عدد رقم 3 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
ليلة بين الأسود (دا 6)  

   كان دانيال رجلاً من رجال الله الأتقياء، إذ كان في شركة دائمة مع إلهه متعلقًا به بإيمان راسخ، طائعًا له ومكرمًا إياه بشهادته الأمينة مهما كلفه ذلك، ولو الطرح في جب الأسود.

   ويا لها من خاتمة مباركة اقترنت فيها نجاة دانيال بالشهادة لإله دانيال من الملك داريوس الوثني عندما أعلن لكل الرعية: «في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قدام إله دانيال، لأنه هو الإله الحي القيوم إلى الأبد.  وملكوته لن يزول وسلطانه إلى المنتهى ... هو ينجي وينقذ ... هو الذي نجى دانيال من جب الأسود» (دا6: 26، 27).

   ويجدر بنا أن نتعلم من هذه الحادثة كيف أن الله يعلم الذين هم له، وأنه يتدخل في الوقت المناسب لينقذهم  من التجربة رغم تدابير الأشرار ضدهم وحيل الشيطان من حولهم.

   ويكشف لنا سفر دانيال الستار عن أزمنة الأمم، وهي فترة سمح فيها الله بأن تتولى الأمم السلطة المدنية في العالم حتى يظهر فيها مدى كبريائهم وحماقتهم وفسادهم.  ففي الأصحاح الثالث نرى نبوخذنصر يقيم تمثالاً من ذهب ارتفاعه ستون ذراعًا، وفي الأصحاح الرابع نراه يرفع نفسه ويعظمها، ولكن الله يذله وينزله إلى مستوى الحيوانات، وفي الأصحاح الخامس نرى مشهدًا لفجور بيلشاصر وتدنيسه المقدسات بإحضاره آنية الرب، وشربه الخمر بها، ويا لها من إهانة لله!  وفي الأصحاح السادس الذي نتناوله الآن نرى رجلاً آخر يعظم نفسه، ويأخذ مكان الله.  فالصورة إذًا متكاملة.  ص3 يرينا الوثنية، ص4 يرينا تعظيم الذات، وص5 يرينا الفجور وإهانة الله، وص6 يرينا الارتداد.

   ومع أن الملك داريوس لم يتخذ الخطوة الأولى في مشهد الشر هذا بل عظماؤه وحاشيته هم الذين نصبوا له فخًا بأن يجعلوه مركز التعبد الذي يلجأ إليه الناس في طلباتهم، لكن هذا كان مرضيًا لغروره حتى أنه وقع في الشرك.  وفيه نرى ظلاً لإنسان الخطية الذي يعظم نفسه ويريد أن يأخذ مكان الله، كما هو موضح في 2تس2؛ رؤ13.

   وفي التأمل في سيرة دانيال تشجيع قوي لنا حتى نقف بجانب الرب في اليوم الشرير.  لقد كان لدانيال مركز عظيم في مملكة داريوس، فقد اعترف الملك بجدارة دانيال وأعطاه المركز الأعلى بين الوزراء الثلاثة، ففاق دانيال هذا على الوزراء والمرازبة لأن فيه روحًا فاضلة، وفكر الملك في أن يوليه على المملكة كلها.  وكان دانيال رجلاً تقيًا، والعالم في شره وفساده لا يحب الأتقياء.

   وإذ غضب الرؤساء والوزراء بسبب تفضيل الملك لدانيال، حاولوا أن يجدوا علة عليه ولكنهم لم يستطيعوا.  لأنه كان أمينًا ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب.  لقد كان سلوكه كاملاً، وكانت له معرفة بفكر الله حتى أنه أخذ أعلى المراكز في المملكة في أيام نبوخذنصر، وأيضًا في أيام داريوس.  فقد أثار هذا حسد وعداوة الوزراء والمرازبة، فكانوا يطلبون علة ... فلن يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنبًا.  ويا لها من شهادة رائعة لخادم الله هذا.  ترى لو كتب الله شهادة عن حياتنا هل كان سيكتب نفس الشيء؟

   ويذكرنا هذا بالرسول يولس عنما قال للذين يتهمونه: «لذلك أنا أيضًا أدرب نفسي ليكون لي ضمير بلا عثرة من نحو الله والناس» (أع24: 16).  وهذا ما ينبغي أن يفعله المؤمنون.

   لقد كان دانيال يسير طبقًا لهذا المبدأ.  لقد أرضى الله وفي نفس الوقت شهد له الناس.  ولقد كان موقف دانيال حرجًا إذ كان تقيًا وكان في نفس الوقت ذا مركز عالمي عالٍ، وكلما علا مركزك في العالم أصبح العالم متحكمًا فيك إن لم تكن عينك  مثبتة على الرب بصفة مستمرة.  لقد كانت عين دانيال مثبتة على الرب ولذلك أيده الله وخزل أولئك الذين كانوا يتآمرون لسقوطه.

   بعد أن نال أعداء دانيال طلبهم من الملك قالوا له: «فثبت الآن النهي أيها الملك، وأمض الكتابة لكي لا تتغير كشريعة مادي وفارس التي لا تُنسخ.  لأجل ذلك أمضى الملك داريوس الكتابة والنهي» (ع8، 9).

