عدد رقم 1 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المفهوم الصحيح لتبعية المسيح (3)  

   بعد أن فهمنا أن المسيح الآن خارج النظام الوثني لكونه نظامًا وضعه الشيطان، إلا أنه أيضًا خارج النظام اليهودي على الرغم من أن واضعه هو الله نفسه.  ولقد كان السبب الذي سلطنا الضوء عليه في المقال السابق، وهو رفض النظام اليهودي، هو أن هذا النظام تضمن نظامًا كهنوتيًّا يستمد استحقاقه من الانتساب لهارون، ولما كان التناسل الجسدي مبدءًا حاكمًا للخليقة الأولى، لم يكن للمسيح، وقد صار رأسًا لخليقة جديدة، أن يؤسس نظامًا كهنوتيًّا يستمد استحقاقه بذات الطريقة.

  على أني أريد أن أضيف سببًا آخر لخروج المسيح من النظام الديني اليهودي رغم كونه الوحيد الموضوع من الله، فإننا إذ نعرف أن المسيح كان غرضه أن يعلن لنا عن الله أبيه، نجد أنه من المستحيل تحقيق هذا الهدف بواسطة أي نظام ديني سواء كان يهوديًّا أو غير يهوديٍّ.  إن المسألة التي سنناقشها في هذا المقال أبعد من مجرد عدم مناسبة النظام الكهنوتي اليهودي مع وضعنا الجديد في الخليقة الجديدة.  إن القضية ستذهب بنا إلى حد اكتشاف أن النظام الديني بوجه عام يحرم من بداخله من معرفة الله، فإن كان المسيح يريد أن يأخذ بأيدينا ليدخلنا إلى حيث الله نفسه لنعرفه، فإن مفهومنا عن تبعيته لا بد أن يتضمن فهمنا لحقيقة رفضه لمبدأ النظام الديني أيًّا كانت خلفيته العقائدية.  فإنني أعني أن المسيح لم يعد فقط رافضًا النظام اليهودي لكونه يضم صالبيه وقاتلي رسله تحت رايته، لكن أعني أن المسيح بعد خروجه من هذا النظام لا يمكن أن يصادق على أي نظام ديني آخر على غرار هذا النظام حتى لو كان تحت مظلة الإيمان المسيحي الأقدس الذي يعترف ويؤمن بالحق المختص به.  فهو لم يخرج من هذا النظام الديني ليؤسس نظامًا دينيًا آخر، لكنه خرج منه ليدعو من كانوا فيه بعد إيمانهم به أن يخرجوا منه ليتمكنوا من معرفة الله كما هو في حقيقته، الأمر الذي لن يكون متاحًا لكل من يتعامل مع الله سواء تحت هذا النظام أو غيره.  فلو افترضنا جدلاً أن المسيح أسس نظامًا دينيًّا آخرغير النظام اليهودي سيُحرم أيضًا من يدخلون إليه من معرفة الله معرفة حقيقية باعتباره النور والمحبة.

   إن السبب وراء حرمان كل من بداخل النظام الديني من معرفة الله هو أن أي نظام ديني لا بد أن يكون له هيكل وظيفي يشتمل على درجات وظيفية تختلف كل درجة فيها في مدى قربها من الله، كما أن هذا النظام موضوع بغرض خدمة الشعب الذي اختاره الله.  فعلى الرغم من أن الشعب هو شعب الله إلا أنه لم يكن له حق معرفة الله إذ كان هذا الحق قاصرًا على من هم في تلك الوظائف، وأي قارئ للعهد القديم يتفهم أنني أقصد هنا ثلاثة درجات وظيفية إذا رتبناهم ترتيبًا تصاعديًّا يكونون كالآتي: اللاوي ثم الكاهن ثم الكاهن العظيم.  كان هذا النظام وثيق الارتباط بالتشريع الذي صار الشعب تحته أي الناموس حتى أنه إذا تغير هذا النظام الكهنوتي يتضمن بالضرورة تغيير الناموس نفسه (عب7: 12)، فكما أن الناموس وُضع مرة واحدة للشعب كله باعتباره نسل إبراهيم، دون أن يكون هذا نابعًا من الرغبة الفردية لكل إسرائيلي على مدى الأجيال، أي لم يكن متاحًا لكل فرد يولد في إسرائيل أن يؤخذ رأيه فيما إذا كان يرغب في أن يضع نفسه تحت الناموس أم لا، بدعوى أنه لم يكن قد وُلد وقت أن اختار آباؤه الناموس ليضعوا أنفسهم تحته.  إذًا مجرد ولادته من هذا النسل تضعه تلقائيًّا تحت الناموس، هكذا أيضًا وظيفة الكهنوت، فهي وإن كانت مكتسبة بدعوة من الله (عب5: 4) لكنها لم تكن دعوة شخصية لهارون ثم دعوة شخصية لابنه ألعازار ثم دعوة شخصية لحفيده فينحاس إلخ..، فلقد كانت دعوة واحدة لهارون ونسله، وكل من أتى بعد ذلك من نسله اكتسب تلقائيًّا هذه الوظيفة.

