عدد رقم 1 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
كنيسة ساردس (1) (رؤ3: 1 – 6)  

البروتستانتية بعد نهضة الإصلاح

   فهمنا فيما سبق أن ما يُميِّز الكنائس الأربع الأخيرة هو أنه بينما تتبع الواحدة الأخرى، فهي جميعها تستمر معًا حتى مجيء الرب.  إنها لا تحل الواحدة محل الأخرى كما في الثلاث كنائس الأُول (أفسس، سميرنا، برغامس).  هكذا أتت ساردس إلى الوجود بعد ثياتيرا، وهما يسيران معًا كنظامين مختلفين في المسيحية.  هذا يعطي المفتاح لتحديد هويتها.  فإذا كانت الحالة في ثياتيرا تمثل البابوية في العصور الوسطى، فإن ساردس، مُمثَّلة في الدور الخامس من تاريخ الكنيسة النبوي، تعلن عن ظهور البروتستانتية كنظام كنسي بدأ بنهضة الإصلاح، لكنه تحول سريعًا وانحرف عن البداءة الحسنة، حيث هبطت الحالة الروحية بعد رحيل رجال الإصلاح الأتقياء.

   لقد كان ملوك وأمراء الحكومات في أوربا قد تعبوا من نير روما الثقيل، وكانوا فرحين أن يتخلصوا منه، لهذا اتحدوا بالحركة البروتستانتية بسبب البغضة والحقد الطبيعي ضد هذا النظام الشرير.  وبالأسف كان هناك أناس غير مولودين من الله يكونون جزءًا كبيرًا من الحركة البروتستانتية في فترة ساردس هذه.  وكل شيء أُودع في يد الإنسان كمسؤول كان مصيره الفشل في كل التاريخ.

   وعندما ضُمت مبادئ اعتراض واحتجاج المُصلحين إلى قوانين البلاد الوطنية في ألمانيا، تعهد الأمراء الألمان بحماية هذه المعتقدات بقوة جيش الدولة.  واتخذت البروتستانتية لها شكلاً سياسيًا، وانحط مجد الإصلاح الروحي والأدبي.  لقد قام جيل آخر مختلف عن جيل النهضة في تقديره لأمور الرب، وخمدت الحرارة الروحية، وحل محلها نظام ديني وصورة شكلية باردة لا حياة فيها، ولم يعد الإصلاح في قوته الأصلية بل تبخرت وتلاشت حيويته ونضارته وسط الأنشطة العالمية والخدمات الاجتماعية التي سعت لتستفيد من هذا العمل المبارك لأجل أغراضهم الشخصية والمادية.  هذه هي ساردس التي بدأت وتستمر، متطورة دائمًا إلى حالة أكثر حزنًا وفسادًا حتى النهاية.

  كلمة ”ساردس“ تعني ”بقية“.  فمن نظام الشر المهول الذي نما خلال فترة ثياتيرا دُعيت بقية خارجًا.  ولكن كثيرين من غير المؤمنين انضموا إلى هذه البقية البروتستانتية الأمينة، وأخذوا مراكز بارزة في الخدمات الكنسية، واختلطت الأمور بمبادئ عالمية وليست روحية، فأصبحت ساردس اعترافًا شكليًا ميتًا يصفه الرب الفاحص القلوب قائلاً: «لك اسم أنك حي وأنت ميت».

   «واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في ساردس.  هذا يقوله الذي له سبعة أرواح الله والسبعة الكواكب.  أنا عارف أعمالك أن لك اسمًا أنك حي وأنت ميت» (رؤ3: 1)

   إن الكنيسة على الأرض هي «مسكن الله في الروح» (أف2: 22)، وهي دائرة ومجال أعمال الروح القدس وقوته لتشهد عن المسيح المُمجد في السماء أمام العالم.

