عدد رقم 1 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أبْطَال وأفْعَال ... ودروسٌ للأجْيَال  

(قراءة في أبْطَال داود)

(2صم23؛ 1أخ11، 12)

(6)

تحدثنا فيما سبق عن بعض الصفات والسمات الأدبية التي يتشارك فيها أبطال داود، وعن مقاييس البطولة الروحية الصحيحة، ونواصل في هذا العدد حديثنا عن:

سابعًا: الأبطال الروحيون والالتصاق بكلمة الله:

إن القراءة المتأنية للأصحاحات موضوع تأملنا (1صم23؛ 1أخ11، 12)، تُعطينا انطباعًا راسخًا أن العدو الرئيسي لشعب الله هو الفلسطينيين[1].  وهكذا نُلاحظ أن كل بطولات وإنجازات أبطال داود المُسجلة في هذه الأصحاحات كانت موَّجهة إلى هزيمة ودحر هذا العدو بصفة خاصة.

ولقد ذُكر الفلسطينيون (فلشتيم) مع الكفتورين (كفتوريم)، في تكوين 10: 14 باعتبارهم أبناء مصرايم (أبو المصريين)؛ فهم أصلاً مصريين من أبناء حام، ثم تغربوا مع إخوتهم الكفتورين في جزيرة كفتور (كريت)، كما تغرب إسرائيل في أرض مصر.  ثم خرجوا من كفتور، كما خرج إسرائيل من أرض مصر (تث2: 23؛ إر47: 4؛ عا9: 7)، وسكنوا الجزء الساحلي جنوبي غرب فلسطين، وأعطوا البلاد اسمهم؛ ”فلسطين“.

وهكذا نفهم أنهم خرجوا من مصر (تك10: 13، 14)، لكن بالرغم من تركهم مصر إلى الأرض التي وعد بها الرب شعبه، إلا أنهم لم يسلكوا طريق الرب إلى هناك، بل سلكوا طريقهم هم؛ الطريق السهل المُختصر، حيث تفادوا اجتياز البحر الأحمر وعبور نهر الأردن اللذين يُشيران إلى النجاة والبركة بموت وقيامة المسيح.  فهذه الأمور المجيدة ليس لها مكان في تاريخهم.

لقد وُجدوا في أرض شعب الله، لكن لم يصلوا إليها بحسب طريق الله أو مخططه (خر13: 17).  وفي الواقع لم تكن الأرض من حقهم مُطلقًا، إذ كان الله قد سبق وجعلها نصيبًا لشعبه (تث32: 8، 9).  إن الفلسطيني دخل إلى الأرض بطريقة سهلة؛ لم يختبر العبودية في مصر، أو كراهية الله للخطية، الأمر الذي يُقابله ذبيحة المسيح المرموز إليها بالفصح.  لم يرَ في عبور البحر الأحمر موت المسيح لأجله، ولم يرَ في عبور الأردن اتحاده مع المسيح في موته وقيامته.  هو غريب عن كل هذا.

وهكذا فإن الفلسطينيين الْغُلْفِ (غَيْرَ الْمَخْتُونِينَ[2])، هم صورة للمسيحيين الاسميين «غَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ» (لا26: 41؛ أع7: 51)؛ أولئك المُتديّنين غير المُخلَّصين، الذين انزلقوا عن طريق الطبيعة إلى دائرة الاعتراف المسيحي، ولم يدخلوا ملكوت الله بالولادة ثانية، بل وُجدوا فيه بالوراثة، وصاروا الآن مُتقدّمين، بل ومُعلِّمين فيه، دون حدوث أي تغيير في حياتهم.  وربطوا اسم المسيح بخرافاتهم الوثنية وفلسفاتهم الخاصة، وأخذوا نفائس الإيمان الأقدس الثمينة، وألصقوها بالإنسان وهو في طبيعته الساقطة، وكأنه لا داعي للميلاد الثاني للفداء، ولا للخليقة الجديدة التي في المسيح يسوع.  وهم يُحبون أن يتسلطوا على شعب الله، دون أن يمتلكوا الحقائق الإلهية، بل يظلون تائهين عنها، وهذا معنى اسمهم ”تائهون“.

