عدد رقم 3 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المفهوم الصحيح لتبعية المسيح (5)  

  موقف المسيح من الطقوس والفرائض:

   يرى الكثيرون في كلام المسيح الوارد في (مت12: 1-13)، والذي فيه واجه انتقاد الفريسيين لتلاميذه عندما كان سائرًا معهم بين الزروع في السبت، ثم ابتدأوا يقطفون سنابل ليسدوا جوعهم، أن هذا الكلام يُعد دليلاً على عدم اكتراث المسيح بحفظ فرائض وطقوس الديانة اليهودية بحرفيتها، والتي يمكن إيجازها في فريضة حفظ السبت، وعلى الرغم من أن الديانة اليهودية لا تُختزل في حفظ السبت بل في الوصية بمحبة الله ومحبة القريب كالنفس (مت22: 34-40)، إلا أن قضيتنا أخطر من ذلك بكثير، على أنه من المناسب قبل الحديث عنها أن أشير لأمر هام، وهو وجود فوبيا (مخاوف مرضية) من الدين بوجه عام لعدة أسباب:

السبب الأول (إنساني): وهو أن جرائم الإرهاب تُرتكب عادةً باسم الدين، ويستند مرتكبوها على نصوص دينية.

السبب الثاني (أخلاقي): وهو أن المجتمعات المتدينة هي أكثر المجتمعات التي تنحدر فيها أخلاقيات الناس بسرعة مذهلة طبقًا لإحصائيات عديدة.      

السبب الثالث (اجتماعي): وهو يَبرُز بوضوح داخل الأوساط المسيحية، ويتمثل في صعود التجارة بالدين مع تدفق الأموال بشكل لافت للنظر على المؤسسات ذات شعارات الخدمة المسيحية، واستغلال بعض رجال الدين لمناصبهم الدينية في الربح القبيح، بينما يقبع كثيرون ممن ليسوا رجال دين تحت خط الفقر.

   لقد أدَّى كل هذا لظهور تلك الفوبيا التي أشرت إليها، ومن الطبيعي إذًا وسط هذا الجو أن تتسرب تعاليم غريبة إلينا، هذه التعاليم استندت على مغالطة هامة، وهي اعتبار أن الممارسات المسيحية مثل كسر الخبز وحضور اجتماعات الكنيسة للعبادة أنها أمور تندرج تحت بند الفرائض والطقوس، بل وامتد الأمر ليشمل القراءة الفردية المنتظمة للكتاب والوجود في جو الشركة مع المؤمنين، تلك الأمور التي تعارف المؤمنون على تسميتها "وسائط النعمة"، وقد لقي هذا الكلام قبولاً لدى كثيرين حيث اعتدنا على سماع التحريض في العظات على ألا تفقد هذه الأمور (بصفة خاصة كسر الخبز وحضور الاجتماعات) روحانيتها عندنا حتى لا تتحول إلى فرض أو طقس شكلي فقط.  وهذا التحريض بالطبع لا اعتراض عندي عليه، إلا أن الأمر تم تناوله في أحيان كثيرة بشكل يتجاوز هذا التحريض، حيث صارت هذه الأمور في نظر البعض ليست هي بالضرورة وسيلة المؤمن ليحيا حياة مسيحية صحيحة.  وبسبب امتلائهم بالشعور بأن لديهم قدرًا هائلاً من الاستنارة الروحية لم يتوفر لسابقيهم زاد تمسكهم بهذا الفكر، بل وقد ذهب البعض لاتخاذ منهجية المسيح في الرد على الفريسيين في هذا الموقف دليلاً على أن الاستناد على ما يقوله الكتاب في معناه الحرفي لا يُعد حجة للفصل في أي قضية تعليمية، ومن هنا ظهرت بعض المصطلحات الغريبة مثل "مسيح الكتاب ومسيح الاختبار"، أي المسيح الذي تتعلمه من الكتاب والمسيح الذي تختبره في حياتك، حيث قد يختلف التعليم الكتابي عن الاختبار الروحي، وقد يُفَضِّل البعض في هذه الحالة الاسترشاد بالاختبار الروحي.  إن الاستنتاج الذي وصلوا إليه هو: إن من يريد أن يتبع المسيح عليه ألا يضع نفسه تحت أي التزام بممارسة معينة أيًّا كانت هذه الممارسة بدعوى أن المسيحية ليست ديانة.

