يكفيه شهادة الوحي عنه.  معنى اسمه ”ضد الكل“، ففي أيام الارتداد يقف الأمين في صف الله ضد الكل.  وهذا ما فعله أثناسيوس، فبعد سنوات قَبِل قسطنطين آريوس وجماعته في الكنيسة، وحاول الضغط على أثناسيوس الذي تعرض للاضطهاد والنفي دفاعًا عن هذا الحق، وقال له قسطنطين: ”ألا ترى أن العالم كله ضدك“! فقال بثبات: ”وأنا ضد العالم“.  وكانت النتيجة أنه قُتل ونال شرف الشهادة، وسينال إكليل الحياة.  وتبقى الحقيقة المؤلمة انه قُتل عندهم حيث الشيطان يسكن.

   «ولكن عندي عليك قليل: أن عندك هناك قومًا متمسكين بتعليم بلعام، الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذُبح للأوثان ويزنوا» (ع14).  بلعام أحب أجرة الإثم، وعلَّم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل، ويغويهم ويقودهم ليزنوا مع بنات موآب، ويأكلوا ما ذُبح للأوثان (عد25: 1).  وبسبب هذه الخطية مات من الشعب 24 ألف بالوبأ.  إن الرب متكلمًا بفم بلعام أعلن أن إسرائيل «شعب يسكن وحده»  (عد23: 9)،  ويكون شعبًا خاصًا منفصلاً عن سائر الشعوب الوثنية.  وهذا الانفصال هو ما سعى بلعام لكي يهدمه.  لذلك فإن تعليم بلعام يعني مشاركة العالم في مسراته وخطاياه وعبادته.  وفي الكنيسة اليوم ما أكثر من ينادون بهذا التعليم، بل حتى وسط الجماعة التي انفصلت إلى الرب واقتنعت بهذا الحق، هناك خطر السقوط في هذا الشر.  وهناك الميل للاتحاد مع العالم والتساهل مع المبادئ العصرية التي تعتبر التمسك بالحق والانفصال عن العالم هو نوع من ضيق الأفق.  لقد تكلم بطرس عن «طريق بلعام» (2بط2: 15)، ويهوذا عن «ضلالة بلعام» (يه11)، ويوحنا عن «تعليم بلعام» (رؤ2: 14).  وهذا التعليم الفاسد يتضمن: الطمع، ومحبة العالم، والوثنية.

   «هكذا عندك أنت أيضًا قوم متمسكون بتعليم النقولاويين الذي أبغضه» (ع15).  لقد مدح الرب كنيسة أفسس لأنها أبغضت «أعمال النقولاويين»، وهنا يوبخ برغامس لأنه يوجد بداخلها قوم يتمسكون بتعليمهم.  لقد تطورت الأعمال إلى تعليم راسخ، والبعض يتمسكون به.  وقد فهمنا قبلاً أن هذا يعني التمسك بالرياسات البشرية في الكنيسة ورفض رئاسة الرب باعتباره الرأس الوحيد.

   «فتب وإلا فإني آتيك سريعًا وأحاربهم بسيف فمي» (ع16).  هنا الدعوة للكنيسة كلها لتتوب، فيستحيل أن يرى الرب الشر ولا يحذر من خطورته ونتائجه، فإنه إله غيور.  يقول محذرًا: «أحاربهم بسيف فمي»، وليس أحاربكم.  فإنه ينظر إلى المؤمنين الأمناء باعتبارهم بقية منفصلة عن هذه الشرور، لهذا فالقضاء قاصر على فاعلي الشر.  إن دور الكنيسة ومسؤوليتها أن تدين الشر وتوبخه ولا تسمح به في وسطها، وإذا فشلت فإن الرب نفسه سيفعل ذلك.  عبارة «آتيك سريعًا» ليس للاختطاف بل للقضاء.

   «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس.  من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المُخفَى، وأعطيه حصاةً بيضاء، وعلى الحصاة اسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الذي يأخذ» (ع17).  والغالب هنا هو من يتوب ويحكم على الشر من جهة التعاليم المضلة، ويقف في صف الرب ضد كل المبادئ العالمية التي دخلت إلى الكنيسة.  وهنا نرى ثلاث عطايا للغالب: المن المُخفَى، الحصاة البيضاء، والاسم الجديد.

   «المن المخفى» ليس هو الذي أكله الشعب في البرية، بل الذي كان موضوعًا في القسط الذهبي في التابوت.  إنه مكافأة للغالب عند نهاية الرحلة.  فالذي رفض أن يأكل ما ذُبح للأوثان ويزني، وعاش منفصلاً عن كل الشرور التي حوله، سيعطيه الرب أن يأكل من المن المُخفى.  فالمؤمن في المجد سيعرف الكثير عن المسيح، وأسرار حياته التي كان يحياها هنا على الأرض.  سيعرف الكثير عن عمق اتضاعه، وعن كمالات حياته، وكيف عاش غريبًا سماويًا منفصلاً عن العالم.  والغالب في برغامس هو الذي رفض واحتقر المراكز العالمية وكل مجد وشرف عالمي، وقنع أن يتبع مسيحًا مرفوضًا من هذا العالم، واحتمل عار الرفض هنا.

