عدد رقم 6 لسنة 2013
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
وليمة تقدير الرب وإكرامه  


تكلمنا في المرة السابقة عن وليمة الصفح والمسامحة التي عملها أليشع لجنود ملك أرام، وسنتكلم بنعمة الرب عن وليمة سليمان لعبيده: «وجاء إلى أورشليم ووقف أمام تابوت عهد الرب، وأصعد محرقات وقرَّب ذبائح سلامة، وعمل وليمة لكل عبيده» (1مل3: 15).

يتزاحم أمامنا أكثر من سؤال: ما الذي دعا سليمان أن يعمل وليمة؟ هل لمجرَّد أنه أصعد ذبائح لله؟ فلقد سبق وأصعد في جبعون ألف محرقة، ولم نقرأ أنه عمل وليمة (1مل3: 4)! ثم ما الذي جعله من الأصل يهتم بأن يذهب إلى أورشليم ليُصعد ذبائح وهو سبق وأصعد كما ذكرنا العديد منها في جبعون؟ كي نفهم الأمر جيدًا دعونا نرجع بالتاريخ إلى أيام صموئيل حيث نقرأ عن حادثة بل مأساة أنشأت وضعًا غريبًا لم يحدث في كل تاريخ الشعب.

عندما انهزم الشعب أمام الفلسطينيين، اقترحوا أن يعودوا ليحاربوا الفلسطينيين ويأخذوا معهم ”تابوت الرب“ (1صم4: 3)!! وهنا كانت الطامة الكبرى أن يخرج التابوت من مكانه دون أمر صريح من الرب، ودعنا ندرك أن التابوت كان أكثر من مجرد أحد الرموز للرب، إذ كان يُمثِّل حضوره الإلهي، ولذلك قيل عنه: ”تابوت عهد رب الجنود الجالس على الكروبيم“ (1صم4:4؛1أخ13: 6)، بل نجد موسى يخاطب التابوت باعتباره الرب نفسه (عد10: 35)، وبكل أسف خرج التابوت من مكانه في خيمة الاجتماع، ولم يعد إليها ثانية! لقد انهزموا في الحرب، وسُبي تابوت الرب إلى أرض الفلسطينيين، ثم عاد مرة ثانية، إلا أنه لم يعد إلى خيمة الاجتماع التي كانت آنذاك في شيلوه، بل عاد إلى ”بيت شمس“ (1صم6: 13)، ومن هناك أصعدوه إلى ”قرية يعاريم“، (1صم7: 1، 2)، ثم أصعده داود إلى ”أورشليم“ ونصب له خيمة خاصة هناك (1أخ13: 6؛ 16: 1).  أي أن من لحظة خروج التابوت أيام صموئيل من خيمة الاجتماع لم يرجع إليها مرة ثانية. بل نقرأ صراحة أن الرب رفض خيمة الاجتماع: «رفض مسكن شيلو الخيمة التي نصبها بين الناس، وسلَّم للسبي عزه وجلاله (التابوت) ليد العدو» (مز78: 60)، اقرأ أيضًا إرميا 7: 12. 

وهنا نشأ وضع غريب، فهناك خيمة الاجتماع والتي نُقلت وأصبحت بعد ذلك في جبعون (1أخ21: 29) قائمة تُمارس فيها العبادة، فالذبائح تُقدَّم على مذبح النحاس (1أخ16: 39، 40)، وخبز الوجوه موضوع على المائدة، ومذبح البخور يتصاعد منه البخور العطر، والمنارة تنير القدس، كما أن هناك اللاويين ينشدون ويسبحون كلٌّ بحسب فرقته (1أخ16: 41). وهناك تابوت الرب في أورشليم له خيمة خاصة به، ويوجد أيضًا كهنة ولاويون يخدمون أمامه، يقربون ذبائح، ويسبحون الرب (1أخ16: 1-7، 37، 38)!! وهنا يأتي السؤال الملح: أيهما المكان الصحيح؟ وأين ينبغي أن يذهب الشعب بذبائحه؟ هل في أورشليم حيث التابوت؟  أم في جبعون حيث خيمة الاجتماع؟؟

والإجابة نجدها فيما أعلنه الرب لداود في أورشليم في بيدر ”أرنان اليبوسي“ (راجع 2أخ3: 1)، عندما أخطأ وعدَّ الشعب، فأوقع الرب وبأ على الشعب، ولقد أراد داود أن يذهب ليسأل الرب أمام المذبح الذي في جبعون، لكنه خاف من جهة سيف ملاك الرب (1أخ21: 30).  وبينما داود في حيرته «كَلَّمَ مَلاَكُ الرَّبِّ جَادَ أَنْ يَقُولَ لِدَاوُدَ أَنْ يَصْعَدَ دَاوُدُ لِيُقِيمَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ. فَصَعِدَ دَاوُدُ حَسَبَ كَلاَمِ جَادَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ بِاسْمِ الرَّبِّ» (1أخ21: 18، 19).