   ولهذا كان يجب علينا طرح هذه القضية للبحث لنسأل عن الاعتبارات الواجب اتخاذها ونحن نتعامل مع موقف المسيح من الطقوس والفرائض، وهل كان للرسول بولس نفس الموقف أم أخذ موقفًا مغايرًا؟ ثم ما هي علاقة المسيحية بالديانة؟ وبمعونة الرب من خلال الإجابة على تلك الأسئلة سنتعرف على المفهوم الصحيح لتبعية المسيح فيما يخص قضيتنا.

   لقد أشرت في مقال سابق إلى أن المسيح عندما أتى إلى عالمنا جاء مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس (غل4: 4)، أي أنه عاش كيهودي تحت حكم الناموس، ذلك التدبير الذي كان حاكمًا لعلاقة الله بشعبه الأرضي الذي أتى منه المسيح حسب الجسد.  إنه لمن المؤكد بالطبع أن ربنا يسوع المسيح كان يعلم أن العمل بهذا التدبير سوف ينتهي بموته على الصليب – هذه النقطة سوف أثبتها لاحقًا في المقال القادم إن شاء الرب – لكن لأنه كان آخذًا صورة عبد (في2: 5-7)، فلم يكن لائقًا به أن يتصرف من منطلق علمه السابق بالأمور، وهذا كان جانبًا من مجده الأدبي الذي ظهر في مواقف متعددة (مر13: 32).  إن التزامه بالخضوع لحكم الناموس أدَّى لأن يتحدد موقفه من الفرائض والطقوس بحدود معينة لا يتجاوزها، وقد كان هذا هو علة تباين موقفه من الفرائض والطقوس عن موقف الرسول بولس منها، فخدمة بولس بدأت بعد موت وقيامة وصعود المسيح وإرسال الروح القدس، وهذه جميعًا كانت أحداثًا فارقة بالنسبة لتاريخ تدابير الله، ولهذا جاء بولس خادمًا لتدبير مختلف ألا وهو تدبير نعمة الله (أف3: 2،1).  ولهذا نادى بولس بتعليمه وهو حر تمامًا من الناموس، الأمر الذي لم يظهر في تعاليم المسيح نظرًا لالتزامه التدبيري بالناموس وليس لأنه عبد في ذاته له.  فكان بإمكان بولس أن يقول عن كل ما يحتويه عهد الناموس من فرائض وطقوس أنها جميعًا أمور موضوعة لوقت الإصلاح (عب9: 10،9)، وأنها كانت مجرد ظل لحقيقة كانت هي شخص المسيح (كو2: 17،16)، كما أنه لم يكتفِ بالتأكيد على فشل الإنسان تحت الناموس كعهد مقطوع بينه وبين الله، ذلك لأن فشل الإنسان هو قاسم مشترك بين كل التدابير، لكنه أضاف إلى ذلك التقليل من فاعلية الناموس نفسه، إذ قال أنه قد زيد على خطة الله دون أن يكون جزءًا أصيلاً منها، والهدف من زيادته هو فقط إثبات حالة التعدي وإعطاء الخطية هذه الصفة.  بل أضاف إلى ذلك كونه لا يمتلك القدرة على إحياء الإنسان.  إذ لو كان يملكها لكان بالحقيقة البر بالناموس (غل3: 19-21).  وبل وقد ذهب لما هو أبعد من ذلك عندما شبَّه اليهودي الذي يقرأ شرائع العهد القديم بآبائه يوم حُرموا من رؤية وجه موسى وهو يلمع بسبب وجود البرقع، فقد تصور كما لو أن المعاني الثمينة لتلك الشرائع مخبوءة في صندوق مغلق، ولم يكن ممكنًا أبدًا فتحه إلا بعد إتمام المسيح لعمله وسكنى الروح القدس في كل من يؤمن به.  فاليهودي إذًا قبل إيمانه بالمسيح كان مستعبدًا إذ لم يكن ممكنًا له أن يطَّلع على تلك المعاني، ليتبقى له المعنى الطقسي والجسدي فقط لتلك الشرائع.  أما وقد آمن بالمسيح وسكن فيه الروح القدس فقد تحرر من تلك العبودية وصار بإمكانه أن يفهم تلك المعاني (2كو3: 12-18).

