عدد رقم 6 لسنة 2013
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أَبْشَالُوم والثورة ... ودروس هامة  


(2صم15-18)


المشهد السادس: قليلاً عن قمة جبل الزيتون


(2صم16: 1-4)


«وَلَمَّا عَبَرَ دَاوُدُ قَلِيلاً عَنِ الْقِمَّةِ إِذَا بِصِيبَا غُلاَمِ مَفِيبُوشَثَ قَدْ لَقِيَهُ بِحِمَارَيْنِ مَشْدُودَيْنِ، عَلَيْهِمَا مِئَتَا رَغِيفِ خُبْزٍ وَمِئَةُ عُنْقُودِ زَبِيبٍ وَمِئَةُ قُرْصِ تِينٍ وَزِقُّ خَمْرٍ.  فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: مَا لَكَ وَهَذِهِ؟ فَقَالَ صِيبَا: اَلْحِمَارَانِ لِبَيْتِ الْمَلِكِ لِلرُّكُوبِ، وَالْخُبْزُ وَالتِّينُ لِلْغِلْمَانِ لِيَأْكُلُوا، وَالْخَمْرُ لِيَشْرَبَهُ مَنْ أَعْيَا فِي الْبَرِّيَّةِ.  فَقَالَ الْمَلِكُ: وَأَيْنَ ابْنُ سَيِّدِكَ؟ فَقَالَ صِيبَا لِلْمَلِكِ: هُوَذَا هُوَ مُقِيمٌ فِي أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ يَرُدُّ لِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ مَمْلَكَةَ أَبِي.  فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: هُوَذَا لَكَ كُلُّ مَا لِمَفِيبُوشَثَ.  فَقَالَ صِيبَا: سَجَدْتُ! لَيْتَنِي أَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ» (2صم16: 1-4).


كان ”حُوشَاي الأَرْكِيّ“ هو استجابة الرب لصلاة داود: «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ» (2صم15: 31)، ولكن الخصم – من الجانب الآخر – أرسل ”صِيبَا“ ليتسبب في مشكلة ظلت مُعلَّقة حتى رجوع داود إلى عرشه!  فما أن عبر داود وابتعد قليلاً عن قمة جبل الزيتون، حتى لقيه ”صِيبَا“ الذي كان أحد عبيد بيت شاول الملك، أو بالحري أحد القائمين على بيته، والذي نتقابل معه للمرة الأولى عندما استدعوه لمقابلة داود الملك، الذي سأله: «أَ لاَ يُوجَدُ بَعْدُ أَحَدٌ لِبَيْتِ شَاوُلَ فَأَصْنَعَ مَعَهُ إِحْسَانَ اللهِ؟»، وذلك لكي يفي داود بوعده وعهده مع يوناثان حبيبه (2صم9: 1-3؛ 1صم20: 14، 42).  فأخبره ”صِيبَا“ عن مفيبوشث ابن يوناثان، «وَكَانَ أَعْرَجَ مِنْ رِجْلَيْهِ كِلْتَيْهِمَا»، فأرسل الملك وأخذ مفيبوشث من بيت ”مَاكِيرَ بْنِ عَمِّيئِيلَ“ الذي كان في ”لُودَبَارَ“ في شرقي الأردن، وردَّ له كل حقول شاول أبيه.  وأمر داود ”صِيبَا“ أن يشتغل له في الأرض – كما كان يفعل أيام شاول الملك - هو وبنوه وعبيده؛ «لِيَكُونَ لاِبْنِ سَيِّدِكَ خُبْزٌ لِيَأْكُلَ (أو ليكون لبيت ابن سَيِّدك خُبزٌ ليأكل – بحسب الترجمة السبعينية)»، لأن مفيبوشث نفسه كان يأكلُ دَائِمًا خُبْزًا عَلَى مَائِدَةِ الْمَلِكِ (2صم9: 7، 13)،  «وَكَانَ لِصِيبَا خَمْسَةَ عَشَرَ ابْنًا وَعِشْرُونَ عَبْدًا» (2صم9: 10).


وعندما قام أبشالوم بثورته على أبيه، واضطر داود لمغادرة أورشليم، ها نحن نتقابل مع ”صِيبَا“ مرة ثانية.  لقد خرج في خبث ودهاء شديدين ليُقابل داود الهارب، وأخذ «حِمَارَيْنِ مَشْدُودَيْنِ ... لِبَيْتِ الْمَلِكِ لِلرُّكُوبِ»، و«عَلَيْهِمَا مِئَتَا رَغِيفِ خُبْزٍ وَمِئَةُ عُنْقُودِ زَبِيبٍ وَمِئَةُ قُرْصِ تِينٍ... لِلْغِلْمَانِ لِيَأْكُلُوا، و«وَزِقُّ خَمْرٍ ... لِيَشْرَبَهُ مَنْ أَعْيَا فِي الْبَرِّيَّةِ»، مُحاولاً بشتى الحيل أن ينال الحظوة والقبول لدى الملك، قبل أن يزحف - بمكر شيطاني - إلى قلب داود بأن يتهم مفيبوشث زورًا وبهتانًا، ويشي به؛ فعندما سأله الملك عن مفيبوشث، قال ”صِيبَا“ – كاذبًا ومخادعًا – للملك: «هُوَذَا هُوَ مُقِيمٌ فِي أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ يَرُدُّ لِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ مَمْلَكَةَ أَبِي».  وكانت هذه كذبة من ”صِيبَا“ الذي أراد أن يضع مفيبوشث في صورة سيئة، كيما تُتاح له الفرصة ليأخذ شيئًا من ممتلكات مفيبوشث.