   والآن دعنا نتأمل فيما صنعه دانيال رجل الإيمان.  «فلما علم دانيال بإمضاء الكتابة،  ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة في عليته نحو أورشليم.  فجثا على ركبتيه ثلاث مرات في  اليوم وصلى وحمد  قدام إلهه، كما كان يفعل قبل ذلك» (ع10).  حينما كان يسجد دانيال في الصلاة لله كان يعرف كل شيء عن النهي الذي صدر، ولا شك أنه فكر جيدًا فيما كان يعمله وفي نتائجه.  كم من الناس قد تحولوا عن الحق بسبب خوفهم من النتائج.  لقد تشدد دانيال وكان عمله شهادة للإيمان المتمسك بالله رغم الظروف الرهيبة حوله.  وإن عمله هذا ليخجل الكثيرين من المؤمنين.

   ترى ما الذي جعل دانيال يترك النوافذ مفتوحة ويصلي بهذه الكيفية كعادته؟ لنرجع إلى صلاة سليمان عند تدشين الهيكل إذ قال: «إذا أخطأوا إليك، لأنه ليس إنسان لا يخطئ، وغضبت عليهم ودفعتهم أمام العدو، وسبوهم إلى أرض بعيدة أو قريبة، فإذا رُدوا إلى قلوبهم ... وصلوا ... نحو البيت الذي بنيت لاسمك، فاسمع من السماء من مكان سكناك صلاتهم وتضرعاتهم» (2أخ6: 36 – 39).

   كان دانيال يدرك وهو في أرض السبي أن الله هو إلهه الذي ينبغي له العبادة والسجود، وأنه هو الملجأ الأمين والمنقذ الوحيد الذي يستطيع أن ينجيه.

    وفي الأصحاح التاسع نراه معترفًا بخطية الشعب أمام الرب الإله العظيم المهوب حافظ العهد والرحمة ... «فاسمع الآن يا إلهنا صلاة عبدك وتضرعاته وأضئ بوجهك على مقدسك الخرب».

   اجتمع أعداؤه ووجدوه يطلب ويتضرع قدام إلهه، جاثيًا على ركبتيه صباحًا وظهرًا ومساءً متجهًا نحو أورشليم.  لقد كان دانيال رجل الإيمان ورجل الصلاة والشركة الدائمة مع الله.

   ذهب الأعداء للملك وقالوا له: «إن دانيال الذي من بني سبي يهوذا لم يجعل لك أيها الملك اعتبارًا ولا للنهي الذي أمضيته، بل ثلاث مرات في اليوم يطلب طلبته».  لقد شهد أعداؤه لتقواه وصلاحه.  فلما سمع الملك هذا الكلام اغتاظ على نفسه جدًا وجعل قلبه على دانيال لينجيه، واجتهد إلى غروب الشمس  لينقذه، ولكنه لم يستطع إذ أن قوانين مادي وفارس لم تكن قابلة للتغيير.

   «حينئذ أمر الملك فأحضروا دانيال وطرحوه في جب الأسود.  وقال له الملك: إن إلهك الذي تعبده  دائمًا هو ينجيك».  يا لها من كلمات منعشة ومشجعة من شأنها أن تزيل الخوف من قلب دانيال، خاصة عندما نطق بها الملك الوثني.

   نُفذ القضاء وساد الظلام.  ولكن دانيال لم يحظَ بليلة أسعد من تلك الليلة، لأنه كان في طريق الإيمان والطاعة.  لقد وقف الرب بجانبه بطريقة عجيبة، فلئن كان دانيال قد ذهب وحيدًا إلى الجب إلا أنه كان مع الله وكان الله معه، ولم يفكر في  الأسود ولم يخف ضراوتها ووحشيتها إذ أنه لم يمضِ تلك الليلة مشغولاً بالوحوش بل مختليًا بالله مستندًا بالإيمان عليه.  ولقد كافأ الله إيمانه لأنه يسر بإيمان وطاعة خائفيه ويتمجد في إنقاذهم  وخلاصهم.

   وبعكس السلام والهدوء والطمأنينة التي بات فيها دانيال، كانت حالة الملك داريوس نفسه، فقد طار عنه نومه، وفي الفجر قام باكرًا وذهب إلى الجب لكي ينادي دانيال بصوت أسيف: «يا دانيال عبد الله الحي.  هل إلهك الذي تعبده دائمًا قدر على أن ينجيك من الأسود»؟ ويجيب دانيال مؤكدًا: «أيها الملك عش إلى الأبد.  إلهي أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود فلم تضرني».  وكم هو جميل عندما يتأكد إنسان من خلاصه ويقول: «إلهي».  لقد استطاع بولس أن يقول هذه الكلمة عن ثقة: «فيملأ إلهي كل احتياجكم» (في4: 19).  كم هو عجيب أن يصبح الله لنا وأن ندرك أنه أبونا.  «إن كان الله لنا فمن علينا؟ الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟ من سيفصلنا عن محبة المسيح: أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف ... في هذه جميعها يعظم انتصارنا  بالذي أحبنا ...» (رو8: 32 – 39).

   فلنكن أمناء لإلهنا شاهدين لحقه ونعمته في الدائرة التي يسمح لنا بالوجود فيها، ولنسلك طريق الإيمان الذي يمسك بالله بدون خوف.  ولا بد أن يكافئ الرب كل أمانة من نحو اسمه.  إن التكريس هو طريق تمجيد المسيح، كما أنه سبيل بركة المؤمن.  لا بد أن ينهزم الشيطان في النهاية وهذا ما حدث لأعداء دانيال إذ قد حفروا له حفرة ولكنهم وقعوا فيها.  وهكذا هو الحال دائمًا، فالنصرة لله ولمن يقفون معه.

           

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com