(4)
تحدثنا فيما سبق عن بعض الصفات والسمات الأدبية التي
يتشارك فيها أبطال داود. وتكلَّمنا عن:
أولاً: الاجتماع إلى داود (1صم22: 1، 2؛ 1أخ12: 1، 8، 16، 19،
20، 22، 23).
ثانيًا: ترتيب الأولويات والخبرة بِالأَوقَات
(1أخ12: 32).
ثالثًا: التسلح للحرب (1أخ12: 1، 8، 25، 33، 35، 36، 37، 38).
رابعًا:
الشجاعة تُلهم الشجاعة (1صم17: 34-36؛ 1أخ11: 22).
ونواصل في هذا العدد تأملاتنا، فنقول:
خامسًا:
الوحدة مع التعددية:
نجد في أبطال داود التنوع في القدرات والأعمال التي
عملوها؛ فمنهم مَن اتصف بالقوة والإنجاز، ومَن اتسم بالتعب وتحمل الألم، وآخر أظهر
الثبات وعدم التزعزع، ومنهم مَن تميَّز بالذكاء وكثرة الأفعال، ومَن تميَّز
بالنشاط والسرعة. وبالرغم من أنهم من
خلفيات متباينة، وعائلات شتى، بل وأسباط مختلفة، لكنهم توَّحدوا جميعًا، والسر في
ذلك أنهم جعلوا داود رئيسًا عليهم، وبقلبٍ تَامٍّ جمعهم غرض واحد؛ إكرام داود
وتمليكه على كل إسرائيل (1أخ12: 38).
والكتاب المقدس يؤكد على مبدأ الوحدة مع التعددية. هناك ميل إلى افتراض أن الله يحد نفسه في شخص واحد، ومن خلاله يُتمِّم الكثير. ولكن الكتاب المقدس يُدحض
تمامًا فكرة ”خدمة الرجل الواحد“. فحتى في
العهد القديم، قَسَّم الله مسؤولية رعاية شعب الله بين الأنبياء والكهنة
والملوك. لم يركز كل القوة في وظيفة واحدة
أو رجل واحد، بالعكس، ففي هذا الأمر أوقع شاول نفسه في ورطة كبيرة، مُغتصبًا دور
صموئيل حين رفض انتظاره، وقام هو بنفسه بتقديم الذبائح (1صم13). ولنفس السبب كان سقوط ”عُزِّيَّا الملك“ عندما
تكبَّر، وارتفع قلبه، وتجرأ على أخذ مكان الكهنة في خدمتهم المُقدَّسة (2أخ26:
16-21). وهذا أيضًا كان انطباع إيليا
الخاطئ «بَقِيتُ أَنَا وَحْدِي»، بينما كان هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة (1مل19). إن الله يعمل الله من خلال أشخاص مُتعددين،
يعملون في انسجام واتحاد، ليُحقق مقاصده.
فهو لا يُحَدّ في شخص واحد، ولا حتى في قليلين.
وهكذا نقرأ أيضًا في العهد الجديد عن الكنيسة باعتبارها
جسد المسيح، والجسد واحد لكن الأعضاء كثيرة، وهو ما يُحدّثنا أيضًا عن الوحدة مع
التعددية؛ الوحدة في الجسد الواحد، والتنوع الذي نجده في مواهب مختلفة، وخدمات مختلفة، وأعمال مختلفة «وَلكِنَّ
هذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ، قَاسِمًا لِكُلِّ
وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ، كَمَا يَشَاءُ» (1كو12: 11).
«فَإِنَّهُ كَمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ لَنَا أَعْضَاءٌ
كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ جَمِيعُ الأَعْضَاءِ لَهَا عَمَلٌ وَاحِدٌ، هَكَذَا
نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ،
كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ. وَلَكِنْ
لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَنَا:
أَنُبُوَّةٌ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِيمَانِ، أَمْ خِدْمَةٌ فَفِي الْخِدْمَةِ،
أَمِ الْمُعَلِّمُ فَفِي التَّعْلِيمِ، أَمِ الْوَاعِظُ فَفِي الْوَعْظِ،
الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ، الْمُدَبِّرُ فَبِاجْتِهَادٍ، الرَّاحِمُ فَبِسُرُورٍ»
(رو12: 4-8).
فكل عضو من الجسد له عمل فريد، يقوم به بواسطة موهبته
الروحية. ومكتوب: «لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ
مَوْهِبَةً، يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ عَلَى
نِعْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ» (1بط4: 10)، لذلك ينبغي أن كل مؤمن يعرف الخدمة
المكلف بها من الله ويقبلها بشكر، وكذلك المكان الذي يريده الله فيه، وبالتالي لا
يزاحم في خدمة لم يدعوه الرب لها، أو يحتقر خدمة شخص آخر. ولا يجب أن يظن عضو في نفسه الاستقلالية عن باقي الجسد (1كو12: 21، 22)، ولا
يجب أيضًا أن يظن أحدهم في نفسه عدم الأهمية (1كو12: 14-19). وتجدر الإشارة أنه كلما تكلَّم الرسول بولس عن
ممارسة المواهب الروحية والوظائف الكنسية، فدائمًا يربطها بجسد المسيح (رو12؛ 1كو12؛ 1كو14؛ أف4)، ومسؤولية المواهب المختلفة لبنيان هذا الجسد.