   ونلاحظ أن المُخاطَب هنا هو ملاك الكنيسة، وهو يمثل القادة والمسؤولين الذين وُضِعوا ليُعلِّموا ويحكموا في وسط الجماعة، وهم الذين يقررون الحالة العامة للجماعة.  فالمذهب العقلاني قد وصل إلى الشعب من خلال هؤلاء المعلمين.  وبسبب ملاك الكنيسة، أو القادة في وسطها في هذا الدور، حدث الانحدار المتوالي في الحالة الروحية والتحول الخطير عن الحق تدريجيًا، وبات الفشل واضحًا وصارخًا.  أما البقية الأمينة في هذه الجماعة، فهم أولئك الذين قاوموا وصدوا نفوذ وتأثير الملاك، واحتفظوا بالقداسة في العيشة والسلوك، وتمسكوا بكلمة الله على نحو ما.  أما ساردس، كنظام، فلا تُظهر أية علامة لنشاط وقوة الروح. 

  لهذا يُقدِّم الرب نفسه لها كمن «له سبعة أرواح الله والسبعة الكواكب».  وروح الله يتكلم عن القوة، فقد قال الرب للتلاميذ: «لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم» (أع1: 8).  سبعة أرواح الله تعني كمال القوة، وهكذا يُذكِّر الرب الكنيسة في ساردس أنه لا يزال المصدر الوحيد لكل قوة، وليس إبداعات الإنسان وقدراته الطبيعية، وهو ما لجأت إليه البروتستانتية، حيث استغنت عن قوة عمل الروح القدس وتأثيراته، واستبدلتها بما هو إنساني ونفسي ومادي، فأصبحت باردة وشكلية وميتة.  وروح الله كان حزينًا لأنه أُهمل وتُرك جانبًا.  في البداءة تَقَوَّىَ وتشدَّد رجال الإصلاح بروح الله، لكن مَن قاموا بعدهم ارتكبوا أكبر خطأ في الاستناد على ذراع البشر.  وقد أقام روح الرب شهادة ضد الشرور الموجودة في الكنيسة الاسمية في ثياتيرا، ولكن للأسف لم يُعتَمَد عليه لحفظ هذه الشهادة وتأكيدها واستمراريتها. 

   بسبب هذا كله يُقدم الرب نفسه لساردس كمن له سبعة أرواح الله، ويمتلك كل القوة حتى إذا فشل الجميع.  وهذا حقيقي بالنسبة لكنيسة الله في كل العصور.  ونحن نستطيع أن نتأيد بالقوة بروحه في الإنسان الباطن (أف3: 16) لنكون شهادة ناجحة ومؤثرة في العالم، ليس فقط كأفراد بل كجماعة.  ولنحذر من الاتكال على الجسد والأساليب البشرية في العبادة أو الخدمة أو الكرازة للنفوس البعيدة.  فالنفوس ستخلص فقط بعمل روح الله وتأثير كلمة الله الحية والفعالة.  وعلينا أن نستفيد من تجارب الآخرين وفشلهم، ونتضع لئلا نُجرب نحن أيضًا مثلهم ونفشل فشلاً ذريعًا.  وعلينا أن نُميِّز الأمور ولا ننخدع بالمظاهر، ولا تحكمنا ثقافة الأعداد الكبيرة فهي مُطلقًا ليست دليلاً على النجاح والمصادقة الإلهية، وهذا يؤكده حُكم الرب على هذه الكنيسة: «لك اسم أنك حي وأنت ميت» (ع1).   

   والرب يقول أيضًا إن «له السبعة الكواكب».  وقد سبقت الإشارة أن السبعة الكواكب «هي ملائكة السبع الكنائس» (رؤ1: 20).  فهم المسؤولون في الجماعة عن إظهار النور للعالم.  هذه الكواكب هي له أي هو مصدرها وهم ينتسبون إليه.  وفي كنيسة أفسس يُقدم الرب نفسه كمن هو مُمسك الكواكب السبعة في يمينه، ولكن هنا لا يقول إنها في يده بل له.  السبب في ذلك أنه في زمن أفسس، فترة ما بعد الرسل، كان الرب مُعتَرَفًا به كرأس الكنيسة وهو مُعتمَدهم، وهم يخضعون لسلطانه ورئاسته وحده.  ولكن في ساردس الأمر اختلف، فقد أُعطي هذا المكان للبشر.  إن سقوط وفشل البروتستانتية الحقيقي كان ولا زال في عدم إعطاء الرب يسوع المسيح أعلى مكان للسلطان والرئاسة والاعتماد عليه وحده.