إن الفلسطينيين ليسوا أعداء من الخارج كالباقين؛ آرام وموآب وعماليق وكنعان ومديان.  ولكنهم أعداء من الداخل، مع الشعب في وسط الأرض.  ومن فلسطيني أيامنا الحاضرة نجد الطقسيين والعصريين؛ أشخاص ملأتهم الخرافات الوثنية والفلسفة والحكمة البشرية النفسانية، وقد غزوا دائرة الإيمان، وجعلوها بيتًا كبيرًا اختلطت فيه الأواني المتباينة (2تي2)، واضطهدوا بشدة ”إسرائيل الله“ الحقيقي.  إنهم يقتربون إلى الله بشفاههم، لكنهم يحتقرون تدريبات القلب والضمير والحياة الروحية التي ميَّزت كل النهضات الروحية الحقيقية.  إنهم يدَّعون أنهم أولاد لله، لكنهم أبعد ما يكونون عن ذلك لأنهم لم يقبلوا ابن الله الوحيد بالإيمان، ولم يُولدوا ثانية (يو1: 12، 13؛ يو3: 3-8)، وما يُظهرونه ما هو إلا صورة للتقوى، لكنهم يُنكرون قوتها.

وواحدة من أهم سمات تاريخ هذه الجماعة هو شغفهم للاستيلاء على أقدس وأثمن ممتلكات شعب الله، وإفسادها.  ولطالما خاصموا إبراهيم وإسحاق بخصوص عيون الماء التي لم يحفروها، بل ادعوا أنها لهم، وكانوا يستولون عليها ليطمّوها؛ أي لمجرد منع إبراهيم وإسحاق منها (تك21: 25، 26؛ 26: 15-22).

ويُعطينا كل من يوحنا 4، 7 الحق في اعتبار ”الآبار“ صورة للروح القدس المُعطى لنا كالضرورة لحياة شعب الله الآن (يو4: 12-14؛ 7: 37، 38).  لكن أي مكان للروح القدس في العبادة الجسدية التي سادت أيامنا الحاضرة؟  فحيثما وُجدت خرافات الطقوس، ونقد وشكوك وتجديفات العصريين، هناك يحزن الروح القدس، بل وينطفئ تمامًا، كما طُمت الآبار قديمًا بالتراب.

وفي أيام القضاة اغتصب الفلسطينيون تابوت العهد؛ الرمز المنظور لسكنى الرب بالنعمة وسط شعبه.  وقد نسبوا انتصارهم على شعب الله إلى ”داجون“ إلههم، فأدخلوا التابوت إلى ”بيت داجون.  وهكذا أساء الفلسطينيون إلى ذلك الرمز العظيم إذ جمعوا – بدون خجل – تابوت يهوه مع إلههم داجون.  ولكن الله قادر أن يحفظ مجده ومطاليب قداسته وبره وسط الوثنية، وإن أخفق شعبه في ذلك.  وهكذا اضطرهم تمثال داجون الساقط على وجهه، والمرض الأليم الذي ضُربوا به، وتلف محصولاتهم، إلى أن يصرخوا إلى السماء (1صم5).  ولكنهم للأسف حاولوا حل المشاكل، لا بالتوبة الحقيقية، بل بإبعاد التابوت عنهم، فوضعوه على عَجَلَة جديدة، وتخلصوا منه بإرجاعه إلى أرض إسرائيل (1صم6).

ولقد تعوَّد الفلسطينيون على احتكار صناعة الآلات والأسلحة الجديدة، في محاولة منهم لمنع الشعب من امتلاك رمح أو سيف لئلا يستخدمهما ضده، وفي أيام شاول الملك «لَمْ يُوجَدْ صَانِعٌ فِي كُلِّ أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّ الْفِلِسْطِينِيِّينَ قَالُوا: لِئَلَّا يَعْمَلَ الْعِبْرَانِيُّونَ سَيْفًا أَوْ رُمْحًا.  بَلْ كَانَ يَنْزِلُ كُلُّ إِسْرَائِيلَ إِلَى الْفِلِسْطِينِيِّينَ لِيُحَدِّدَ كُلُّ وَاحِدٍ سِكَّتَهُ (سلاح المحراث) وَمِنْجَلَهُ وَفَأْسَهُ وَمِعْوَلَهُ، عِنْدَمَا كَلَّتْ حُدُودُ السِّكَكِ وَالْمَنَاجِلِ وَالْمُثَلَّثَاتِ الأَسْنَانِ وَالْفُؤُوسِ وَلِتَرْوِيسِ الْمَنَاسِيسِ» (1صم13: 19-21).  لقد أبعد الفلسطينيون الحدَّادين (الصُنَّاع) ليمنعوهم من صناعة أسلحة حرب للإسرائيليين، بل حتى صناعة الأدوات المعدنية اللازمة لتقليب التربة للزراعة، كان الإسرائيليون خاضعين فيها للفلسطينيين، فكان يلزم ليُحدِّد كل واحد مِحراثه أو فأسه أو ما أشبه أن ينزل إلى الفلسطينيين (قض5: 8).

