عدد رقم 5 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المطوبة مريم (11)  

إيمان .. وشركة

توقفنا الحلقة الماضية عند أهم مشهد؛ ليس في حياة المطوبة مريم وحدها؛ بل وفي التاريخ البشري كله، وأعني به مشهد الصليب.  حيث رأينا «أم يسوع» وهي يجتاز في نفسها أحد سيف قاسٍ، وفي نفس الوقت رأيناها واقفة شامخة عند صليب يسوع.

على أن رحلتنا عمومًا؛ وقصة سيدنا المعبود خصوصًا؛ تعلمنا أنه «عِنْدَ الْمَسَاءِ يَبِيتُ الْبُكَاءُ، وَفِي الصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ» (مز30: 5) وأن الآلام لا بد وأن يعقبها الأمجاد، وأن دموع الحزن حتمًا ستلحقها الترنيمات المفرحة.  نعم لقد قام المسيح من بين الأموات، فلم يكن ممكنًا لذلك القدوس البار أن يُمسك من الموت.  فقام بسلطانه كما قال (أع2: 24؛ يو10: 18) وأقامه الله بمجد (رو6: 4) والروح القدس كذلك (رو8: 11).  وظهر لتلاميذه المؤمنين به كما نفهم من الأجزاء الختامية في البشائر الأربعة مع بعض الإشارات في الرسائل (1كو15) لنحو 11 مرة على الأقل حتى 40 يومًا قبل صعوده إلى السماء، في مشهد ينقلنا فيه بالوحي المقدس لوقا الطبيب الحبيب ما بين ختام بشارته (لو24) وافتتاحية سفر الأعمال (أع1).  وفي كل هذه المشاهد نجد التلميح أو التصريح الذي يؤكد تواجد المطوبة مريم بين أولئك الذين آمنوا بشخصه وعرفوا "من هو؟"  وتعرفوا شخصيًا به في علاقة روحية حية وصحيحة.

وفي هذه الحلقة سنتوقف عند فكرتين برزتا بخصوص «أم يسوع» خلال الفترة التي امتدت لنحو عشرة أيام بين صعود المسيح، ثم مجيء الروح القدس في يوم الخمسين الذي هو موعد الآب، وحسبما وعد المسيح (أع2).  وهي التي تحدث عنها البشير لوقا في افتتاحية سفر الأعمال (أع1: 1-14). 

ودعنا أولاً نتوقف عند لحظة الصعود وما تلاها اعتبارًا من عدد 9 حيث يقول الوحي «وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ، وَقَالاَ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ. حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ، الَّذِي هُوَ بِالْقُرْبِ مِنْ أُورُشَلِيمَ عَلَى سَفَرِ سَبْتٍ. وَلَمَّا دَخَلُوا صَعِدُوا إِلَى الْعِلِّيَّةِ الَّتِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا...هؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ».

وعن المطوبة مريم نجد:

v    إيمان وأمانة

من الواضح جدًا أنها كانت في مقدمة التابعين المخلصين لربها؛ سيدها ومخلصها؛ يسوع له كل المجد هي ومن آمنوا به كذلك من أفراد الأسرة لاحقًا لموته وقيامته.  والواقع أن نوعية الإيمان الصحيح بالمسيح الذي توفر لديها حري بنا أن نتوقف أمامه لنستفيد منه.  فهو لم يكن إيماناً مبنيًا على أقرب علاقة جسدية (الأمومة)، ولا على عاطفة أو حدس أو قلب الأم كما يقولون.  بل هو أعمق وأسمى من كل ذلك.  إنه إيمان روحي حقيقي وصحيح، يرتبط لا بتصديق كلام المسيح فحسب، أو الانبهار بتعاليمه، أو الاندهاش من معجزاته ولا حتى بتصديق حقائق مسيحية واضحة وصحيحة شهد لصحة حدوثها القريب والبعيد؛ كل من عاصر هذه الفترة التاريخية المتخمة بالأحداث التي غيرت بعد ذلك تاريخ البشرية وجغرافية العالم.  فإن «َالَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَق، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ» (يو19: 35) أعني صلب المسيح، وموته، ودفنه، وقيامته، صعوده حيًا إلى السماء، ووعده بالمجيء ثانية....الخ، مما يعرفه ويؤمن به إيمان التصديق العقلي ملايين المسيحيين عبر العصور (وهو مطلوب بالطبع ولكنه ليس كافيًا).