   إن كل هذه الجوانب من ذلك الحق الثمين لم ينادِ بها المسيح على الإطلاق، ليس لأنه غير كفوء لشرحها – حاشا – بل لأنه التزم بالخضوع للناموس، فكان أقصى ما يمكن أن يفعله هو التلميح بفشلهم هم تحت الناموس كعهد دون الإشارة لضعف فاعلية الناموس كما فعل بولس، وأقول "تلميح" وليس "تصريح"، لأنه إذا صرَّح بذلك يكون كما لو أنه نطق بحكم إلهي بإنهاء تدبير الناموس، لأن الحكم بفشل الإنسان تحت تدبير ما لا يصدر إلا عند انتهاء هذا التدبير (تك6: 1-3).  وهكذا يكون قد صرَّح بانتهاء التدبير بينما لم يأت الوقت المحدد لذلك، ألا وهو الصليب.

   نعم لقد أدان المسيح كثيرًا الاهتمام الزائد عن الحد بالجانب الطقسي، إلا أنه في هذا الصدد لم يكن ما نادى به مختلفًا في جوهره عما قدَّمه الأنبياء السابقون لزمانه.  فالعهد القديم لم يشجع اليهودي أبدًا على الالتزام بالفرائض الطقسية دون الاهتمام بحالة القلب (1صم15: 23،22 ؛ إش1: 10-17 ؛ هو6:6 ؛ مي6: 6-8).  لم يقصد المسيح أبدًا أن يتجاهلوا الجانب الطقسي، لكنه قصد أن يهتموا بالجانب الروحي والأدبي ليصبح الجانب الطقسي مقبولاً لدى الله.  وقد كان هذا واضحًا عندما قال: «ويلٌ لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشرون النعنع والشبث والكمون، وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان.  كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك» (مت23: 23).  مما لا شك فيه أن الجانب الطقسي الجسدي من الفرائض هو الأسهل، بل هو الذي يعطي صاحبه برًّا ذاتيًّا يفتخر به أمام الآخرين (لو18: 12،11)، ومع ذلك لم يعلِّم المسيح الجموع بانتفاء أي احتمال للحصول على البر بالناموس بشكل واضح وصريح مثلما فعل الرسول بولس، لأنه إذا قال ذلك يكون قد أنهى تدبير الناموس قبل الوقت، لكن بولس كان له أن يقول ذلك لأنه كان تحت تدبير النعمة، أما المسيح فاكتفى بالتلميح أن الافتخار بممارسة الطقس الشكلي لا يمنح الإنسان برًّا أمام الله.