   «الحصاة البيضاء» علامة استحسان الرب للغالب وتعبير عن رضاه وسروره وترحيبه به.  وكأنه يقول: ”حملوا الصليب وما استحوا بي في البشر، بل ما ابتغوا حظًا سوى اسمي المحتقر، فليجلسوا حولي على عرش الظفر، وليلبسوا أكاليل مجد قد بهر، وليشبعوا من نعمة بيميني“.

   «الاسم الجديد» هو إعلان جديد عن شخصه الفائق الذي لا يعرفه إلا الآب، دليل على الشركة السرية الخاصة بين المؤمن والرب.  لذلك علينا أن نحترص لنكون مرضيين عنده طالما نحن هنا على الأرض (2كو5: 9).

***

   وفي رحلة بولس في السفينة نرى ما يطابق هذا الدور الثالث في رحلة الكنيسة (أع27: 6 – 13).

وهذا، بحسب ما ذكر الأخ الفاضل يوسف رياض في كتاب رحلة الكنيسة، يتلخص فيما يلي:

1-  المسيحية التي صارت ديانة عالمية بعدما اعتنق قسطنطين المسيحية: عند ”ميراليكية“ بدَّل المسافرون السفينة بسفينة اسكندرية، أي من مصر التي ترمز إلى العالم.  في المرحلة السابقة مروا «من تحت قبرس»، التي تعني ”صفاء وحب“.  أما هنا فسافروا «من تحت كريت» ذات السمعة الرديئة.  «فالكريتيون دائمًا كذايون، وحوش ردية، بطون بطالة» (تي1: 12).  والكلمة تعني ”جسدي“.  والمعنى الروحي أن المؤمنين في سميرنا (عصر الاستشهاد) مروا من تحت الصفاء، ولم يمكنهم التمتع بالراحة والاستقرار.  أما هنا فلم يعانوا من وحشية الأباطرة الرومان بل أتوا إلى مكان «يُقال له المواني الحسنة» (أع27: 8).  لقد أصبح الإمبراطور في صفهم، لذلك «ظنوا أنهم ملكوا مقصدهم» (أع27: 13).  لكن لم يكن الأمر كذلك.  المواني الحسنة ليست هنا بل في الأبدية حيث «البحر لا يوجد فيما بعد» (رؤ21: 1).

2-  دخول الروح العالمية إلى الكنيسة: لم تعد العبادة في سراديب وبيوت وأماكن متضعة بل في مبان ضخمة وفخمة، وبدل الفقر في سميرنا أصبحوا أغنياء في برغامس.  لكن هذا كان على حساب التقدم الروحي الحقيقي.  يقول المؤرخ في سفر الأعمال: «كنا نسافر رويدًا ... بالجهد ... لم تمكنا الريح أكثر ... لما مضى زمان طويل، وصار السفر في البحر خطرًا، إذ كان الصوم قد مضى» (أي أيام المعاناة انتهت وجاءت أيام الرخاء)، لكن جاء معها الفقر الروحي.  لقد ضاع الضمان الأبدي، وصار السفر خطرًا.  «لأن الميناء لم يكن صالحًا للمشتى، استقر رأي أكثرهم أن يقلعوا ... إلى فينكس ليشتوا فيها. وهو ميناء في كريت تنظر نحو الجنوب والشمال الغربيين».  لقد أتى وقت الشتاء (برودة الابتعاد عن الرب والشركة معه)، اتجهوا إلى فينكس التي تعني (القرمز والأرجوان).  هذا ما اتجهت إليه المسيحية في ذلك العصر أي المجد العالمي.  هذا الميناء في ”كريت“ التي تعني ”جسدي“، ينظر إلى الجنوب والشمال معًا!  وهذا يرينا محاولة المسيحي التوفيق بين ما هو أرضي وسماوي.  «نسمت ريح جنوب» دافئة هادئة (تتكلم عن مصادقة العالم)، عكس ريح الشمال العاتية التي تتكلم عن التجارب والآلام.

3-  التحول عن كلمة الله إلى كلام الإكليروس: رأى بولس ضررًا للشحن وللسفينة، بل وللمسافرين أيضًا.  ”الشحن“ يشير إلى ”الحق المودع في الكنيسة“، و”السفينة“ تشير إلى ”الشهادة الكنسية“.  أما ضرر المسافرين فلا يعني احتمال هلاكهم بل الارتباك بالتعاليم الفاسدة.  «كان قائد المئة ينقاد إلى ربان السفينة وصاحبها أكثر مما إلى قول بولس» (أع27: 11).  فما عادت الكنيسة تحترم كلمة الله (قول بولس) ورئاسة الرب، بل تحترم أكثر الرئاسات البشرية والإكليروس.  إن قائد المئة لم يرفض نهائيًا كلام بولس لكنه كان ينقاد أكثر إلى ربان السفينة وصاحبها، وهو تحول تدريجي عن الحق الذي نادى به بولس. 


   

  

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com