عدد رقم 1 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ  

«وَكَانَ مُتَّكِئًا فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ»

(يو13: 23)

واحدة من أكثر الصور تعبيرًا عن الحب في الأناجيل، هي تلك التي تُظهِر واحدًا من تلاميذ المسيح متكئًا في حضن الرب، ولا ذكر لاسمه؛ فقط «وَاحِدٌ ... كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ».  ثم لا نلبث أن نعلم مَن هو.  في كل إنجيله الذي كتبه يوحنا، لا يذكر اسمه ولا مرة، ولكن السفر يشع من بدايته إلى نهايته بأمجاد شخص المسيح.  لقد مجَّد يوحنا السَيِّد، وأخفى نفسه.  بينما نحن نُصرّ على وضع أسمائنا على كل صورة نرسمها للمسيح مهما كانت صغيرة، ونقحم شخصياتنا في كل عمل وخدمة مسيحية، ساعين وراء المجد والمدح والكرامة، وحينئذٍ لا نُحسَب أهلاً لإكرام السَيِّد.

إننا يجب أن نكون مثل يوحنا، نكتب أناجيل تذخر بالمجد والكرامة اللائقين بالمسيح؛ جماله الحلو، حبه المترفق، وكلها أوليات ينبغي أن نضطلع بوصفها وإبرازها وتسبيحها.

ثمة فكر ودرس هنا لا يجب نسيانهما.  فالتلميذ الذي لم يذكر اسمه قط في أية صفحة من إنجيله، كان يتكلَّم عن نفسه بالقول: «التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ».  لم يقل أبدًا: ”التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يُحِبُّ يَسُوعَ“.  لم يكن رجاؤه في محبته للمسيح، بل في محبة المسيح إياه.  هذا هو المبدأ الأساسي في النعمة الإلهية.  وهذا ما نجده في هذه الكلمات: «فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا ... نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (1يو4: 10، 19)، «لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ» (يو15: 16).  فليس أبدًا أن محبتنا للمسيح هي التي تُخلِّصنا، بل هي دائمًا محبته لنا.

أما أن يتكئ يوحنا في حضن المسيح، فهو مكان كل مؤمن حقيقي بالإيمان.  انظر إلى الطفل الصغير راقدًا في حضن أمه؛ ليس ثمة مخاوف، ليس قلق، ليس شكوك.  هذا مكان المحبة حيث تُحيط بنا ذراعه القوية، وتنتفي كل الهموم.  وما أجدرنا أن نتعلَّم الارتماء في حضن المسيح. 

ليس هناك درس متكرر عبر الكتاب أكثر من واجب وامتياز الاتكال والثقة في المسيح، حيث يُعلِّمنا المكتوب أنه ليس هناك طفل يتمتع بعناية دائمة، تامة، متفاضلة، آمنة، في بيت منيع ومُحب، أكثر من تلك العناية التي لنا.  ومن ثمَّ نتعلَّم ألا نقلق.  هناك أعواز وتجارب، ولكن «أَبُوكُمْ يَعْلَمُ» (لو12: 30).  هناك آلام وخسائر، ولكن «كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ» (رو8: 28).  هذا العالم العظيم المُوحِش الهائج المشاغب الشرير، يبدو مكانًا خطرًا ليعيش فيه خاصة المسيح الصغار، ولكن كل واحد منهم محمول ومحفوظ في حضن المسيح.  ولقد أخبرنا المسيح نفسه أن أقوى وأكرم الملائكة معنية بحراسة أولاد الله الصغار.  وأن هذه الملائكة تمثل في محضر الآب في السماء.  وهكذا فبكلماته رسم لنا المسيح صورة فحواها: إن كل صغير من خاصة المسيح له ملاك حارس، الأمر الذي يؤمنه وهو هنا في العالم، كما لو كان بالفعل في السماء.

