عدد رقم 5 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
ليلة مصارعة  


(تك32)

   إن الوقت الذي يخلو فيه الإنسان مع الله للمرة الأولى هو من أهم الأوقات في تا ريخه.  ويصف لنا هذا الأصحاح ليلة في حياة يعقوب عندما بقي وحده مع الله.  ومما يجعل تاريخ يعقوب جديرًا باهتمامنا أنه يوجد الكثير من يعقوب في كل واحد منا.  ولكن ما يشجعنا أن نعلم أن لقب «إله يعقوب» الذي يرينا أمانة إله كل نعمة وصبره، هو من أكثر ألقاب الله ورودًا في الكتاب المقدس.

   عندما يتناول الله سيرة إنسان ما فإنه لا يحابي بالوجوه، ولذلك فقد سجل لنا الروح القدس تاريخ يعقوب كما كان يعقوب، وبالرغم من أن تاريخه لم يكن كله مُشرفًا سواء كابن أو كأخ أو كابن أخت، إلا أن الله يقول: «أحببت يعقوب»! وهذه المحبة هي بحسب قصده ونعمته، وليس لأجل فضل أو مميزات فيه.

   كان يعقوب إنسانًا يتعلق قلبه بالأرض، ولكن الله في غنى نعمته كان يضع عينيه عليه للبركة.  والأصحاح موضوع تأملنا يأتي بنا إلى النقطة التي باءت فيها كل خطط يعقوب بالفشل، مع أنها كانت خططًا بارعة بحسب الطبيعة.  وعندما وجد يعقوب نفسه إنسانًا مسكينًا عاجزًا يحتاج إلى من يسنده، حدث أن كسر الله عناده، حينئذ نال بركة الرب وتغير اسمه إلى «إسرائيل».  وهذا هو الدرس العملي لكل من يدبر ويخطط تدبيرات جسدية بدون الله.

   لم تكن مشكلة يعقوب مع الناس مثل لابان أو عيسو، بل مع الله متمثلة في عناد الإرادة الذاتية وفي القدرة والحكمة الجسدية التي ينفذ بها هذه الإرادة.  لهذا عاش مستقلاً عن الله، ومتكلاً على الجسد.  لقد كانت حياة يعقوب حتى الأصحاح الثاني والثلاثين حياة مؤسفة، لكن كان قصد الله أن يباركه من قبل ولادته.  لعلنا نذكر ما حدث في نهاية أصحاح 25 من التكوين، كيف أن عيسو باع بكوريته بأكلة عدس.  ويقول الوحي عنه «فاحتقر عيسو البكورية».  فلا عجب أن تكون نهايته سيئة ويقول الكتاب محذرًا إيانا: «لئلا يكون أحد زانيًا أو مستبيحًا كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته» (عب12: 16). 

   لقد قصد الله أن يعطي البركة ليعقوب ولكنه خطط بطريقة غير مشرفة لا تليق بأخ نحو أخيه.  وفي الأصحاح السابع والعشرين نرى أن يعقوب خدع أباه للحصول على البركة عن طريق الكذب.  وقد نطق إسحاق بالبركة ليعقوب التي كان قصد الله أن يمنحها له بطريقة سليمة.

   ولكننا نفعل حسنًا لو تأملنا نتيجة هذا العمل الذي عمله يعقوب.  فإن الأحداث التي تلت ترينا أن الفعل الخاطئ له جزاؤه حتى في هذه الحياة.  فيعقوب لم ينعم قط بالراحة والسلام من ذلك اليوم فصاعدًا، واضطر أن يغادر بيته لينجو من غضب عيسو، وذهب إلى خاله في أرض بعيدة، حيث عامله لابان بقسوة وغشه كما سبق أنه هو غش آخرين أيضًا. وهكذا نال يعقوب جزاءه وحصد ما سبق أن زرعه.

   وفي الأصحاح الذي أمامنا نصل إلى مرحلة من مراحل حياة يعقوب عند رجوعه من فدان آرام عندما لاقته ملائكة الله.  وعلى الرغم من أنه قال عنهم «هذا جيش الله»، إلا أنه كان خائفًا وقلقًا، فأرسل رسلاً إلى عيسو ليقولوا: «سيدي عيسو .. هكذا قال عبدك يعقوب» (ع4، 5).  إنه يعرف ما اقترفه نحو عيسو، وها ضميره يتحرك بعد أن ظل خامدًا لسنوات كثيرة.  إنه يعود ويعمل ولا يرتاح عندما رجع رسله قائلين: «أتينا إلى أخيك عيسو، وهو أيضًا قادم للقائك وأربع مئة رجل معه.  فخاف يعقوب جدًا وضاق به الأمر».  على أنه خير للإنسان الخاطي أن يتنبه ضميره في مثل هذه الحالة من أن يستيقظ في البدية ويكتشف أن حياته كلها كانت غلطة كبيرة جدًا، بعد فوات الأوان.

