عدد رقم 1 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الفطام  

لعل من أشهر الآيات التي تُكلمنا عن الفطام هو ما ذكره داود في مزموره: «يَا رَبُّ لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ وَلَمْ أَسْلُكْ فِي الْعَظَائِمِ وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي. بَلْ هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ. نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ. لِيَرْجُ إِسْرَائِيلُ الرَّبَّ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ» (مز131).
 وهنا نتساءل لماذا استخدم داود تشبيه الفطام بالذات وهو يتكلم عن علاقته مع الرب وموقفه من نفسه؟ في الواقع هناك أوجه مفارقة ومشابهة بين الفطام الطبيعي والفطام الروحي:

الفطام الطبيعي لا يقوم به الطفل بل الأم، أما الفطام الروحي فيقوم به الشخص مع نفسه نتيجة تدريبات يجتاز فيها وقناعات تترسخ في أعماقه.  فمن ذا يستطيع أن يقنع طفلاً رضيعًا أن يستبدل مكانه في ”حضن أمه“ بأي مكان آخر، وأن يستبدل ”لبن أمه“ بأي طعام آخر؟! إن آماله وطموحاته لا تتعدى هذين الأمرين، وعليه يمكننا القول أن الطفل لا يحتاج إلى إقناع بل إلى حزم.  إنه لا يدرك أهمية فطامه، وأنه أمر حتمي لسلامته الصحية ونموه الطبيعي.  غير أن الأمر يختلف في المجال الروحي، فإن كان الطفل لا يعرف ما هو لخيره وهو يُفطم، بل ويعاني كثيرًا من ذلك، فالشخص الناضج يُدرك تمامًا أهمية فطامه بل وحتميته، صحيح إنه أيضًا كالطفل تمامًا لا يريد أن يستبدل ما هو محبب لديه سواء عادات أو ممارسات معينة بأي شيء آخر، ويعاني كثيرًا وقد يبكي نتيجة الحرمان، إلا إنه بخلاف الطفل يُدرك يقينًا أهمية ذلك لسلامته ونموه الروحي.  يُدرك تمامًا أن عليه هو أن يُجري مع نفسه عملية الفطام بما فيها أيضًا من معاناة وصعوبة! مع ملاحظة أن الفطام الطبيعي يحدث للطفل مرة واحدة في كل حياته، فبعد أن يُفطم الطفل نستطيع القول أنه يترك عرشه المفضل ”حضن أمه“، وطعامه الأوحد ”لبن أمه“، ولا يعود إليهما مرة ثانية، أما ما يحدث في الوضع الروحي فمختلف، فقد يحتاج الشخص أن يجري عملية الفطام أكثر من مرة في تاريخ حياته الروحي.  إنه تدريب يبدأ مع الشخص من بداية ميلاده الروحي ويستمر معه في كل حياته، فكما كان الرسول بولس يدرب نفسه كل يوم أن يكون له ضمير بلا عثرة من نحو الله والناس (أع24: 16)، هكذا على كل شخص ناضج أن يجري عملية الفطام من حين إلى آخر ويقول لنفسه ورغباته المحببة: لا، ليضمن سلامته الروحية. 

الفطام الطبيعي يرتبط بالبلوغ والاعتماد على النفس، أما الفطام الروحي فيرتبط بالنضوج والاعتماد على الرب.  عندما طلب ألقانة من حنة الصعود معه كما اعتاد ليُعيِّد للرب في ”شيلوه“ ويذبح ذبيحته السنوية ويُقدِّم نذره، كان جواب حنة: «متى فُطم الصبي آتي به ليتراءى أمام الرب ويُقيم هناك إلى الأبد» (1صم1: 21، 22).  لقد نذرت حنة ابنها صموئيل للرب، وهي تنوي أن تذهب به إلى شيلوه وتتركه هناك ليخدم في بيت الرب، فلكي تترك طفلها وحده بعيدًا عنها، كان لا بد أولاً أن ”يُفطم“، أي يكف عن الاعتماد على أمه ويعتمد على نفسه.  فلكي يخدم في بيت الرب، عليه أولاً أن يستقل عن أمه ويدبر أموره بنفسه، أي أن يكبر وينضج! غير أن الأمر يختلف في المجال الروحي فإن كان علامة بلوغ الطفل الطبيعي تظهر في مدى استقلاليته عن أمه، فعلامة نضوج الشخص الروحي هو في مدى اعتماده على الرب في كل أمور حياته، فإن كان اكتمال فطام الطفل هو في استقلاله الكامل عن أمه، فاكتمال الفطام الروحي في مدى الاعتماد الكلي على الرب! وهذا ما عبَّر عنه المرنم في المزمور الذي في فاتحة المقال: «ليرجُ إسرائيل الرب من الآن وإلى الدهر».  لقد كانت نقطة تحول يعقوب الروحية عندما كفَّ عن الاعتماد على قوته الجسدية وإمكانياته الطبيعية، عندما انخلع حق فخذه في مصارعته مع الرب، وصار «يخمع على فخذه»، عندئذ «أشرقت له الشمس»، وبدأ مساره الروحي يتصحح (تك32)!!   

