عدد رقم 1 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
حياة جدعون:  

تسلط علينا أنت وابنك!

   وَقَالَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ لِجِدْعُونَ: «تَسَلَّطْ عَلَيْنَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنُ ابْنِكَ، لأَنَّكَ قَدْ خَلَّصْتَنَا مِنْ يَدِ مِدْيَانَ». فَقَالَ لَهُمْ جِدْعُونُ: «لاَ أَتَسَلَّطُ أَنَا عَلَيْكُمْ وَلاَ يَتَسَلَّطُ ابْنِي عَلَيْكُمُ. اَلرَّبُّ يَتَسَلَّطُ عَلَيْكُم» (قضاة8 :22، 23).

   عجيب أمر الإنسان في كل مكان وزمان! إن قصة جدعون ونصرته على المديانيين والتي حدثت في أيام حكم القضاة، أي منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام تتحدث إلينا اليوم فتكشف حقيقة الإنسان؛ كل إنسان، سواء على مستوى تعامل البشر مع قادتهم السياسيين والعسكريين، أو حتى مع قادتهم الدينيين والروحيين. 

   لقد قيل حقًا: إن الشعوب هي التي تصنع الطغاة! وهذا صحيح إلى حد بعيد والتاريخ يؤكده، "يتسلط علينا"! لقد كان جدعون قاضيًا للشعب؛ أي قائدًا له باختيار إلهي.  لكن ما علاقة القيادة بالتسلط؟ ولكم امتلأ التاريخ البعيد والقريب على السواء، في شتى بقاع الدنيا بهذه المأساة.  أن ينجح قائد ما في مهمة ما فيتحد الناس في رغبة عارمة في محاولة منهم أن يتسلط عليهم هذا القائد أو أولاده.  لم يمضِ وقت طويل على طلب الشعب هذا حتى طلبوا لأنفسهم ملكًا بإلحاح غريب، فأرسل إليهم الرب شاول بن قيس (البنياميني)، أعطاهم ملكًا بغضبه وأخذه بغيظه، كان ملكًا حسب طلب قلب الشعب أن يكونوا "مثل سائر الشعوب" التي حولهم!

   ولربما نفهم -بتحفظ طبعًا- إلى حد ما طلبتهم إلى جدعون بأن يتسلط عليهم إذ قد خلصهم من مديان.  ولكن ما لهذا وما لسؤالهم الأعجب والأغرب: "تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك؟؟" فهل الحكم بالتوريث؟ وهنا يظهر أمامنا بوضوح كيف أن توريث القادة والحكام لأعلى المناصب يكون شهوة شعب كما هي رغبة الآباء!! شعب بسطحية بالغة يستسهل طريق الانتصارات (المزعومة طبعًا) في المستقبل المجهول بعملية التوريث هذه! ويقينًا فإنه لا يمكن لحاكم أو قائد أن يفكر- ولو لمجرد التفكير-في مسألة توريث ابنه أو ابن ابنه.  لولا وجود ظهير مؤيد لذلك بين الشعب! والأعجب والأغرب أن الشعوب التي سرعان ما تتبدل مواقفها، قد تقيم بعد ذلك بسنوات " ثورات" ضد نفس هذا التوريث! عجيب حقًا أمر الإنسان!!

   على أن الأمر برمته يتخطى جانب الحكم والسياسة، ألاعيبها ودهاليزها كما يقولون، لنصل إلى ما هو أهم وأخطر: وأعني الدوائر الروحية والدينية التي يتكرر فيها نفس الأمر بكل أسف.