   يدبر يعقوب خططه ويقسم رجاله وبهائمه، وبعد ذلك يتوجه إلى الله ليبارك له تدبيراته، ونحن كثيرًا ما نتصرف مثل يعقوب.  وفي صلاته يقول للرب: «يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحاق»، ولا يقول بلغة الثقة: يا إلهي.  وإذ ينهي صلاته يستأنف خططه ويرسل هديته إلى عيسو عسى أن يرفع وجهه.  وأخيرًا يستقبله أخوه بالعناق والتقبيل والدموع.  وبعد أن أجاز عائلته في مخاضة يبوق، نقرأ هذه الكلمات: «فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر» (ع24).  إنها ليلة مشهورة .. ليلة المصارعة هذه.  وما معنى هذا؟ لقد ظن البعض أنها صورة تشبيهية للجاجة والمثابرة التي يجب ان تتوفر لدينا عند الصلاة، ولكن الكتاب لا يقول إن يعقوب هو الذي كان يصارع بل صارعه إنسان حتى طلوع الفجر.  وهذا الإنسان الذي لا يُذكر اسمه يقينًا هو الله الذي صارع يعقوب طول الليل حتى طلوع الفجر.  لقد كان يعقوب مصممًا على المقاومة، ولكن الله أيضًا صمم على أن يكسر عناد يعقوب، وذلك لكي يباركه.

   أيها الصديق: هل يتعامل الله معك؟ هل يصارعك؟ هل يضع يده عليك بالمرض أو بالظروف غير الموفقة؟ إن لدى الله طرقًا عديدة يستخدمها ليجذب الإنسان إليه.  فإذا كان يتعامل معك لا ترفض ولا تقاومه، فإن مصيرك الأبدي وحتى نجاحك الزمني يتوقف على خضوعك لله.  لقد صارع ذلك الإنسان يعقوب حتى طلوع النهار، وصبر طويلاً عليه لأنه كان يقاومه.  وكان غرض الله هو أن يكسر إرادة يعقوب ويخضعه لكي يصبح الله مُتكله.  وأخيرًا عندما بزغ الفجر، «لما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع»، ضربه في ذات مركز قوته.  وقال: «اطلقني لأنه قد طلع الفجر»، ولكن يعقوب قال له بالدموع: «لن أطلقك إن لم تباركني».  كأنه يقول: لقد ضاعت قوتي .. فأنا الآن ضعيف ولا أستطيع أن أستغني عنك .. أنا في حاجة شديدة إليك.  لقد تعلم يعقوب درس التمسك بالله والاعتماد عليه للبركة، ويا له من درس ثمين! لقد غيَّر الرب اسم يعقوب المراوغ وأعطاه اسمًا جديدًا هو إسرائيل.  إن تغيير الاسم في الكتاب يعني أن الشخص الذي يتغير اسمه يخضع دائمًا لمن غير له اسمه ويتبعه.  والرب قد غيَّر اسم سمعان إلى بطرس (حجر)، فلقد أصبح حجرًا حيًا يخص المسيح.

   وقال الله ليعقوب: «لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت».  لقد نال اسمًا جديدًا ومكانًا جديدًا أمام الله الذي كسر إرادته، فتعلق به، فباركه.

   وعندما قال يعقوب للرب: «أخبرني باسمك»، قال له: «لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك» (ع29).  فرغم بركة الله ليعقوب لم يعلن له اسمه.  فلم يكن في المكان الصحيح ولا في الحالة الصحيحة.  لقد كان بعيدًا عن بيت إيل وكانت في بيته آلهة غريبة، والله لا يمكن أن يرضى عنها.  ولكنه عندما عزل كل الآلهة الغريبة وقام وصعد إلى بيت إيل وبنى هناك مذبحًا للرب، هناك باركه بركات غزيرة، وفعَّل الاسم الجديد إسرائيل الذي يعني أمير الله، وأعلن له اسمه كالله القدير دون أن يسأله عن اسمه (تك35).

   هناك غيَّر يعقوب اسم المكان الذي تقابل فيه مع الرب إلى «فنيئيل» التي تعني وجه الله، بدلاً من «يبوق» التي تعني إفراغ.  وهناك أشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل.  وكانت بداية جديدة مشرقة في حياته، ومن ذلك الوقت بدأ مساره الروحي يستقيم رغم أنه ظل يعرج طوال حياته الباقية.

      

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com