وكما ذكرنا سالفًا فإن استعراض أبطال داود وأفعالهم يمدنا بصورة مُشرقة حية عن التنوع العظيم للمواهب
الروحية والنعم التي يجود بها الله على شعبه عامةً، وعلى خدامه خاصةً. فليس الجميع مدعوين أن يشتركوا فى ذات نوع
الخدمة، لذلك فليس الجميع مؤَّهلين بالمثل.
إننا نرى هذا المبدأ ممثلاً فى دائرة الطبيعة. فالبعض مؤَّهل لمهنة أو وظيفة معينة، بينما
آخرون مؤَّهلون لمهن أو وظائف مختلفة تمامًا.
هكذا أيضًا فى المجال الروحي: يُدعى الشخص لدائرة معينة، ويُمنح الموهبة
الملائمة لها، بينما يتعين آخر لمهمة مختلفة ويُعطىَ الإمكانيات المناسبة لها؛ ولا
يُجنى سوى التشويش لو حاول الأخير تتميم مهام الأول.
«كُلَّ
وَاحِدٍ لَهُ مَوْهِبَتُهُ الْخَاصَّةُ مِنَ اللهِ. الْوَاحِدُ هَكَذَا وَالآخَرُ هَكَذَا» (1كو7: 7). لكن مهما كانت مواهبنا كبيرة أو صغيرة فمن واجبنا أن نستخدمها ونضرمها لخير
قطيع الرب «وَلَكِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ
بِعَيْنِهِ، قَاسِمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ كَمَا يَشَاءُ» (1كو12: 11)،
ولذلك علينا أن نقنع بالمواهب والنصيب الذي حدده الله لنا، دون ازدراء بمن هم أقل
ولا حسد لمن هم أعلى منا. هناك درجات
متعددة للنفع والتميز بين المؤمنين. تمامًا
كما كان هناك درجات مختلفة للكرامة بين أبطال داود. إننا نقرأ عن أحدهم «أَلَمْ يُكْرَمْ عَلَى
الثَّلاَثَةِ فَكَانَ لَهُمْ رَئِيسًا، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى
الثَّلاَثَةِ الأُوَلِ» (ع19)، ثم بعد ذلك فى نفس الأصحاح نُعطى قائمة بأسماء
ثلاثين آخرين ممن شغلوا رتب أقل.
ليس الكل مدعوين لخدمة
واحدة: وكيفما كنا نُفضل، فيجب أن نكون دائمًا في المكان الذي يريدنا المسيح أن
نكون فيه. وكل مَن افتداه الرب، هو عضو في
جسد المسيح. والجسد واحد، لكنه يتكوَّن من
أعضاء كثيرة، لها وظائف مختلفة ومزوَّدة بتشكيلة منوَّعة من العطايا والمواهب
(رو12: 5-8)، وليس لأحد أن يختار الخدمة التي يرغبها، بل «قَدْ وَضَعَ اللهُ
الأَعْضَاءَ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْجَسَدِ، كَمَا أَرَادَ» (1كو12: 18).
على أن هناك ثلاثة أخطار تهدد أعضاء الجسد:
الخطر الأول: والأكثر شيوعًا هو عدم تمييز الخدمة التي يُناط بها العضو، وعدم الاهتمام بحمل
أعبائها. هذا هو مرض عدم المُبالاة بمصالح كنيسة الله وعدم التدرب، سواء على إدراك
أية مواهب ائتمنا الرب عليها، أو على الجدِّ، نحو ما هو أفضل بين المواهب
الحُسنى. ويا للخسارة!!
الخطر الثاني: الحسد الذي يجعلنا نُقلل من قيمة الخدمة التي قُسمت
لنا ونطمع في خدمة قُسمت لآخرين (1كو12: 14-17).
آه لو علم الأخ صاحب الخدمة البسيطة التي تبدو له كأنها قليلة الأهمية، أن
صاحب الخدمة البارزة لا يستطيع أن يستغني عن تلك الخدمة البسيطة، بل «هِيَ
ضَرُورِيَّةٌ» (1كو12: 22)، لارتاح ولخدم راضيًا.
والخطر الثالث:
الانتفاخ الذي يجعلنا نتفاخر بالموهبة التي أُعطيناها، ونظن أننا بها نستغني عن
خدمة الآخرين (1كو12: 21-23). فهل نسينا
التحريض «لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ
شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ
كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟» (1كو4:
7)؛ إن ما لدى المؤمن ليس من عندياته، بل أخذه من الرب، فلا فضل له، ولا سبب
للافتخار.
أيها الأحباء: نحن أعضاء في جسد المسيح، وأيضًا «أَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ
وَاحِدٍ لِلآخَرِ» (رو12: 5). نحن للمسيح،
ونحن أيضًا لبعضنا البعض، ليكون كل عضو بركة ومعونة للآخر. ولا يقوم كل عضو بأداء عمله بمفرده بالانفصال
عن باقي الأعضاء، بل كل الأعضاء تعمل متعاونة معًا، لنمو الجسد وبنيانه (أف4: 15،
16؛ كو2: 19). فلا يمكن أن أستغني عن أخي
الذي هو عضو معي في الجسد الواحد، موَّحدين من الله «لأَنَّنَا بَعْضَنَا
أَعْضَاءُ الْبَعْضِ» (أف4: 25).
(يتبع)