وهكذا ففي جميع أنحاء هذا العالم المخوف الموحش المضطرب، ووسط كل أعدائه وتجاربه وامتحاناته وآلامه، ووسط أعوازه ومخاوفه، وسط خصوماته وصراعاته؛ وسط كل أولئك، كل ابن لله محفوظ في أمان وسلام تامين، أينما كان، ومهما كانت ظروفه وأحواله.  هو متكئ في حضن يسوع.

علينا أن نتعلَّم ألا نخاف من عواصف الحياة القاسية، حتى وإن خسرنا كل الأنصبة الأرضية، وانهدم كل حصن عالمي، وبقينا في العراء في مواجهة الأخطار بلا ساتر ولا ملجأ، يظل الله حمانا وملجأنا، ونظل متمتعين بحضن المحبة الأبوية الإلهية، في ملاذ آمن في حضن القدير، لا تقدر أسوار حصينة أن تؤمن مثل ذلك.

ومتى كان ذلك؛ أن اتكأ يوحنا في حضن السَيِّد؟  لم يكن في يوم من أعظم أيام تلمذة يوحنا، وإلا لكانت صورة جميلة تُعلّمنا دروسًا حلوة عن المحبة والشركة.  كلا لم تكن الليلة من زمن مثل ذلك الزمن الجميل، بل كانت آخر ليلة من حياة ربنا يسوع على الأرض قبل الصليب؛ كان وقتًا عصيبًا مظلمًا مخيفًا خطرًا.  لم تمر ليلة مؤلمة بهذا القدر على قلوب بشرية مثل الألم الذي اعتصر قلوب أحباء المسيح وقتها.  ولكن السؤال: أين كان يوحنا؟  «كَانَ مُتَّكِئًا فِي حِضْنِ يَسُوعَ»وما هو الدرس المستفاد؟  في خضم أي من غوائل الزمن المفاجئة، وتقلباته السريعة المباغتة، وفي ساعة حلوكة الظلام والألم، أين نذهب؟  إننا لا يُمكننا أن نفهم المعنى الكامن وراء كل الأحداث الغريبة التي تجلِب الخراب والدمار.  فما العمل؟  أفضل عمل هو أن نُلقي بأنفسنا في حضن المسيح، تاركين الأسئلة الصعبة والغريبة، وكل حيرة، بين يديه.  يسوع يعرف ويتفهم.  وإذا ما رجعنا إليه في أوقاتنا المُظلمة، سنجد دائمًا النور، لأنه يستحيل أن يكون ظلام حيث يُوجد هو.  وحتى لو وُجِدَ صديق بشري صدوق، كملاذ وقت الضيق، إلا أنه يظل محضر المسيح السري هو حصن السلام في وقت الفشل والإحباط على الأرض.

أين اتكأ يوحنا؟  «فِي حِضْنِ يَسُوعَ».  لا يُقال إنه وضع يده في يد يسوع.  فاليد ترمز إلى الإرشاد والحفظ والمعونة.  وحسن أن تحملنا يد ابن الله القديرة.  كما أن يوحنا لم يكن على ذراع يسوع.  فالذراع يُشير إلى القوة والحَمل والحماية والأمان.  وإنها لتعزية مباركة أن تكون لنا الأذرع الأبدية من تحت.  ولكن يوحنا اتكأ «فِي حِضْنِ يَسُوعَ»؛ قريبًا من قلبه.  فالحضن مكان الأمان، كما أنه مكان الحنان.  فالراعي الصالح يحمل الخراف في حضنه.  ثم إنها لتعزية عظيمة أن تكون قوة المسيح لحسابنا ولحفظنا ولأماننا، ولكن أفضل بما لا يُقاس أن تكون لنا محبة المسيح سترًا وملجأ.  فأن تتكئ في حضن يسوع يعني أن تُحيط بك وتكتنفك محبة الله من كل جهة.  فحضن الأم بالنسبة لطفلها هو أروع وأنعم مكان في العالم، أما حضن يسوع فأروع وأدفأ بما لا يُقاس.