وهنا قَصَد الرب أن يحوِّل أنظار عبده عن المذبح الذي في الخيمة التي في جبعون، والتي كان قد سبق ورفضها ويُعلن له قصده في بناء بيت جديد له في أورشليم بعدما استقر التابوت هناك في الخيمة التي نصبها داود له، «وَبَنَى دَاوُدُ هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ، وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ، وَدَعَا الرَّبَّ فَأَجَابَهُ بِنَارٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى مَذْبَحِ الْمُحْرَقَةِ» (1أخ26:21)، ولقد أعلن الرب رضاه على هذا المذبح عندما استجاب بنار، وهذا ما أدركه داود جيدًا: «فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمَّا رَأَى دَاوُدُ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَجَابَهُ فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ ذَبَحَ هُنَاكَ» (ع28).

 وما أعجب العبارة التي تَرِد بعد ذلك، فهي بحسب الظاهر ليست لها دخل بموضوعنا: «وَمَسْكَنُ الرَّبِّ الَّذِي عَمِلَهُ مُوسَى فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَذْبَحُ الْمُحْرَقَةِ كَانَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْمُرْتَفَعَةِ فِي جِبْعُونَ» (ع29).  فأراد الرب أن يُوضِّح أنه بالرغم من وجود خيمة الاجتماع في جبعون، وبالرغم من وجود مذبح المُحرقة هناك، إلا أنه لم يطلب من داود أن يذهب إلى هناك ليُصعد المُحرقة، فكما ذكرنا لم تعد الخيمة هي المكان الذي يرضى عنه الرب، وهذا ما صار واضحًا وجليًّا أمام داود، من أجل ذلك نسمعه يقول عن هذا المكان الجديد حيث بنى مذبح واستجاب الرب بنار: «هَذَا هُوَ بَيْتُ الرَّبِّ الإِلَهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْبَحُ الْمُحْرَقَةِ لإِسْرَائِيلَ» (1أخ22: 1).

فما أعجب هذا التصريح الخطير!  فمِن تلك اللحظة أدرك داود أنَّ الرب مزمع أن يُؤسِّس لنفسه بيتًا مرَّة أخرى على الأرض، وقد اختار هذا الموضع لبناء البيت الجديد، فأصبح هذا المكان هو الموضع الجديد لبيت الرب، وليست خيمة الاجتماع التي في جبعون، كما أصبح هذا المذبح هو مذبح المحرقة وليس مذبح المحرقة الذي في جبعون!! 

ومن هذا المنطلق الجديد دعونا نُلقي نظرة على وضع سليمان من جهة هذا الأمر: «وَأَحَبَّ سُلَيْمَانُ الرَّبَّ سَائِرًا فِي فَرَائِضِ دَاوُدَ أَبِيهِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيُوقِدُ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ. وَذَهَبَ الْمَلِكُ إِلَى جِبْعُونَ لِيَذْبَحَ هُنَاكَ، لأَنَّهَا هِيَ الْمُرْتَفَعَةُ الْعُظْمَى. وَأَصْعَدَ سُلَيْمَانُ أَلْفَ مُحْرَقَةٍ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْبَحِ» (1مل3: 3،4).

وهنا نرى شهادة الروح القدس عن سليمان بأنه أحب الرب سائرًا في فرائض داود أبيه، إلا أنه كان يذبح ويوقد على المرتفعات، وهذا يُحسب الآن تقصيرًا منه، طالما أعلن الرب عن المكان الصحيح لداود أبيه، وكما قرأنا جملة اعتراضية في حادثة داود عند بيدر أرنان اليبوسي، بخصوص خيمة الاجتماع ومذبح المحرقة اللذين في جبعون، نقرأ هنا أيضًا جملة اعتراضية عن التابوت: «وَأَمَّا تَابُوتُ اللهِ فَأَصْعَدَهُ دَاوُدُ مِنْ قَرْيَةِ يَعَارِيمَ عِنْدَمَا هَيَّأَ لَهُ دَاوُدُ، لأَنَّهُ نَصَبَ لَهُ خَيْمَةً فِي أُورُشَلِيمَ» (2أخ1: 4). وكأن الرب يُقارن بين وضع الخيمة في جبعون ووضع التابوت في أورشليم، وكيف تجاهل سليمان التابوت وذهب إلى المرتفعة في جبعون حيث الخيمة، وإن كان الرب في نعمته قَبِل المحرقات التي أصعدها سليمان وظهر له وأعطاه ”قلبًا حكيمًا ومميزًا“ (1مل3: 12)، لكن ما أعجب ما فعله بعدما استنار ذهنه، أو بتعبير لوقا في إنجيله ”فتح الرب ذهنه“: «وَجَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَقَفَ أَمَامَ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ وَقَرَّبَ ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ وَعَمِلَ وَلِيمَةً لِكُلِّ عَبِيدِهِ» (1مل3: 15).