   توبيخ الرب: «أنا عارف أعمالك أن لك اسمًا أنك حي وأنت ميت» (رؤ3: 1).  هذا هو تقدير الرب لأعمال وحالة ساردس.  يقصد بالأعمال ما هو شائع وعام وظاهر.  وكلمة «عارف» تفيد أنه لا شيء يفلت من ملاحظته.  ونتيجة تقصيه للحقائق، حيث يمشي وسط المناير، وعيناه كلهيب نار، فهو يُصدر حُكمه المنزَّه عن الخطأ.  وكما رأينا في الرسائل الأربع الأولى كان الرب يبدأ بمدح الأشياء الحسنة الموجودة في كل كنيسة، ثم بعد ذلك يوبخ الأمور الرديئة.  لكن في كنيسة ساردس لم يكن هناك أي شيء يستحق المدح.  وكلمة الاستحسان الوحيدة التي استطاع أن يقولها كانت الاعتراف بالبقية القليلة عندهم (ع4) «عندك أسماء قليلة في ساردس لم ينجسوا ثيابهم، فسيمشون معي في ثياب بيض لأنهم مستحقون».  هذه البقية يمدحها الرب لأجل سلوكها بالانفصال عن الشرور الأدبية التي سادت حولهم، ولكن الحالة العامة في ساردس كانت غير مُسرة له على الإطلاق، ولم يستطع أن يقول إلا كلمات اللوم والتوبيخ والتحريض والتحذير لهذه الكنيسة ككل.

   «أن لك اسمًا أنك حي وأنت ميت».  فقد أصبحت نظامًا شكليًا أجوف وخاليًا من الحياة، ومن قوة روح الله، فيه يتعظم الإنسان وتُستعرَض مهاراته وقدراته وإبداعاته.  ولم يعد المسيح هو المركز، ولا مجده هو الهدف، ولا القوة التي تؤدَّى بها الأنشطة هي قوة الروح القدس، ولا كلمة الله هي المرجعية الوحيدة كما في زمن الإصلاح.  لقد لجأوا إلى الأساليب الجسدية التي تجذب الناس وترضيهم، بحجة أن الغاية تبرر الوسيلة.  وهذا عكس ما قاله بولس: «قارنين الروحيات بالروحيات» (1كو2: 13) أي مقدمين الأفكار والمبادئ والتعاليم الروحية بأساليب وأدوات روحية يستخدمها الروح القدس بقوته فقط، بعيدًا عن الحكمة الإنسانية الأرضية النفسانية الشيطانية.  أما هم فعوضًا عن الاهتمام بإطعام الخراف انصرفوا إلى مُداعبة الجداء.  وبدلاً من أن يُقدموا كلمة الله الصافية دون غش، قدموا ما يروق للإنسان من مبادئ اجتماعية وفلسفية ونفسية وعلم المشورة، مع أكبر قدر من التسليات والترفيه، بحجة أن الكتاب ليس كافيًا لكل الاحتياجات ولم يتعرض لأشياء كثيرة.  وبذلك أضاعوا تأثير كلمة الله على الضمائر، وتبكيت روح الله الذي يقود إلى التوبة، وخلقوا أجواء صاخبة من الموسيقى والفن والطرب تحت ما يُسمى باجتماعات التسبيح، وتحولت الاجتماعات الروحية إلى حفلات غنائية في القالب الروحي، يجد فيها الإنسان ما ينعش نفسه وليس ما يشبع روحه.  وكثير من الترانيم الحديثة تفتقر إلى المادة الكتابية، وعمق الفكرة وصحتها، ومصداقية الاختبار، ووقار الأداء، وتلمحح بوضوح وسط الحماس الجسدي تغييب العقل وتكرار العبارات دون وعي، مع أن المسيحي يجب أن يُقدم عبادة عقلية (رو12: 1).  هذه الأجواء تتعامل مع المشاعر وليس الضمير والقلب والإرادة، ولا تقود للانكسار والدموع والتوبة واستشعار العار والهوان وخراب الحالة سواء للخاطي أو المؤمن.  وهذه الأساليب التي جذبت أعدادًا كبيرة، خاصة من الشباب، جعلت الضمائر تتقسى، والقلوب تنخدع بمظهر للروحيات دون جوهر، ورسمت صورة مشوهة عن الله وكلمته وحقه وعن العبادة والخدمة، وأفسدت الشهادة والتأثير عند الذين هم من خارج.  والنتيجة أن الفساد الأخلاقي قد استشرى والسلوك الأدبى قد انحط.  وقد قيل حقًا إن أردأ صور الفساد هو فساد أقدس الأشياء.  لهذا قال الرب عن ساردس: «أنا عارف أعمالك أن لك اسمًا أنك حي وأنت ميت».  وعلينا نحن أن نتحذر مما يحدث حولنا ونتذكر أننا نتعامل مع إله قدوس، يحكم بغير محاباة، ولا يتهاون مطلقًا مع الشر، وأننا نقدم عبادتنا له بخشوع وتقوى.   