وهكذا في يومنا هذا؛ حيث تسود الشكليات دون الجوهر، فلن يعود ثمة أسلحة روحية في أيدي شعب الله، ومن ثم سيعجز شعب الله عن أن يزرع ما يكفي لشبع نفوسهم.  وإذا زرع إسرائيل، كان الفلسطينيون ينزلون عليهم «وَيَنْهَبُونَ الْبَيَادِرَ» (1صم23: 1؛ قارن قضاة6: 3، 4).  وبإمكاننا القول إن ميراثنا مُتضمَّن في كلمة الله الثمينة، وأن فلاحتها هي التنقيب الجاد في محيط الكلمة لاستخراج جواهرها الثمينة، وأن نحرثها بمحراث الضمير مُطبِّقين إياها على أنفسنا، ولكن التديِّن الشكلي الأجوف يُسلبنا الوسائل اللازمة لعمل ذلك.

ولكن ما العمل إذا كان شعب الله يفتقر إلى الأسلحة اللازمة ضد الأعداء الذين يُهدِّدون ميراثه باستمرار؟  وما العمل إذا كان العدو يعرف جيدًا كيف يمنع الشعب من امتلاك رمح أو سيف لئلا يستخدمهما ضده؟  انظر حولك اليوم؛ كم واحد من شعب الله قادر على مجابهة هجمات الشرير على كل الأصعدة؟  فالإلحاد يضغط من جهة، والروح العالمية تسود من جهة أخرى، والشكليات الطقسية تطل من جهة ثالثة.  أين القوة لمقابلة كل أولئك بأسلحة يقول عنها الرسول بولس: «أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ» (2كو10: 4).  هنا يظهر الاحتياج الشديد للأبطال الروحيين الذين يُقدرون كلمة الله، ويلتصقون بها.

وفي الأصحاحات موضوع تأملاتنا (2صم23؛ 1أخ11، 12)، نرى الفلسطينيين يُريدون مرة أخرى أن ينهبوا طعام شعب الله، لكي يُصبح جائعًا وضعيفًا، ويُسببون الرعب في قلوبهم، ويأخذون ميراثهم.  وهروب الشعب من أمامهم، دليل على خوفهم وضعف إيمانهم، وعدم حفاظهم على طعامهم، وإهمالهم لميراثهم (2صم23: 9، 11؛ 1أخ11: 13). 

ولكن وُجد رَجُلٌ من الأبطال، وهو ”شَمَّةُ بْنُ أَجِي“ عندما «اجْتَمَعَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ جَيْشًا وَكَانَتْ هُنَاكَ قِطْعَةُ حَقْلٍ مَمْلُوءةً عَدَسًا، فَهَرَبَ الشَّعْبُ مِنْ أَمَامِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ.  فَوَقَفَ فِي وَسَطِ الْقِطْعَةِ وَأَنْقَذَهَا، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ فَصَنَعَ الرَّبُّ خَلاَصًا عَظِيمًا» (2صم23: 11، 12).

فها نحن نرى في ”شَمَّةُ“ الصمود أمام الفلسطينيين بالرغم من المفشلات المُحيطة به، والإيمان الواثق في الله بالرغم من عدم الإيمان المُحيط به، والحرارة والغيرة بالرغم من البرودة وعدم المبالاة في الآخرين، والشجاعة بالرغم من خوف الكل وتقهقرهم للخلف.  

ونقرأ أيضًا عن ”أَلِعَازَارُ بْنُ دُودُو“ الذي وقف بثبات ”وَسِطِ قِطْعَة حَقْل مَمْلُوءَةً شَعِيرًا“، ودافع عنها، وأنقذها (1أخ11: 13)، لأن هذه الأرض ملك للرب، وهم وكلاء عليها (لا25: 23)، وبها أيضًا طعامٌ لشعب الله.  وبذلك منع العدو من تحقيق مطامعه، وصنع الرب خلاصًا عظيمًا.