فما أعظم هذا .. لقد أدرك سليمان خطأه عندما أهمل تابوت الرب وذهب إلى جبعون ليُقدِّم محرقات هناك، ولقد اعتبر أنَّ كل ما قدَّمه (ألف محرقة)، ما كان ليُشبع ويُرضي قلب الله، مِمَّا جعله يعود ويُقدِّم من جديد محرقات أمام التابوت، وطالما أخذ مكانه الصحيح حسب فكر الرب فلا بد أن تظهر البركة ويعم الفرح كل الشعب، إذ صنع وليمة لكل عبيده مُتشبِّهًا بما فعله أبوه عندما أدخل التابوت إلى أورشليم (1أخ16: 3) وإن كان بصورة أعظم. 

نستخلص من كل هذا أن قيمة اجتماعاتنا ليس بكثرة الأنشطة فيها مهما تعددت وتنوعت، وليس بكثرة عدد الحاضرين، وإن كان هذا في حد ذاته أمرًا جيدًا، إنما بحضور الرب نفسه.  قد يوجد اجتماعات يُكرز فيها بصليب المسيح (مذبح النحاس)، وتُقدَّم فيها كلمة الله (مائدة خبز الوجوه)، ويتصاعد منها الصلوات والتسبيحات (مذبح البخور)، وهناك شهادة تُعبِّر عن حياة مسيحية (المنارة)، ولكن لا نجد سلطان الرب يُمارس، ولا نلمس هيبة حضوره (التابوت)!! تمامًا كما كان الوضع أيام داود حينما كان التابوت في خيمة خاصة له في أورشليم وخيمة الاجتماع في جبعون، إذ نقرأ: «وصادوق الكاهن وإخوته الكهنة أمام مسكن الرب في المرتفعة التي في جبعون، ليُصعدوا محرقات للرب على مذبح المحرقة دائمًا صباحًا ومساءً، وحسب كل ما هو مكتوب في شريعة الرب التي أمر بها إسرائيل ... ليحمدوا الرب لأن إلى الأبد رحمته» (1أخ16: 39-41). إنهم يمارسون العبادة للرب وليس لسواه وهذا حسن، ويمارسونها كما هو مكتوب في شريعة الرب وهذا جيد، ويتغنوا بالرب ومراحمه وهذا رائع، لكن أ لم يدركوا أن قدس الأقداس فارغ؟! والتابوت لا وجود له! الشكينة ”مجد حضور الله“ قد فارق الخيمة، أعظم أعيادهم ”يوم الكفارة“ لا يستطيعون أن يعيدوه، فأين يضعون دم الكفارة والتابوت غير موجود (لا16: 14، 15)!! فما قيمة كل هذا؟ إنهم لم يدركوا ما أدركته امرأة فينحاس عندما سمعت بخبر أخذ تابوت الرب إذ دعت ابنها ”إيخابود“ قائلة: «قد زال المجد من إسرائيل لأن تابوت الله قد أُخذ» (1صم4: 21)!! 

كم هو جد خطير أن يكون جل اهتمامنا ما نمارسه من خدمات وأنشطة روحية، متجاهلين حق الرب وسلطانه. والذي أعلن صراحة: «حيثما اجتمع اثنين أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم»، إنه إعلان إلهي ثمين، علينا من جهة ألا نتجاهله ونهمله، ومن جهة أخرى لا نتعامل معه كمجرَّد شعار نرفعه ونتباهى به، بل ليكن حقًا غاليًا ثمينًا نحرص عليه. دعونا نُقدر اجتماعنا إلى اسمه، فيكون هو الرأس والمركز والقائد الفعلي لكل أجزاء عبادتنا، عندئذ سنختبر رضى الرب وبركاته.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com