(2صم15-18)
المشهد السادس: قليلاً عن قمة جبل الزيتون
(2صم16: 1-4)
«وَلَمَّا عَبَرَ دَاوُدُ قَلِيلاً عَنِ الْقِمَّةِ إِذَا بِصِيبَا غُلاَمِ مَفِيبُوشَثَ قَدْ لَقِيَهُ بِحِمَارَيْنِ مَشْدُودَيْنِ، عَلَيْهِمَا مِئَتَا رَغِيفِ خُبْزٍ وَمِئَةُ عُنْقُودِ زَبِيبٍ وَمِئَةُ قُرْصِ تِينٍ وَزِقُّ خَمْرٍ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: مَا لَكَ وَهَذِهِ؟ فَقَالَ صِيبَا: اَلْحِمَارَانِ لِبَيْتِ الْمَلِكِ لِلرُّكُوبِ، وَالْخُبْزُ وَالتِّينُ لِلْغِلْمَانِ لِيَأْكُلُوا، وَالْخَمْرُ لِيَشْرَبَهُ مَنْ أَعْيَا فِي الْبَرِّيَّةِ. فَقَالَ الْمَلِكُ: وَأَيْنَ ابْنُ سَيِّدِكَ؟ فَقَالَ صِيبَا لِلْمَلِكِ: هُوَذَا هُوَ مُقِيمٌ فِي أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ يَرُدُّ لِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ مَمْلَكَةَ أَبِي. فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: هُوَذَا لَكَ كُلُّ مَا لِمَفِيبُوشَثَ. فَقَالَ صِيبَا: سَجَدْتُ! لَيْتَنِي أَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ» (2صم16: 1-4).
تأملنا في العدد السابق في مشهد ابتعاد داود قليلاً عن قمة جبل الزيتون، وذكرنا أن المشهد مليء بالدروس الأدبية النافعة. وقد تحدثنا في العدد السابق عن:
الدرس الأول: حذار من الانحدار.
ونواصل تأملاتنا في هذا العدد فنتحدث عن:
الدرس الثاني: «لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً» (يو7: 24).
بالرغم من أن داود كان مُتشككًا من جهة غياب ”مَفِيبُوشَث“ وحضور ”صِيبَا“ وهديته التي أحضرها، وهو ما يظهر من سؤاله عن الهدية: «مَا لَكَ وَهَذِهِ؟»، لكنه لم يفحص الحقائق، وصدَّق ”صِيبَا“ معتمدًا على أقواله، وتسرَّع وأعطى كل ممتلكات مفيبوشث لهذا العبد (2صم16: 1-4).
وإنه أمر غريب يدعو للأسف أن نرى داود يُصدق أكاذيب ”صِيبَا“! فكيف يستطيع إنسان عاجز مُقعد أن يطمع في الوصول إلى المُلك؟! لقد خُدع مفيبوشث وهو لا يملك أن يفعل شيئًا (2صم19: 26)، وداود تسرّع وصدَّق القصة المُختلقة التي رواها ”صِيبَا“، الذي لم يلتصق بداود، ولم يُصاحبه ليُشاركه في رفضه وتغرّبه! لقد اكتفى بتقديم الهدية فقط، وعاد ليهتم بأحوال الأرض!
كان داود مُتعبًا، مجروحًا داخليًا وبشدة، ولم يكن هذا هو الوقت المناسب لاتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بأشخاص ارتبط بهم عاطفيًا، ولكنه تعجَّل في اتخاذ قرار بإعطاء صيبا كل متعلقات مفيبوشث. وحقًا قال الحكيم: «مَنْ يُجِيبُ عَنْ أَمْرٍ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهُ، فَلَهُ حَمَاقَةٌ وَعَارٌ» (أم18: 13).
إن الأحكام الطائشة القائمة على دليل من وجه واحد، أو التي تم التوصل إليها بالقفز إلى النتائج، تُعرِّض الشخص للعار عند فحص الأمر فحصًا دقيقًا، فيظهر أنه تكلَّم دون أدلة كافية. ولقد تسرّع داود وأساء الظن بمفيبوشث، وذلك لأنه حكم حسب الظاهر، وأعطى أذنيه لافتراء غير مُؤَّكد وغير مُوَّثق وغير مُبرّهن، ضد شخص غائب لا يملك الدفاع عن نفسه ضد الاتهام الموَّجه إليه. وكانت مشكلة داود أنه حكم بناءً على ظواهر الأمور، وليس على أساس بواطن الأمور وخفاياها وواقعها الفعلي، لذا لم يكن حكمه عادلاً. والمناظر دائمًا خادعة، والعيان دائمًا مُضلِّل، ونحن نحتاج أن ننفذ إلى ما تحت السطح لنحكم حكمًا صحيحًا. وهناك فرق شاسع بين المنظر الخارجي والقلب. وللأسف فحتى صموئيل النبي كان على وشك أن يُؤخذ في شِراك المظاهر، لولا أن الرب تدخل بنعمته ليُعلِّمه قيمة القلب. ويا لها من كلمات خالدة: «لاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْظَرِهِ وَطُولِ قَامَتِهِ لأَنِّي قَدْ رَفَضْتُهُ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإنْسَانُ. لأَنَّ الإنْسَانُ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ, وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (1صم17: 7).