ماذا فعل يوحنا؟  اتكأ «فِي حِضْنِ يَسُوعَ».  والكلمة ”اتكأ (Leaned On) “كلمة غنية بالمعاني، ربما نفتقد بعض، بل الكثير من معانيها، والتي تُقرر عظم امتيازنا كمؤمنين بالمسيح.  إنه تعني الاتكاء، الاستناد، الاعتماد“.  إننا نفهم أنه يليق بنا أن نطرح أحمالنا على المسيح، ليحمل ما يشق علينا حمله، وهو بدوره يُعيننا.  إننا نتحدث عن حمل نير المسيح، ويطيب لنا أن نفتكر أنه يسير معنا، وإلى جوارنا، رفيقًا إلهيًا، ليُعيننا على حمل النير.  ثم نتقدم لنجده حاملاً لخطايانا على الصليب.

 كل ما يشغله في تلك الليلة بين يدي سَيِّده: مرارة آماله التي تحطمت، وها هو يطرحها كلها الآن في حضن المحبة الإلهية.  ولكن ما أن نُمعن النظر إلى الصورة حتى نكتشف أن التلميذ المحبوب ألقى بثقله كله في حضن يسوع؛ ليس فقط حمل الألم، والحيرة، والخسارة، بل قبل كل أولئك استلقى هو نفسه في حضن يسوع.

أحد الأصدقاء كان ينقل محتويات مكتبته إلى الدور التالي.  وحضر ابنه الصغير ليُساعده في نقل الكتب.  ملأ الطفل حضنه بالكتب، وحاول الصعود فخورًا بحمله على ذراعيه.  ولم تكد تمر برهة حتى سمع الأب استغاثة للمعونة.  فما أن صعد الطفل نصف المسافة حتى أدرك أن الثقل يفوق احتماله، فأراد أن يلحق به أبوه ليحمل عنه قسمًا من الحمل.  وسمع الأب، وأسرع صاعدًا إلى ابنه حيث حمله هو ومعه الكتب التي كانت بحوزته.

وهكذا يفعل المسيح بنا؛ يحملنا مع كل أثقالنا.  لا يوجد ثمة شيء في حياتنا لا يحمله.  لقد صار حبيبنا الذي رفع خطايانا ونزعها عنا، ويأخذ على عاتقه إرشادنا، وترتيب خطواتنا، وتشكيل ظروفنا، والسيادة على أحداث أيامنا، والخلاص في تجاربنا.

وعندما نُسلم ذواتنا للمسيح، فليس هناك شيء آخر لنفعله بعدئذٍ إلا أننا – ببساطة – يومًا فيومًا، وساعة فساعة، ”نَطلُبُ أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَنَا (مت6: 33).  هذا هو نصيبنا الإلهي.

هذه الصورة المنشودة ترسم أمامنا سر الحياة الجميلة.  فالمصورون يرسمون يوحنا دائمًا الأقرب شبهًا بالمسيح من بين جميع تلاميذه.  ولا شك أنه الأقرب إلى قلب المسيح، والأكثر محبة له.  فإنجيله ورسائله تتنفس بروح شخصية هي الأحلى والأرق.  غير أن ثمة دلائل تُشير إلى أنه لم يكن كذلك دائمًا فيما مضى، بل كانت له طبيعة متأججة نارية متسرعة.  لقد أراد يومًا أن يستنزل نارًا من السماء ليحرق قرية، ويُهلِك أهلها، لأنهم رفضوا قبول المسيح.  ليست تلك هي طبيعة المحبة التي نلمسها لاحقًا.  كان ينبغي عليه أن يتعلَّم درس المحبة.

قارن أحدهم تطور نضوج شخصية يوحنا مع بركان قديم كان ينفث حِممًا، ولكن الآن تكسو الخضرة قمة الجبل حيث فوهة البركان.  فالفوهة التي كانت قبلاً تحرق، حلّت محلها مروج خضراء وهادئة، وحمام سباحة من الماء النقي الصافي.  وهي تنظر إلى العلاء كأنها عين ترنو إلى السماوات الجميلة أعلانا.  وتحفُّ بها زهور مُلوَّنة من كل جانب.  هذا مثل ناطق لطبيعة هذا الرجل، ناري الطبع، القادر أن يهدر مثل بحر زاخر، ولكن النعمة تعهدته حتى صنعت منه شيخًا شامخًا، عميقًا وهادئًا، تُزيّنه فضائل المسيح.