فالإيمان الصحيح والذي كان للمطوبة نصيب منه هو الارتباط بالشخص نفسه والتبعية الأمينة له وحفظ وصاياه والعيشة العملية بموجبها.  وهذا ما حدث معها ومع سائر التلاميذ حرفيًا وقتها.

إن الإيمان الذي يخلص نفوسنا بحسب تعليم العهد الجديد هو بنعمة الله وحدها؛ ولكن يقينًا له ثمر؛ له عمل إيمان واضح في العيشة العملية في أعمال صالحة قد سبق الله وأعدها لكي نسلك فيها باعتبارنا خليقته الجديدة في المسيح (أف2: 8-10) أما الإيمان الذي لا يثمر عملاً يبرهن وجوده فهو ميت (يع2: 20) أي لا وجود له، مجرد قناعات ذهنية صحيحة ومعتقدات مسيحية يصدقها العقل فقط بدون حياة. ويا للمأساة!!

وقبل أن نسترسل أود أن يتوقف معي قارئي العزيز أمام هذه الحقيقة الخطيرة ليمتحن نوع إيمانه بالمسيح قبل أي شيء آخر!  فهذا هو محك الحياة المسيحية الصحيحة، حاضرًا، والأبدية السعيدة مع المسيح مستقبلاً وإلا فنكون مخدوعين؛ خدعنا من حولنا أو خادعين نفوسنا وهي أفظع مأساة في الوجود بلا شك أن يظن الإنسان نفسه مسيحيًا بالقناعات والطقوس والفرائض والأصوام...الخ، دون توبة عن الخطية أو إيمان قلبي ينعكس على مسار الحياة ومن ثم مصيرها.

على أن هذا الإيمان لحقته – أو بالحري أظهرته – الأمانة لأقوال المسيح ووصيته بالملكوث في أورشليم. وكلا الكلمتين: إيمان وأمانة هما قريبتان في اللغة؛ ليس فقط لغتنا العربية بل وفي اللغة اليونانية التي كتب بها العهد الجديد كذلك، وهما مرتبطتان جدًا من الناحية الروحية: فلا إيمان حقيقي بدون أمانة، ولا أمانة بدوافع نقية وصحيحة بدون إيمان صحيح.

v    شركة وصلوات:

أما أيام الانتظار العشرة هذه فأين تُقضى؟ (والرقم10في كلمة الله يشير إلى المسؤولية وإلى الامتحان).  لقد قضتها مع سائر التلاميذ في شركة مقدسة وفي صلوات كثيرة.  والواقع أن صحة العلاقة الروحية مع الله دائمًا ما يبرهن عليها هذان الأمران المتلازمان:

 الأمر الأول: الصلوات (بالجمع دلالة على الكثرة والتنوع) رأسيًا لأعلى.

والأمر الثاني: الشركة مع سائر القديسين والتلاميذ أفقيًا على الأرض.

إن أول مميز اقنع به الرب الأخ حنانيا بأن شاول الطرسوسي تحول من متدين بالله حافظ لتعاليم شريعته إلى شخص حي مرتبط بالمسيح الحي والممجد في السماء هو قول الرب عنه «هوذا يصلي» (أع 9: 11)، دون فريضة أو تشريع، دون محفوظات أو تقاليد.  بل هو توجه تلقائي ناتج عن بدء حياة جديدة في المسيح ومع المسيح.

كما أن من يعتقد في نفسه القوة على العيشة في هذا العالم مهما كان سمو روحانياته، بل وحتى لو كانت المطوبة مريم نفسها، بدون شركة القديسين هو واهم بلا شك.  فالشركة نابعة من أشياء مشتركة.  وما جمع هؤلاء المذكورين في أعمال 1 هو الإيمان المشترك، والأمانة المشتركة، والانتظار المشترك لمجيء الروح القدس ويقضون هذه الفترة في الصلوات: فرديًا وجماعيًا.

وهو درس آخر نحتاج إليه بشدة -أعزائي الشباب- عندما يمتحن الرب إيماننا فيه وانتظارنا له في أي أمر كان.  كيف نقضي فترة الانتظار التي نتوقع فيها إعلان مشيئة الرب لنا من جهة أمر مهم في حياتنا كالارتباط أو العمل أو الهجرة أو الخدمة..الخ؟  ليس أفضل من الانتظار الهادئ الذي يقضى في الصلوات الكثيرة والثقة الكبيرة في إله قط لا يُخزي منتظريه.

 

                                                 (يتبع)

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com