وغالبًا ما يكون المكر والحيلة والتملق والمداهنة فخًا نسقط فيه حينما لا نسأل الرب، وهو ما نرى مثالاً واضحًا له فيما ورد في يشوع 9 حينما تصرَّف سكَّان جبعون بغدرٍ، واحتالوا على يشوع وشيوخ الشعب، وتظاهروا بأنَّهم قد أتوا من مكانٍ بعيد طالبين من يشوع والشيوخ أن يقطعوا معهم عهدًا لاستحيائهم، ولقد خُدع يشوع ومن معه من مظهرهم، وشعروا أنَّ الأمر أسهل من أن يرجعوا ويسألوا الرب بشأنه، واعتبروا أنَّ القضيَّة محسومة، وحكموا بحسب مرأى أعينهم، وبحسب سمع آذانهم (قارن يشوع 9: 12-14 مع إشعياء 11: 3)، وهكذا يأتي التعبير الذي يُعتبر تحذيرًا صارخًا لمن يتجاهل أن يسأل الرب، محاولاً أن يدبِّر شئونه بنفسه: «فَأَخَذَ الرِّجَالُ مِنْ زَادِهِمْ، وَمِنْ فَمِ الرَّبِّ لَمْ يَسْأَلُوا» (يش9: 14). نعم ما أخطر هذا، أن نتَّكل على حكمتنا وبديهيَّة الأمور التي حولنا، ونأخذ قرارنا بأنفسنا دون الرجوع للرب. لقد علم يشوع وشيوخ الشعب بعد أن قطعوا معهم عهدًا بثلاثة أيام فقط بأنَّهم قد خُدعوا، وأنهم ساكنون في وسطهم، مِمَّا جعل كل الجماعة تتذمَّر على الرؤساء، غير أنَّهم لم يستطيعوا أن يمسّوهم بأي أذى إذ قد حلفوا لهم باسم الرب. وكم ارتبك يشوع وكل الجماعة عندما اكتشفوا حقيقة الجبعونيين بعد فوات الأوان، ومن تلك اللحظة فصاعدًا احتملوا كثيرًا من هؤلاء الكنعانيين، وكانوا بعد ذلك سبب أحزان للشعب (2صم21).
أيها الأحباء: يجب أن نحترص لأنفسنا لئلا نتخذ قرارات غير حكيمة على أساس معلومات غير كاملة وغير مؤَّكدة. «لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً» (يو7: 24) ... يا لها من عبارة فاه بها سَيِّدنا المعبود، وتستحق منا الالتفات والاهتمام في هذه الأيام! فالرب يُحذّرنا من أن نُصدر أحكامًا سطحية، أو أحكامًا تعسفية عندما لا نمتلك كل الحقائق. والنعمة الإلهية – التي نتكل عليها بكل أمانة واتضاع – هي وحدها التي تُمكننا من أن نظل محتفظين بآرائنا صحيحة سليمة، بالرغم من كل محاولات عدو كل بر من توريطنا وخداعنا.
والكتاب المقدس يحذرنا من طعن الغير في الظهر، واغتياب الآخرين. فما لا نستطيع أن نقوله في مواجهة أي شخص لا يجب أن نقوله في غيابه. وللأسف كم تُنتهك هذه القواعد في هذه الأيام الأخيرة والشريرة!
وتقول كلمة الله: «لا يَقُومُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلى إِنْسَانٍ فِي ذَنْبٍ مَا أَوْ خَطِيَّةٍ مَا مِنْ جَمِيعِ الخَطَايَا التِي يُخْطِئُ بِهَا. عَلى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلى فَمِ ثَلاثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ» (تث17: 6؛ 19: 15؛ إش8: 2؛ مت18: 16؛ 2كو13: 1؛ 1تي5: 19؛ عب10: 28). ولا يُمكننا الاعتماد على الإشاعات المنتشرة أو الاغتياب والنميمة، كل هذه يجب عدم الالتفات إليها مُطلقًا «عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ وَثَلاَثَةٍ تَقُومُ كُلُّ كَلِمَةٍ» (2كو13: 1)، وحتى بعد هذه الشهادة يجب أن الشخص المشكو في حقه، أن يُحاط علمًا بالاتهام الموَّجه ضده، ويجب أن يُعطى الفرصة ليدافع عن نفسه، ويفند ويدحض الاتهامات الموجَّة نحوه. وكما قال واحد: إن الله أعطانا أذنين لنسمع من الطرفين.
(يتبع)
فايز فؤاد