عدد رقم 3 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أبْطَال وأفْعَال ... ودروسٌ للأجْيَال (8)  

(قراءة في أبْطَال داود)

(2صم23؛ 1أخ11، 12)


بدأنا حديثنا في العدد الماضي عن أبطال داود من الجاديين الذين انفصلوا إلى داود عندما كان لا يزال في «الْحِصْنِ فِي الْبَرِّيَّةِ» (1أخ12: 8-15).  ومن المُرجح أن يكون ذلك إشارة إلى ”مَغَارَةِ عَدُلام“.  وكان مُسرًا بوجه الخصوص عندما تذكَّرنا أن آباء هذا السبط كانوا غير راغبين في دخول أرض ميراثهم في كنعان، مُفضّلين أن يستقروا في الجانب الشرقي لنهر الأردن.  ولكن كان من الرائع أن نجد جيلاً جديدًا من أحفاد الجاديين، في أيام داود، يتسامى فوق تاريخ اهتمامات آبائهم الأرضية، ليتصرف في عكس اتجاه لا مبالاة أجدادهم، مُظهرين شجاعة وإخلاص لله ولأموره، فكانوا أفضل مما كان عليه آباؤهم بالحق.

ولاحظ أنهم انفَصَلوا «إِلَى دَاوُدَ».  والأمر الإيجابي للموضوع هو التأكيد على أن انفصالهم كان «إِلَى دَاوُدَ».  بالضبط مثلما أن المؤمنين المسيحيين مدعوون «لْنَخْرُجْ إِذًا إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ» (عب13: 13).  فالولاء لداود كان يستلزم الانفصال عن نظام شاول وحُكمه الذي كان في طريقه للانحلال، فمن غير الممكن أن يكونوا موالين لكليهما.

ولا شك أن جاذبية داود كانت هي العامل الحاسم والفعال الذي أنهض الإخلاص له، مثلما كان ظهور ”إِلَهُ الْمَجْدِ“ هو العامل الحاسم الذي جعل إبراهيم يخرج من أور الكلدانيين ويترك أوثانه (أع7: 2).  والتحول «إِلَى اللهِ» كان السبب الإيجابي للتسالونيكيين لرجوعهم «مِنَ الأَوْثَانِ» لِيَعْبُدُوا «اللهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ» (1تس1: 9).  وفي جميع الحالات، فإن القلب الذي تعلَّق بالمسيح وانفصل إليه، حتمًا سيقوم باستبعاد كل ما لا يتوافق مع الارتباط به؛ تعليميًا وكنسيًا وأدبيًا وأخلاقيًا.  والمؤمن الذي قدَّم جسده لله «ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً»، لن يجد مشكلة في أن يتجنب مُشاكلة ومُشابهة العالم (رو12: 1، 2)، «لِذَلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ» (2كو6: 17).

والانفصال «إِلَى دَاوُدَ» كان يتضمن تضحية لأن هذا حدث «فِي الْبَرِّيَّةِ» (ع8).  فهم لم يختاروا نمط حياة مريحة بالارتباط مع داود.  ففي ذلك الوقت لم يكن لداود ما يُقدِّمه إلا الآلام واحتمال الضيقات والمشقات.  واتباع داود كان يتضمن الخطر والانفصال عن الآخرين.  ومع ذلك فقد اتخذوا هذه الخطوة.  وبالمثل الآن فإن ”يسوع الناصري“ لم يَعِد قط برغدة العيش، أو النجاح والازدهار العالمي، لأولئك الذين انفصلوا إليه، بل بالعكس كان الرب حريصًا أن يقول لكل مَن يريد أن يتبعه: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (مر8: 34).  ولم يُخطئ الرسول بولس قط بأن يرسم صورة وردية للحياة المسيحية، بل حذر المؤمنين الأحداث من ضيقات واضطهادات محتومة: «لأَنَّنَا لَمَّا كُنَّا عِنْدَكُمْ، سَبَقْنَا فَقُلْنَا لَكُمْ: إِنَّنَا عَتِيدُونَ أَنْ نَتَضَايَقَ، كَمَا حَصَلَ أَيْضًا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (1تس3: 4).  وبالمثل تكلَّم الرسول بطرس بصراحة عن «إِلَهُ كُلِّ نِعْمَةٍ الَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ الأَبَدِيِّ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، بَعْدَمَا تَأَلَّمْتُمْ يَسِيرًا» (1بط5: 10).  فيا ليتنا نُعِد أنفسنا لكُلفَة الانفصال إلى المسيح.  فالأمانة للرب ولكلمته كثيرًا ما تُعرِِّض المؤمن الأمين لسوء الفهم والانتقاد، بل وأيضًا الاضطهاد والإيذاء.  لذا يجب أن نفعل مثل الجاديين، ونكون مستعدين لأية تضحية تستلزمها الاختيارات الصائبة والمواقف الصحيحة، تجاه ربنا ومعبودنا المجيد.