  قبل أن استكمل ما أريد أن أقوله في هذا الصدد، لا بد أن أوجه نظر قارئي العزيز إلى الشيطان وأهدافه الدائمة، فلم تقتصر أهدافه على تشكيك اليهود في إيمانهم بالله، أو حتى إغوائهم بالخطية حتى يقع بهم في صدام مباشر مع الله الذي سيحتسب الخطية تعديًّا على الناموس مما يجلب اللعنة عليهم، لكن لأن أهدافه الدائمة هي إفساد كل ما يفعله الله، لذا نجده سعى حثيثًا لإقامة نظام ديني مخالف لما رسمه الله بينهم حتى لو ظل هذا النظام تحت مظلة الاعتراف الرسمي من الشعب بالله وبشريعته.  ولقد وجد الفرصة سانحة جدًّا أمامه عندما انقسمت المملكة أيام رحبعام بن سليمان الملك، وبالفعل استغل الفرصة جيدًا.  لقد تم هذا القصد الشيطاني بواسطة يربعام بن نباط الذي كان مستفيدًا من حدوث الانقسام.  فلما رأى يربعام أن العقبة الأكثر خطورة على بقائه متسلطًا على العشرة أسباط ليست هي وجود شريعة موحدة وإيمان موحد يجمع تحت رايته صفوف الاثني عشر سبطًا، بل وجود نظام ديني موحد يجبر الجميع على تقديم السجود لله احتفالاً بالأعياد في مكان واحد (في أورشليم) بواسطة نظام كهنوتي واحد (نسل هارون)، كان لا بد له عندئذٍ أن يقيم نظامًا دينيًّا مكتمل الأركان، مغايرًا للنظام الديني الذي رسمه الله والذي ظل معترفًا به في مملكة يهوذا.  لذا أقام مذبحًا في غير المكان الذي اختاره الرب ليضع اسمه فيه، بل وصيَّر كهنة من أطراف الشعب لم يكونوا من بني لاوي، كما أنه ابتدع أعيادًا في مواسم غير المقررة في سفر اللاويين والمتبعة في مملكة يهوذا (1مل12: 25-33).  إن السبب الذي دفعني للإشارة إلى هذا الأمر هو أن الشيطان يستهدف النظام الديني الموضوع من الله لإفساده، فإذا رحَّب الشعب به فإنهم بذلك يفتحون الباب للشيطان لإبعادهم عن الرب سريعًا.  لذا نجد أن مملكة العشرة أسباط كان انحدارها روحيًّا أسرع من الأخرى، كما أنها تعرضت للسبي أولاً قبل الأخرى.  هذا مع الوضع في الاعتبار أن استبدال النظام الديني الصحيح بنظام آخر من ابتداع البشر لا يعني عدم الاعتراف الرسمي بالله، فمملكة العشرة أسباط لم تعترف بإله آخر وظلت مرتبطة – ولو رسميًّا بالله – وهذا يتضح أكثر من نظرة الله لهم على أنهم جزء من شعبه، كما يظهر في كلام رجل الله إيليا للأسباط العشرة في 1مل18: 31،30 (لاحظ أن العجول الذهبية ليست عبادة وثنية في نظرهم لكنها مجرد نظام ديني لعبادة الرب على غرار ما رآه آباؤهم في مصر.. قارن خر32: 5،4).