الفطام الطبيعي يعني تغيير نوع الطعام، من نوع واحد وهو ”اللبن“ إلى أطعمة مختلفة ومتعددة، أما الفطام الروحي فيعني أن تعزف النفس عن أطعمة متعددة ومختلفة وهي التي يقدمها العالم، إلى نوع واحد هو شخص الرب كما هم مُعلن في كلمته التي بين أيدينا، أو يمكنني القول أن يتعلم الشخص ما تعلمه الشعب في القديم، وهو أن يرفض طعام مصر المتنوع ”السمك، القثاء، البطيخ، الكرات، البصل، الثوم“ (عد11: 5)، ويكتفي بطعام واحد وهو ”المن“، والذي يشير إلى الرب له كل المجد (يو6: 49-51).  إن كان فطام الطفل عن لبن أمه يحدث لحظيًّا، أي أنه في وقت مُحدد يُحرم من لبن أمه ويُقدَّم له عوضًا عنه أطعمة مختلفة، عليه من هذه اللحظة أن يتعود عليها، الأمر الذي لا يحدث في الفطام الروحي، فلكي يرفض الشخص أطعمة العالم المتنوعة ويكتفي بالرب وحده الذي هو ”خبز الله“ (يو6)، يحتاج إلى تدريبات كثيرة وفترات طويلة، وقد نتعجب أن فترة البرية للشعب لم تكن كافية لأن يتعلم الشعب ويتدرب على الاكتفاء بالمن كطعام مشبع وكافي له، بل نجده في نهاية الأربعين سنة يظهر حنينه ورغبته في طعام مصر الأول (عد11)!! كم هي علامة صحيحة للنضوج الروحي أن يكون لسان حالنا ما قاله المرنم للرب: «أنت سيدي خيري لا شيء غيرك» (مز16: 2)، وأيضًا: «من لي في السماء، ومعك لا أريد شيئًا في الأرض» (مز73: 25)، فلا نحتاج في أي جوع أن نشبع من سواه.
   من خلال ما سبق يمكننا أن نتعرف على معانٍ أوسع وأعمق للفطام الروحي، فنستطيع القول إن:

الفطام الروحي ليس الحرمان من خطايا محببة، بل الحرمان من أمور قد تكون مشروعة.  لم يكن تمتع الصبي صموئيل بحنان ومحبة أمة شرًّا أو خطية، لكن كان إحدى علامات فطامه ونضوجه، وبداية تكريسه للرب هو أن يترك أمه تمامًا ويذهب بعيدًا عنها فيفقد بذلك كل ما يتمتع به أي طفل في هذا العمر من عناية واهتمام، ليواجه بمفرده، وهو ما زال غضًّا صغيرًا، الحياة بمتغيراتها وتقلباتها!!

غاية الفطام التحلي بالتواضع عن طريق كبح جماح رغبات النفس والتي تؤدي إلى المشغولية بالذات والكبرياء، وهذا ما عبَّر عنه داود في ذات المزمور: «يا رب لم يرتفع قلبي ولم تستعلِ عيناي، ولم أسلك في العظائم ولا في عجائب فوقي». 

يرتبط الفطام الصحيح بالتكريس لله والسجود له، والذي يعني عدم المشغولية بالنفس بل بالرب، وهذا ما فعله الصبي صموئيل عندما فُطم وذهب إلى شيلوه (1صم1: 28).  وهنا نستعيد كلمات حنة عن صموئيل في أنه يوم فطامه «يتراءى أمام الرب».  وهنا يمكننا القول أن الفطام الروحي نقطة تحول للمؤمن، فقبل الفطام لا يرى سوى نفسه، وبعد الفطام يُرى هو من الرب بصفة دائمة ويظل في محضره. 

إنه يوم جدير بأن يحُتفل به، فنقرأ عن إسحاق يوم فطامه القول: «فكبر الولد وفُطم، وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق» (تك21: 8).  لم نسمع عن إبراهيم رغم ثرائه ومحبته الكبيرة لإسحاق أنه عمل وليمة أو احتفالاً يوم مولده، الأمر الذي كان متَّبعًا في القديم.  إلا أن إبراهيم الشخص الروحي الفطن، والذي دعي بحق ”خليل الله“، أدرك أن أعظم حدث لابنه والجدير بأن يُحتفل به هو يوم فطامه، يوم بلوغه ونضوجه! ويمكنني القول إنه يومٌ جديرٌ بأن يُحتفل به يوم يتعلم الشخص أن يفطم نفسه عن أمور تعرقل نموه الروحي وتؤثر على صحته ونضارته الروحية.

   وفي الختام دعونا نلقي نظرة سريعة على النتائج الرائعة المترتبة على فطام صموئيل.  لقد أبرز لنا فطام صموئيل صبيًا متواضعًا، يقنع بأن يكون خادمًا لعالي (1صم2: 11، 3: 1)، ورجلاً متعففًا لا يقبل رشوة (1صم12: 3-5)، وخادمًا يصلي لأجل الشعب ويعلمهم الطريق الصالح ليسيروا فيه (1صم23:12)، وشيخًا سويًّا لا يتأثر برفض الشعب له عندما طلب ملكًا، فنراه ينوح حزنًا على رفض الرب لشاول الملك، والذي اختاره الشعب عوضًا عنه ( راجع 1صم15: 10، 11، 16: 1).

ليتنا جميعًا نُدرك أهمية هذا الحدث العظيم، يوم نتعلم أن نفطم أنفسنا عن مسرات العالم، وما هو جذاب للجسد، حتى الأمور المشروعة، ونميِّز الأمور المتخالفة، حتى في الأوساط الروحية والأنشطة الكنسية، مُختبرين ما هو مرضيٌّ عند الرب، عندئذ نردد كلمات داود عن اختبار وتدريب: «هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ. نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ».

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com