وما الذي أجرى هذا التغيير في يوحنا؟  ما الذي أبدل روح النقمة إلى روح الوداعة والمحبة؟  ما الذي جعل من ”ابن الرعد“ رسولاً مُحبًا متمثلاً بالمسيح.  لقد فعل الاتكاء في حضن المسيح فعله.  مثله مثل إناء من الطين، موضوع بين ورود ورياحين فواحة، فيتشبع الإناء من شذى الورود، ويعكسها.

وذات المكان متاح لكل مَن يصبو إليه؛ حضن المحبة السرمدية.  وكيف نجده؟  نتكئ في حضن المسيح عندما نثق فيه، ونتكل عليه.  عندما نُصدّق محبته تجاهنا، ونُغمَر بسيول هذه المحبة.  عندما نُحبه من نوع محبته.  نحن نستريح في هذا الحضن عندما ننمو في علاقة حميمة مع الرب يسوع، ونسعى إلى شركة وصحبة معه، وعندما نُكوّن معه صداقة قلبية لا ترقى إليها أية صداقة أخرى.  عندما لا نُحب أحدًا – كائنًا مَن كان – مثلما نُحبه.  عندما نتمتع بهذا الامتياز المقدس: أن نعيش دائمًا بقرب قلب المسيح، عندئذٍ، ونتيجة لهذا القرب، تتغيّر شخصياتنا إلى جمال الحب المقدس الرقيق المُترفق.  الارتماء في حضن المسيح يُمكننا أن ننمو إلى شَبه أكثر به، فحياته وحبه سيفيضان في قلوبنا، ويُكيّفان وجودنا.

نظرة أخرى إلى هذه الصورة، وهذه المرة نلمح لمحة بخصوص ما ستكون عليه السماء.  كان اليهود القدماء يُشيرون إلى مكان أرواح الأبرار بـــ”حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ“ (لو16: 22).  كان ذلك لأن إبراهيم هو أبو الشعب اليهودي.  وعادة ما يُجمّع الأولاد إلى حضن أبيهم.  وعلى نحو أحلى وأولى تُعتبَر السماء حضن المسيح؛ فهي مكان الشركة الكاملة.  لا شيء بإمكانه أن يفصل المؤمن أبدًا عن مُخلصه، في بيت المجد هذا.

نرى هنا أيضًا ما هو الموت بالنسبة للمؤمن المسيحي: أن يدنو إلى قرب أوثق للحضن الذي كان يحتويه إبان وجوده على الأرض.  هل يمكن أن يخاف أحد من الاقتراب إلى هذا المكان الحاني الرقيق؟  استفانوس - وهو يموت – رأى الرب يسوع، وقال له: «أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ، اقْبَلْ رُوحِي» (أع7: 59)، بينما قال الرسول بولس: «وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ»  (في1: 21).  فالموت ربح للمؤمن المسيحي لأنه يعني الرحيل إلى حيث يكون مع المسيح.

دعونا – إذا كنا حقًا للمسيح – لا نخاف من مفارقة العالم بالموت، فكل ما هناك أن مشهد الإيمان الخافت سيتبدل إلى منظر مُبارك مجيد؛ فالحبيب الذي نُحبه الآن وإن كنا لا نراه، سنكون معه وجهًا لوجه إلى الأبد.

ودائمًا ما يوجد متسع في هذا الحضن للمزيد ممن يُريد.  إنه لا يضيق أبدًا عن قبول أحد، لأن ذراعي المسيح مفتوحتان على آخرهما لتحتويا العالم بأكمله.  ولا يُمكن أن يضيق حضن المسيح؛ فثمة مكان هناك للمريض، مكان للتائه الذي يرغب في الرجوع، مكان للمتألم الذي يبحث عن راحة وتعزية، مكان للعجزة في ضعف شيخوختهم، مكان للأطفال ... هناك متسع للجميع.

                                

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com