   «كن ساهرًا وشدد ما بقي الذي هو عتيد أن يموت.  لأني لم أجد أعمالك كاملة أمام الله» (رؤ3: 2).  نتيجة لفقدان السهر واليقظة فإن الأشياء التي بقيت كانت ذابلة ومهيأة للموت، وكان الانحدار متواليًا.  وهذا التحريض على السهر نحتاجه في كل العصور، وقد ذكره الرسول في لقائه الأخير بشيوخ كنيسة أفسس: «اسهروا متذكرين» (أع20: 31)، وقد ذكره أيضًا بالارتباط بالصلاة في رسالتي أفسس وكولوسي.  ومع أنه كانت هناك أعمال كثيرة في فترة الإصلاح، وأنشطة كثيرة بعد رحيل رجال الإصلاح، لكن الرب يقرر أنه لم يجد أعمال ساردس كاملة أمام الله.  فإن الوقود الروحي لهذه الأنشطة والخدمات الذي يأتي من قوة الروح القدس قد نفد، وصارت تتم بقوة من الجسد.  وربما بدت هذه الأعمال براقة ومبهرة، ونالت مدح وإعجاب الكثيرين، لكنها أمام الله، الذي لا يُخدَع بالمظاهر، كانت ناقصة وأعمالاً ميتة تفتقر إلى الحياة.  إن الباعث هو الذي يحدد صفة وطبيعة كل نشاط.  ولا يمكن أن يكون الباعث هو مجد المسيح إذا لم يكن الروح القدس هو القوة العاملة فيه.  أما إذا كان الباعث هو تحقيق الذات وحب الظهور ومجد الإنسان والربح القبيح فإن هذا النشاط سيعتمد على الجسد وأساليبه، ولن يحظى بالقبول أمام الله.  وهذه الأعمال ستحترق يوم تُمتحَن أمام كرسي المسيح (1كو3: 13 – 15).  وليس ذلك فقط بل حتى تعاليم رجال الإصلاح أنفسهم شابها القصور والنقص.  لقد وقفوا عند حقيقة التبرير بالإيمان، ولكنهم وضعوا المؤمن الذي نال التبرير تحت الناموس كقانون حياته.  وظلوا يتمسكون بالأسرار الكنسية، وارتباط المعمودية بالولادة الثانية، وعقيدة الاستحالة في عشاء الرب، ولم يدركوا الحق الخاص بكنيسة الله كما شرحه بولس، ولا ميَّزوا الفرق بين إسرائيل والكنيسة، وتباين التدابير.  وظل الحق الخاص بمجيء الرب مشوشًا.  لهذا لم تكن أعماله كاملة أمام الله.

وسنستكمل حديثنا عن ساردس في العدد القادم إذا شاء الرب

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com