    وهذا يعطينا درسًا أدبيًّا هامًّا تجدر الإشارة إليه، وهو أنه إن وجد الإنسان نفسه اليوم وسط حالة عامة من فشل الكنيسة تحت المسؤولية، فلا يصح أن يحكم بشكل مطلق وعام على أننا صرنا نمارس الممارسات الكنسية بطريقة طقسية فاقدة للروحانية، لأنه من المتيقن أن هناك أمناء للرب وسط هذا الفشل، كما أن العلاج في أن يسلك الفرد بالأمانة ولو كانت فردية، وليس في نشر روح سلبية تصد نفوس المؤمنين عن الاجتماعات الكنسية بكل ما فيها من ممارسات، فهذا ليس من الروحانية في شيء، بل هو إدعاء الروحانية الكاذب، ولعل هذا الفكر هو ما سيطر أيضًا على الكهنة في أيام ملاخي النبي، إذ حكموا أن مائدة الرب قد تنجست وثمرتها محتقر طعامها، وبالتالي فقدوا القلب المُفعم بمحبة الرب فتساءلوا: بم أحببتنا؟ بل وفقدوا القلب الراغب في إكرام الرب فقدموا له الأعمى والأعرج والسقيم، وكان هذا في نظر الرب بمثابة احتقار له (ملا1).  فالذي يستخدمه الرب استخدامًا نبويًّا به يكشف قلوب المؤمنين في محضر الله، لا بد أن يظل رابطًا نفسه بشعب الرب حتى لو اعتراهم الفشل بشكل عام، أما إذا خاطب شعب الرب بروح متعالية فليس هذا رجل الله، إنه لا يتعدى كونه يتكلم بروح جليات الذي عيَّر صفوف الله الحي مستخدمًا غلطتهم الشنيعة باختيارهم شاول ملكًا، ليس لتوبيخهم بل لتعييرهم (1صم17: 8-11).  أو كمن يتكلم بروح سنحاريب ملك أشور عدو شعب الرب الذي ذكَّر حزقيا والشعب بخطية الاتكال على مصر (2مل18: 19-21).

   للسبب نفسه أيضًا لم يقدم المسيح في تعليمه ما يفيد بأن طقوس وفرائض العهد القديم ترمز له، ذلك لأنها في غالبيتها تشير إلى موته الذي لم يكن قد حدث بعد، كما أنه لا يمكنه فعل ذلك لأن فهم أعماق رموز العهد القديم يتطلب سكنى الروح القدس كما ذكرنا سابقًا، وهذا الأمر لم يكن ليحدث إلا بعد تمجيده بالصعود (يو7: 39،38).

   وهكذا نخلص من كل ما سبق إلى أن الاستناد على كلام الرب في هذا الموقف للتدليل على أن الحياة المسيحية يمكن أن تُعاش دون الالتزام بوسائط معينة أو ممارسات معينة هو استناد خاطئ، والحقيقة أننا في المسيحية نجد ممارستين، هما المعمودية وكسر الخبز، على أن المعمودية لم تدخل في القضية لأنها لا ترتبط بأدائنا الروحي العام كجماعة، أما كسر الخبز فلأنه وثيق الارتباط به فكان انخفاض مستوانا الروحي سببًا في إقناع كثير من الشباب المخلص بعدم توقف بنيان المؤمن روحيًّا على ممارسته لكسر الخبز مع باقي وسائط النعمة مثل حضور اجتماعات الكنيسة، والمواظبة على قراءة الكتاب بشكل فردي، والاهتمام بالتدقيق فيما يقصده معنىً ولفظًا، مع التمسك بكل تفاصيله سواء في طابعها الرمزي أو التاريخي أو النبوي أو التعليمي المباشر.  لذا أرجو قارئي العزيز أن تتحذر من مثل تلك التوجهات التي تقود إلى السطحية الروحية مع كثرة الأنشطة ليست الروحية في ذاتها، لكن في مسمياتها فقط، والتي تعطي دائمًا لمن يقوم بها شعورًا وهميًّا بارتفاع قامته الروحية.

   يتبقى لنا فكرة أخرى سوف نتعرض لها بنعمة الرب في المقال القادم، قد تكون هذه الفكرة بعيدة قليلاً عن موضوعنا لكني أرى أنها تمسه بشكل قوي، وهي مدى علاقة المسيحية بالدين، فإن كانت المسيحية ليست دينًا، لكن هل هي ضد الدين ؟ وهل تعليم المسيح هو ضد الدين على طول الخط ؟ لكن قبل طرح هذه القضية لا بد أن أثبت للقارئ العزيز ما أشرت إليه في هذا المقال، ألا وهو حتمية انتهاء تدبير الناموس بموت المسيح وليس قبل ذلك.

  أصلي من كل قلبي أن يكون بحث هذه القضايا سبب بركة وبنيان لشباب كثيرين.

                                                                                       

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com