  إن الأمر نفسه يتكرر في المسيحية، إذ تجد أن تحت مظلة الإيمان المسيحي الأقدس الكثير من الأنظمة الدينية، وما أريد أن أكتفي به في هذا المقال هو أنه ليس شيئًا ثانويًّا أن تبحث في كلمة الله عن السؤال: كيف تجتمع الكنيسة لتعبد الله؟ إحذر قارئي العزيز لأن كثيرين الآن يصورون أن المهم هو تبعية المسيح في سلوكياته وأدبياته التي ظهرت في حياته هنا على الأرض فقط، وإني أقول بناءً على ما تقدم أن معرفتنا لفكره الخاص بكيفية العبادة هو جزءٌ من تبعيته.  إنه ليس فقط شيء مهم، لكن من يريد أن يتبع المسيح عليه أن يبحث في كلمة الله عما يريد هو أن يراه في كنيسته عندما تجتمع.  وإنني لا أقلل أبدًا من ضرورة التمثل به أدبيًّا، بل إني أقول إن التمثل به أدبيًّا ضروري لإشباعه بنا فرديًّا، كما أنه يؤسس لكنيسة تستطيع أن تُدخل السرور إلى قلبه، ليس على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الجماعة أيضًا.  وهكذا نجتمع معًا في جوٍّ مقدس بالكيفية وبالطريقة التي رسمها هو، وهكذا يشبع هو باجتماعنا وبالتأكيد سنشبع نحن أيضًا.

   إن الحق المختص بكهنوت جميع المؤمنين يضع أي نظام ديني في مقتل، بل إنني أقول إن أي نظام ديني حتى لو كان يعترف بهذا الحق الثمين لكنه حتمًا سيفرغه من جوهره، لأن النظام الديني له شكل تنظيمي هرَمي، فأيما كانت المسميات الوظيفية، سواء كان لها شكل كتابي أو غير كتابي، وأيما كانت الصلاحيات لاستيعاب عدد أكبر في الدرجة الواحدة، مما يوحي بأن هذا النظام ليس فرديًّا، كوْن أن هناك نظامًا بوظائف محددة، ليس فقط يفرغ حق كهنوت جميع المؤمنين من جوهره، بل إنه يضع حدودًا لعمل الروح القدس، وياله من شرٍّ عظيم !!.

  باختصار يمكنني القول بأن أي نظام ديني يعترف بالإيمان المسيحي وله المُسمى الكنسي لا بد أن تجد فيه شيئين: أولهما وظائف محددة تعطي لمن يتقلدها صلاحيات متفاوتة، وثانيهما أسماء محددة تشغل هذه الوظائف بعد إعلان رسمي يصدر ممن له السلطة سواء فرد أو مجموعة أو الكنيسة كلها، وقبل هذا الإعلان لا يجوز للفرد شغل هذه الوظيفة أو الخدمة.  إن الشيء الأول يهدم التعليم الخاص بكهنوت جميع المؤمنين، أما الثاني فيسلب سلطان الروح القدس في أن يقسم كما يشاء لكل واحد بمفرده ما يريده أن يقوم به من خدمة أو وظيفة (1كو12: 7، 11).

  هل هذا يعني أن كنيسة الله ليس بها وظائف وليس بها ترتيب؟ الإجابة بالقطع لا، إلا أن الترتيب الموضوع لها من الله بالوحي المقدس لا يتعارض مع كهنوت جميع المؤمنين وحرية الروح القدس في قيادة العبادة والخدمة.  إنني أريد أن أؤكد على أن تبعية المسيح تتضمن تبعيته كالراعي الذي أطلق صوته ليُخرج وراءه خرافه الخاصة من النظام الديني، ليجتمعوا فقط، لا إلى نظام بل إلى شخص، وبالطبع إنه هو نفسه هذا الشخص.  كما أريد أن أؤكد أن البحث في كلمة الله عن ترتيبه لكنيسته هو جزء هام من تبعيتك للمسيح.  فها هو نفسه في إنجيل يوحنا أوضح لنا أننا يجب أن نتبع صوته لنعرف أين هو، فقد كان كلامه في هذا الشأن يعطينا الجانب السلبي من الحق وهو أنه خارج كل الأنظمة الدينية.  لكن الرسول بولس بحسب الإعلان المُعطَى له من المسيح استكمل الخط فقدَّم لنا الجانب الإيجابي إذ أعطانا التعليم المختص برئاسته للكنيسة وسلطان الروح القدس فيها، وهذا جزء مما يعنيه الرسول بولس عندما قال: "تمثلوا بي".  فلكي نتبع المسيح علينا أن نتعلم ما قاله بولس عن المسيح نفسه وعن علاقته بالكنيسة.  فهذه التعاليم هي إضافة بالروح القدس - وليست مجرد شرح – لتعاليم المسيح التي علَّم بها وهو هنا على الأرض.

  وفي المقال القادم نستكمل بمعونة الرب جوانب أخرى مما أضافه لنا تعليم بولس عن تبعيتنا للمسيح.

           

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com