ويلفت الوحي الانتباه إلى قوة هؤلاء الجاديين إذ يصفهم بأنهم «جَبَابِرَةُ الْبَأْسِ رِجَالُ جَيْشٍ لِلْحَرْبِ».  وهكذا فإن كل قدراتهم قد انصبت عندئذٍ في مساندة داود.  وهكذا يُحرضنا الكتاب المقدس أن «تُحِب الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ» (مر12: 30).  وهكذا كانت للمؤمنين في فيلادلفيا «قُوَّةً يَسِيرَةً»، ولكن رغم قوتهم اليسيرة إلا أنهم استخدموها لحفظ كلمة الرب، ولم يُنكروا اسمه (رؤ3: 8).

ويُستفاد من وصفهم أن هؤلاء الرجال كانوا محاربين مهرة «رِجَالُ جَيْشٍ لِلْحَرْبِ»، أو بعبارة أخرى ”رجال تدربوا للحرب“، أنهم قدموا خبراتهم لداود.  والمؤمنون أيضًا يحصلون على خبرات أو مهارات، وربما قدرات طبيعية، ويستطيعون أن يستخدموها من أجل الرب.  وهذه تتميز عن المواهب الروحية، ومع ذلك فلها قيمة كبرى عندما نأتي إلى المهام الضرورية في خدمة الرب (اقرأ من فضلك متى 25: 14-30؛ لوقا 19: 12-27).

وقد كانت «وُجُوهُهُمْ كَوُجُوهِ الأُسُودِ، وَهُمْ كَالظَّبْيِ عَلَى الْجِبَالِ فِي السُّرْعَةِ».  وإذا كان الأسد يُصوّرهم كأشداء، فإن الظَّبي يُشير إلى السرعة؛ فرغم قوتهم وضراوتهم وحسمهم، إلا أنهم بتصفون بالرشاقة والتبصر في اختيار مواقع أقدامهم.  وما أجمل أن نجعل قوة وجرأة الأسد تقترنان بالسرعة والحرص اللذين يتصف بهما الظَّبي، فننجو من خطر محتمل أن تؤدي القوة والحسم إلى الاندفاع والتهور.

 وقد وُضع هؤلاء المحاربون الأشداء الأَحَدَ عَشَر في ترتيب خاص (ع9-13)؛ الأول فالثاني فالثالث ... وهلم جرا[1].  ولا يوجد تذمر أو استنكار أو أنين من جانب أولئك المذكورين في القائمة على حسب ما أورده السجل الإلهي.  ويبدو أنهم جميعًا سعدوا بأن يُوضعوا بالضبط في الترتيب الذي أُعطيَّ لهم.  وعلينا نحن أيضًا أن نقنع بالمواهب والنصيب الذي حدده الله لنا، دون ازدراء بمن هم أقل، ولا حسد لمن هم أعلى منا (1كو12: 14-23).  ومن الخطر أن يكون للبعض فكرة عن تضخيم أهميتهم، فيشعرون بالضيق إذا لم يُعطوا المكان الذي يظنون أنه مُستحق لهم (يش17: 14؛ قض8: 1؛ 12: 1).  ولكن تفخيم الذات والشعور بالأهمية كان بعيدًا تمامًا عن أفكار الجاديين.  فلم يكن ثمة شكوى متسمة بالأنين من الترتيب الذي ظهروا فيه (ع9).

ومع أن هؤلاء الرجال المتضعين لم يكن لديهم فكر لتعظيم الذات، إلا أنهم بالفعل كُرِّموا.  فالبعض منهم صاروا قادة لمئات وبعضهم قادة لألوف «صَغِيرُهُمْ لِمِئَةٍ، وَالْكَبِيرُ لأَلْفٍ» (ع14)، «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ» (لو14: 11).

«صَغِيرُهُمْ لِمِئَةٍ، وَالْكَبِيرُ لأَلْفٍ» ... يرد هذا العدد في بعض الترجمات على النحو التالي: ”صغيرهم يُعادل مائة، والكبير يُعادل ألف.  وهذا ما قاله الله قديمًا: «يَطْرُدُ خَمْسَةٌ مِنْكُمْ مِئَةً، وَمِئَةٌ مِنْكُمْ يَطْرُدُونَ رَبْوَةً» (لا26: 8)، انظر أيضًا (تث32: 30).  ولقد قيل لداود مِن رجاله مرة: «أَنْتَ كَعَشَرَةِ آلاَفٍ مِنَّا» (2صم18: 30).  وحتى لو كانت في هذا مبالغة، فإنه تعبير أدبي يُستخدم على نطاق واسع للدلالة على أن بعضًا من هؤلاء كانوا يتفوقون كثيرًا عمَن يفوقهم عددًا، بل وفي مرات كثيرة تفوق قيمتهم كثيرًا قيمة أقرانهم.      

«هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَبَرُوا الأُرْدُنَّ فِي الشَّهْرِ الأَوَّلِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ وَهَزَمُوا كُلَّ أَهْلِ الأَوْدِيَةِ شَرْقًا وَغَرْبًا» (ع15).  هنا نقرأ عن واحدة من وقائعهم الحربية؛ كان الجاديون يقطنون شرق الأردن، وفي إحدى مهامهم الحربية من أجل داود «عَبَرُوا الأُرْدُنَّ».  وهكذا فإنهم مضوا على إثر خطوات أولئك الذين كانوا أوائل مَن دخلوا الأرض.  وكانت الظروف قريبة مما كانت لأولئك في سالف الأيام، فقد كان الأردن «مُمْتَلِئٌ إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ» (يش3: 15؛ 4: 18).  وهذا مجرد تذكير صغير لقيمة عمل نفس الأشياء التي عُملت سالفًا في البدء.  ولقد قيل عن يهوشافاط إنه: «سَارَ فِي طُرُقِ دَاوُدَ أَبِيهِ الأُولَى» (2أخ17: 3).  كما جاء القول لملاك كنيسة أفسس «اذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى» (رؤ2: 5).  كما أعطى سليمان نصيحة سديدة لابنه عنما قال له: «يَا ابْنِي ... لاَ تُخَالِطِ الْمُتَقَلِّبِينَ» (أم24: 21).  وعلينا – كمؤمنين مسيحيين – أن نعتبر بما سجله الوحي عن تاريخ الكنيسة في أيامها الأولى في سفر الأعمال كأنموذج لقناعاتنا وسلوكنا (أع2: 42-47؛ 4: 32-35)، بالضبط كما رأى الرجال الجاديون – يقينًا – في جيل يشوع، مثالاً لهم لما يفعلون.

ولا يفوتنا أن نذكر أن نهر الأردن رمز للموت.  وقد عبر الرجال الجاديون «الأُرْدُنَّ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ» (يش3: 15؛ 4: 18)، أو بلغة النبي إرميا: «فِي كِبْرِيَاءِ الأُرْدُنِّ» (إر12: 5؛ 49: 19؛ 50: 44).  والمقصود بهذا الوصف هو أن النهر كان فائضًا، وقت ذوبان الثلوج على الجبال التي منها يبدأ النهر.  وحيث كانت المياه تأتي بالطمي على شطوط النهر، بالتالي تكون هناك عقبتان أمام كل مَن يرغب في عبور الأردن وهو ممتلئ إلى جميع شطوطه: الوحل على الشطوط، والمياه الجارفة في مجرى النهر المتسع.  والوحل (طِينِ الحَمْأَةِ) يشير إلى قوة إبليس في الموت، في حين أن المياه الجارفة المُنحدرة (جُبِّ الهَلاكِ) تُشير إلى الموت نفسه (اقرأ مزمور 40: 1، 2).  ولقد خاطر أولئك الأبطال بأنفسهم، وعبروا الأردن وهو ممتلئ إلى جميع شطوطه «وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ» (رؤ12: 11).  وكم يجب على كل منا أن يقول: «إِنَّ وُثُقًا وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي.  وَلَكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ» (أع20: 23، 24).

وحقيقة أنهم كانوا مستعدين للمخاطرة بعبور الأردن في كبريائه وتدفقه السريع، إنما هو دليل على صدق عزيمتهم.  لقد كان ذلك عقبة كبرى، ولكنهم لم يسمحوا بإعاقة حملتهم الحربية «شَرْقًا وَغَرْبًا» (ع15)، إذ أن «الْجَبَل الْعَظِيم» يُمكن أن يصيرُ «سَهْلاً»، إذا كان روح الله يعمل (زك4: 7)، فدعونا نتشجع بأن الصعاب والعقبات في طريق خدمتنا ”لداود الحقيقي“ يُمكن التغلب عليها مهما كانت تبدو ضخمة.                        

                                                                               (يتبع)

                                                                    


[1] (1) عَازَرُ معناه عون أو مساعدة.  (2) عُوبَدْيَا معناه خادم يهوه أو عبد يهوه أو عابد يهوه.  (3) أَلِيآبُ معناه إلهي أبي أو الله هو الأب.  (4) مِشْمِنَّةُ معناه سمن أو سُمنة أو قوة.  (5) يَرْمِيَا معناه مُرَّفع من يهوه أو يهوه مُرتفع.  (6) عَتَّايُ معناه مناسب أو ملائم أو في وقته.  (7) إِيلِيئِيلُ معناه إلهي هو إيل أو الله إلهي أو مَن قوَّته الله.  (8) يُوحَانَانُ معناه يهوه حنان أو يهوه مُنعم.  (9) أَلْزَابَادُ معناه الله أعطى أو الله أنعم.  (10) يَرْمِيَا معناه مُرَّفع من يهوه أو الله يرفع أو يهوه مُرتفع.  (11) مَخْبَنَّايُ معناه يُحبّ بنيَّ أو يؤدب أولادي أو أنزل أولادي.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com