   لاحظ أن جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة ليهربها إلى شعب الله من المديانيين، وكان عمله وراءه بواعث محبة للرب وشعبه بالأساس، كان عملاً روحيًا راقيًا قدره الرب جدًا ووسع تخومه لسببه واستخدمه لخلاص شعبه من المديانيين الذين أذلوهم سبع سنوات كاملة.
  لكن السؤال هنا: من الذي خلص الشعب من المديانيين؟ الإجابة السطحية هي: جدعون، أما الإجابة الحقيقية هي: الرب، وهنا مربط الفرس.  إن الإيمان دائمًا يرى الرب ويُميِّز يده العاملة حتى ولو من وراء الستار، وبالتالي فهو ينسب الأفضال والانتصارات كلها لصاحبها الحقيقي: الرب وليس سواه، أما العيان فهو يعظم الإنسان حتى ولو كان هذا الإنسان مجرد آلة أو أداة، فهي يد الرب ليس إلا، وهذا خطأ الشعب الواضح هنا: "لأنك خلصتنا من مديان" (ع22)، تُرى بأي مقياس يرى الناس قادتهم الدينيين اليوم؛ وحتى في المسيحية بكل أسى وحسرة؟؟ إنها نظرة تتجاوز التوقير والاحترام لتصل إلى حد التأليه والعصمة!! وهي كارثة بكل المقاييس لا يسعى الشيطان لأفضل منها! أن تتحول العبادة إلى الإنسان وأن يحل مقام "القدوس المبارك" حشد من القديسيين بل والملائكة كذلك.  أما على المستوى الروحي الحقيقي بين أولاد الله الحقيقيين، فحدِّث ولا حرج بكل أسف! فعلى الرغم من وجود الإيمان، فإن نظرة العيان واستسهال السير وراء وسطاء حتى ولو كانوا أفاضل وخدام لهي إهانة لمجد الرب، وتحويل عين الإيمان من على المسيح إلى الإنسان، وتحويل عمل الله الحقيقي إلى أنشطة وهوايات لشباب وشابات يدورون في فلك قادة وأسماء ومنظمات! إن مبدأ التسلط في المجال الروحي مرفوض من الأساس.  يقول الرسول المغبوط  بولس لإخوة كورنثوس "ليس أننا نسود (أو نتسلط) على إيمانكم، بل مؤازرون (مؤيدون ومعضدون) لسروركم"، ويتحدث الرسول بطرس إلى الشيوخ رفقائه بصدد خدمتهم الراعوية قائلاً: "لا كمن يسود على الأنصبة (يتسلط) بل صائرين أمثلة للرعية" (1بطرس 5). 

   أيها الخادم الفاضل: احذر لئلا تصنع لنفسك اسمًا أويصنع محبون لك مجدًا هو بالحقيقة شركًا لا شرفًا.

   وأيها الشاب العزيز: احذر أن تتحول وجهتك المباشرة من المسيح إلى الخدام والقادة، إلى هيئات أو جماعات، مهما بلغوا من تقوى أو شهرة أو نجاح في أوساط مختلفة.  إن عمل الله ليس فيه تسلط ويقينًا ليس فيه توريث.

   أيها الأحباء: إن الإيمان والمواهب الروحية والتقوى وسائرالروحيات المقدرة لا تورث ويستحيل أن تورث! لا إلى الابن ولا بالتالي إلى ابن الابن.  صحيح أن الإيمان والتقوى يؤثران على الأجيال المتعاقبة لكن هذا أمر، وتوريث الروحيات أمرٌ مختلف تمامًا. 

   لقد جاء موقف جدعون هنا واضحًا قاطعًا ومشرفًا: "لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط ابني عليكم، الرب يتسلط عليكم" (ع23) وهنا تكشف مرآة الكلمة من جديد حقيقة دوافع الناس وراء تعظيم القادة وتسليطهم عليهم وتوريث السلطة! إنه الهروب المُقنَّع من تسلط الرب المباشر!! وماذا جنت البشرية طيلة نحو ستة آلاف عام وقد رفضت تسلط الله المباشر على الإنسان بشتى الصور والأشكال سوى الخراب والدمار، الخطية ونتائجها المروعة، الفقر والجهل والمرض والموت..إلخ، ولكن عندما تأتي أزمنة رد كل شيء عندما يملك المسيح على العالم سيعرف الناس أن ما اشتهوه وانتظروه طويلاً لم يأت إليهم سوى من خلال المسيح وحُكمه!

   بل ودعنا نقول: وماذا جنت المسيحية من وراء التحول عن المسيح إلى القديسين سوى الوثنية الدينية في أردأ صورها، مما تسبب في إهانة بالغة لمجد
الرب، وضلال الملايين من التابعين؟

   بل وماذا جنينا نحن من وراء الهروب المُقنَّع من سلطان الرب المباشر على حياتنا واجتماعات كنائسنا إلى أفراد وأنظمة وأنشطة سوى الجفاف الروحي والطفولة التي لا تمنح نصرة على عدو ولا تنقل بركة إلى حبيب!

   أحبائي الشباب: ليتنا من باكورة الحياة نسلط الرب إراديًا على حياتنا وبيوتنا واجتماعاتنا، فيتمجد سيدنا ونتبارك نحن، ونصلح لأن نكون بركة لغيرنا في جيلنا عوضًا عن الاستسلام لأيام القضاة المتكررة في أيامنا، حيث لا يُسلَّط الرب، وحيث "لم يكن ملك في إسرائيل"، و"كل واحد عمل ما حسن في عينيه". 
                                                                                                  

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com