عدد رقم 3 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
البقية في أيام إرميا  


بقية متكبرة .. وأمانة قليلة

نواصل حديثنا عن البقية في الأيام الأخيرة، وبعد حديثنا عن فكرة البقية في العددين السابقين، وكيف أنها تُعبِّر عن أنه عندما يصيب الوهن والضعف الروحي شعب الله بشكل عام، فإن الله يبقي دائمًا لنفسه بقية.  على أننا سنجد في أولى محطاتنا في الحديث عن البقية في هذا العدد كيف أن البقية في أيام إرميا النبي الباكي، في زمن السبي البابلي، كانت بقية شكلية بأكثر من كونها بقية أمينة (إر42، 43)، في حين يُمثل الأمانة النادرة في أيام قضاء الرب على شعبه المرتد، شخص تقي مثل باروخ بن نيريا؛ كاتب الدرج وصديق إرميا (إر45).

وكلا المشهدين المتناقضين لنا فيهما العديد من الدروس الأدبية؛ نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، كما ونأخذ مكان البقية في وسط خراب المسيحية وتشويشها المضطرد.

أولاً: بقية متكبرة

في إصحاحي 42، 43 من نبوة إرميا نلتقي مع بقية في الأرض لم تُسبَ إلى بابل.  هذه البقية قام رؤساؤها بطلب مشورة الرب من خلال إرميا النبي فنقرأ: «فَتَقَدَّمَ كُلُّ رُؤَسَاءِ الْجُيُوشِ وَيُوحَانَانُ بْنُ قَارِيحَ، وَيَزَنْيَا بْنُ هُوشَعْيَا، وَكُلُّ الشَّعْبِ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ، وَقَالُوا لإِرْمِيَا النَّبِيِّ: لَيْتَ تَضَرُّعَنَا يَقَعُ أَمَامَكَ، فَتُصَلِّيَ لأَجْلِنَا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكَ لأَجْلِ كُلِّ هذِهِ الْبَقِيَّةِ. لأَنَّنَا قَدْ بَقِينَا قَلِيلِينَ مِنْ كَثِيرِينَ كَمَا تَرَانَا عَيْنَاكَ. فَيُخْبِرُنَا الرَّبُّ إِلهُكَ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي نَسِيرُ فِيهِ، وَالأَمْرِ الَّذِي نَفْعَلُهُ. فَقَالَ لَهُمْ إِرْمِيَا النَّبِيُّ: قَدْ سَمِعْتُ. هأَنَذَا أُصَلِّي إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ كَقَوْلِكُمْ، وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ الْكَلاَمِ الَّذِي يُجِيبُكُمُ الرَّبُّ أُخْبِرُكُمْ بِهِ. لاَ أَمْنَعُ عَنْكُمْ شَيْئًا. فَقَالُوا هُمْ لإِرْمِيَا: لِيَكُنِ الرَّبُّ بَيْنَنَا شَاهِدًا صَادِقًا وَأَمِينًا إِنَّنَا نَفْعَلُ حَسَبَ كُلِّ أَمْرٍ يُرْسِلُكَ بِهِ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَيْنَا، إِنْ خَيْرًا وَإِنْ شَرًّا. فَإِنَّنَا نَسْمَعُ لِصَوْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ الَّذِي نَحْنُ مُرْسِلُوكَ إِلَيْهِ لِيُحْسَنَ إِلَيْنَا إِذَا سَمِعْنَا لِصَوْتِ الرَّبِّ إِلهِنَا» (إر42: 1-6).  ولكن عندما جاءت رسالة الرب غير مناسبة لرغباتهم في النزول إلى مصر ليتغربوا هناك بعيدًا عن ويلات نبوخذنصر وسبيه متعدد المراحل، ظهر جليًا كيف أن هذه "البقية" لم تكن أمينة، ولا صادقة في رغبتها في سماع مشورة الرب لإطاعته هو؛ بل لسماع ما تحب أن تسمعه!  وعندما جاءت رسالة الرب إلى إرميا الخادم الأمين مغايرة لرغباتهم اتهموه بالكذب!