لقد وقف ”أَلِعَازَارُ“ ثابتًا شامخًا في الوقت الذي هرب فيه الإسرائيليون.  لقد استمر مُحاربًا، لأجل مجد الله، ولصالح شعبه «وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ حَتَّى كَلَّتْ يَدُهُ، وَلَصِقَتْ يَدُهُ بِالسَّيْفِ، وَصَنَعَ الرَّبُّ خَلاَصًا عَظِيمًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَرَجَعَ الشَّعْبُ وَرَاءَهُ لِلنَّهْبِ فَقَطْ» (2صم23: 10).

لقد حارب ”أَلِعَازَارُ بْنُ دُودُو“ بمفرده، ولم يتوقع معونة من أحد من رجال إسرائيل، ولم يعتد بقوة الأعداء.  فوجوده مع داود (2صم23: 9؛ 1أخ11: 13)، كان كافيًا له لتحدي الفلسطينيين، فضربهم، ولم يتوقف «حَتَّى كَلَّتْ يَدُهُ».  فهناك حدود في حرب الإيمان، لأن الله يستخدم أواني بشرية ضعيفة ناقصة ومحدودة القوة.  أما مثابرة ”أَلِعَازَارُ“ فنتجت بسبب أنه «لَصِقَتْ يَدُهُ بِالسَّيْفِ»، ولذلك كان من المستحيل فصله عن السيف الذي كان يستخدمه.  ونحن لنا أيضًا «سَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ» (أف6: 17)، الذي به نُقاوم إبليس فيهرب مِنَّا.  فيا ليتنا نستخدمه بالطريقة التي نُصبح فيها واحدًا مع السيف بعد المعركة.  ويا ليت المعركة تُنشئ فينا دائمًا التقدير لكلمة الله أكثر فأكثر حتى يُصبح من المستحيل أن نفصل أنفسنا عنها.

إن بطولات ”شَمَّةُ وأَلِعَازَارُ“ تتكلَّم إلى ضمائرنا؛ فميراثنا سماوي، وقطعة الحقل التي لنا سماوية.  ويجب أن ندافع عن ميراثنا وعن طعامنا السماوي، الذي هو كلمة الله التي ائتمنا الله عليها، فلا نُفرط في أية بركة أو أي حق أُعطيَّ لنا.

فيا ليتنا نحن أيضًا نُدافع عما أعطاه الله لنا، وعن طعامنا؛ أي لا نُفرط في الحق الكتابي الذي بين أيدينا «الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ» (يه3).  لقد قال الرسول بولس لتيموثاوس: «اِحْفَظِ الْوَدِيعَةَ الصَّالِحَةَ» (1تي1: 14)، وقال الرب لملاك كنيسة فيلادلفيا: «تَمَسَّكْ بِمَا عِنْدَكَ لِئَلا يَأْخُذَ أَحَدٌ إِكْلِيلَكَ» (رؤ3: 11).  ويا ليتنا نُحارب لأجل كلمة الله لكي تصل نقية صافية إلى إخوتنا، مثل جدعون الذي «كَانَ يَخْبِطُ حِنْطَةً فِي الْمِعْصَرَةِ لِيُهَرِّبَهَا مِنَ الْمِدْيَانِيِّينَ» (قض6: 11).  ويا ليتنا نُطيع تحريض الحكيم: «اِقْتَنِ الْحَقَّ وَلاَ تَبِعْهُ» (أم23: 23).

                                                                              (يتبع)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                                                     

[1] نلاحظ تكرار ذكر الفلسطينيين ثمان مرات في 1صموئيل23 (ع6، 10، 11 (مرتين)، 12، 13، 14، 16).  ونلاحظ أيضًا تكرار ذكرهم سبع مرات في 1أخبار 11، 12 (1أخ11: 13 (مرتين)، 14، 15، 16، 18؛ اأخ12: 19).

[2] إن الختان هو رمز لخلع جسم البشرية (كو2: 11)، بالنسبة للذين قبلوا الصليب؛ ففي الصليب نهاية الجسد.  إن الصليب يُثبت عدم صلاحيتنا لشيء، ويقودنا لنزع ثقتنا من أنفسنا على مثال نزع الغُرْلَة من الجسد (في3: 3).  إن الذات لا بر منها للقبول لدى الله، ولا قوة منها للنصرة على الخطية «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غل2: 20).   

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com