فنقرأ في مطلع الأصحاح التالي مباشرة هذه الأقوال المقدسة: «وَكَانَ لَمَّا فَرَغَ إِرْمِيَا مِنْ أَنْ كَلَّمَ كُلَّ الشَّعْبِ بِكُلِّ كَلاَمِ الرَّبِّ إِلهِهِمِ، الَّذِي أَرْسَلَهُ الرَّبُّ إِلهُهُمْ إِلَيْهِمْ، أَنَّ عَزَرْيَا بْنَ هُوشَعْيَا وَيُوحَانَانَ بْنَ قَارِيحَ، وَكُلَّ الرِّجَالِ الْمُتَكَبِّرِينَ كَلَّمُوا إِرْمِيَا قَائِلِينَ: أَنْتَ مُتَكَلِّمٌ بِالْكَذِبِ! لَمْ يُرْسِلْكَ الرَّبُّ إِلهُنَا لِتَقُولَ: لاَ تَذْهَبُوا إِلَى مِصْرَ لِتَتَغَرَّبُوا هُنَاكَ. بَلْ بَارُوخُ بْنُ نِيرِيَّا مُهَيِّجُكَ عَلَيْنَا لِتَدْفَعَنَا لِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيَقْتُلُونَا، وَلِيَسْبُونَا إِلَى بَابِلَ. فَلَمْ يَسْمَعْ يُوحَانَانُ بْنُ قَارِيحَ وَكُلُّ رُؤَسَاءِ الْجُيُوشِ وَكُلُّ الشَّعْبِ لِصَوْتِ الرَّبِّ بِالإِقَامَةِ فِي أَرْضِ يَهُوذَا» (إر43: 1-4) وما السبب؟  يقول الكتاب: «وَكُلَّ الرِّجَالِ الْمُتَكَبِّرِينَ كَلَّمُوا إِرْمِيَا قَائِلِينَ: أَنْتَ مُتَكَلِّمٌ بِالْكَذِبِ » نعم إنها الكبرياء!

ونحن بدورنا نقول: ألسنا في أيامنا هذه، أيام وفرة المعرفة الكتابية وقلة اختبار المشيئة الإلهية نعاني نفس المشكلة تمامًا؟  إن كلمة الرب واضحة تمامًا لكن القلب المتكبر الذي يريد أن يسير وراء رغباته وراحته وليس وراء مشيئة الرب، له مظهر وصورة التقوى (إر42) ولكنه في الواقع ينكر قوتها عمليًا (إر43).  ويا للحصاد المرير! ويا للاهانة التي تلحق بالرب وبمجده!  ويا لصعوبة الخدمة الأمينة وسط هذه الأجواء الملبدة!

إن هذه الحالة تدعو الأمناء للاتضاع والحزن والانكسار والتذلل أمام الرب طلبًا لمراحمه ليوجد أمناء حقيقيين وسط البقية يكونون بحسب قلبه تميزهم التقوى الحقيقية لا صورتها المزيفة، يهمهم جدًا رضى الرب ويُسرون بفعل مشيئته لمجد اسمه وبركة نفوسهم ومَن حولهم، نظير إرميا النبي، وصديقه باروخ.

ثانيًا: أمانة قليلة 

يمثلها هنا الصديق الأمين لإرميا، "باروخ بن نيريا" الذي نقرأ عنه في هذه النبوة للمرة الأولى في (إر32: 13) عندما سلمه إرميا صك الشراء المختوم حسب الوصية، وكان حاكمًا للمدينة (2أخ34: 8).  وقد أملى إرميا كلمات الرب إلى باروخ ليكتبها في درج.  وهذا العمل استغرق وقتًا كبيرًا.  وبعد أن انتهى باروخ من كتابة الدرج أمره إرميا أن يقرأ كل الكلام الذي في الدرج في بيت الرب في آذان الشعب في يوم الصوم (إر36: 6).

ثم لاحقًا وفي إرميا 45 نجد كلام الرب الموجه إلى باروخ في رسالة خاصة للأمناء في مفارقة مع الرؤساء المتكبرين في الإصحاحين (42، 43)، «وأنت فهل تطلب لنفسك أمورًا عظيمة؟ لا تطلب» (إر45: 5).  ربما شعر باروخ في نفسه بالحزن للإهانة التي لاقاها عندما لم تغير رسالة الرب التي قرأها على الشعب في مجموعه.  إلا أن الرب يحفظ الأمناء ويحفظ لهم دائمًا بركات خاصة (مثلاً رؤ 2: 17).

والسؤال اليوم الموجه إلى قلوبنا: إلى أي مدى نحن نبتغي رضى الرب ونبحث عن خير شعبه رغم تفشي الكبرياء وصورة التقوى؟ هذا هو الامتحان وهذا هو المحك الذي على كل منا أن يلجأ إلى الرب باتضاع لننجح فيه في يومنا الشرير هذا الذي أوشك على نهايته.


 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com