وبالرغم من أن داود كان متشككًا من جهة غياب ”مَفِيبُوشَث“ وحضور ”صِيبَا“ وهديته أحضرها، وهو ما يظهر من سؤاله عن الهدية: «مَا لَكَ وَهَذِهِ؟»، لكنه لم يفحص الحقائق، وصدق ”صِيبَا“ معتمدًا على أقواله، وتسرَّع وأعطى كل ممتلكات مفيبوشث لهذا العبد (2صم16: 1-4).

وإنه أمر غريب يدعو للأسف أن نرى داود يُصدق أكاذيب ”صِيبَا“! فكيف يستطيع إنسان عاجز مقعد أن يطمع في الوصول إلى المُلك؟! لقد خُدع مفيبوشث وهو لا يملك أن يفعل شيئًا (2صم19: 26)، وداود تسرع وصدق القصة المُختلقة التي رواها ”صِيبَا“، الذي لم يلتصق بداود ولم يُصاحبه ليُشاركه في رفضه وتغربه!  لقد اكتفى بتقديم الهدية فقط، وعاد ليهتم بأحوال الأرض!

ونرى في تصرف ”صِيبَا“ أن ليس كل مَن يخدمون دوافعهم خالصة، فكثيرون يخدمون بدوافع شريرة.  ولأن داود إنسان، فقد خُدع في ”صِيبَا“، ولكن ربنا يسوع المسيح يعرف الدوافع، «لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهٌ عَلِيمٌ، وَبِهِ تُوزَنُ الأَعْمَالُ» (1صم2: 3).

وقبل أن أسترسل في حديثي أود أن أذكر ملاحظة عن إلهنا الصالح وأعمال عنايته الإلهية؛ صحيح أن ”صِيبَا“ كان انتهازيًا ذا دوافع شريرة، ولكن كانت الهدية التي أحضرها هي وسيلة لسداد احتياجات داود ومن معه، في هذا الوقت.  أَولا يستطيع الرب – في مطلق سلطانه – أن يستخدم حتى الغربان لإعالة المؤمنين به (قارن من فضلك 1ملوك17: 1-7)!     

وفيما بعد اكتشف داود أنه كان قد خُدع من ”صِيبَا“، فبعد مقتل أبشالوم والقضاء على ثورته، شرع داود في العودة من محنايم إلى أورشليم، وفي أثناء الطريق جاء «صِيبَا غُلاَمُ[1] بَيْتِ شَاوُلَ وَبَنُوهُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَعَبِيدُهُ الْعِشْرُونَ مَعَهُ، فَخَاضُوا الأُرْدُنَّ أَمَامَ الْمَلِكِ»، في قارب استخدموه «لِتَعْبِيرِ بَيْتِ الْمَلِكِ»، وفي محاولة «لِعَمَلِ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ» (2صم19: 17، 18).  ونزل مفيبوشث - وعليه علامات الحزن - «لِلِقَاءِ الْمَلِكِ»، ولما سأله داود عن عدم ذهابه معه، قال: «يَا سَيِّدِي الْمَلِكُ إِنَّ عَبْدِي قَدْ خَدَعَنِي، لأَنَّ عَبْدَكَ قَالَ: أَشُدُّ لِنَفْسِيَ الْحِمَارَ فَأَرْكَبُ عَلَيْهِ وَأَذْهَبُ مَعَ الْمَلِكِ (أو قلت له (لصيبا): شُدَّ لي الحمار – بحسب الترجمة السبعينية)، لأَنَّ عَبْدَكَ أَعْرَجُ.  وَوَشَى بِعَبْدِكَ إِلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ» (2صم19: 25-27).

ولقد تبرهن أن مفيبوشث رفض أن ينضم لجانب أبشالوم، وظل أمينًا لداود «وَنَزَلَ ... لِلِقَاءِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَعْتَنِ بِرِجْلَيْهِ، وَلاَ اعْتَنَى بِلِحْيَتِهِ، وَلاَ غَسَلَ ثِيَابَهُ، مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ الْمَلِكُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي أَتَى فِيهِ بِسَلاَمٍ» (2صم19: 24)؛ لقد ظل صائمًا ومصليًا من أجل سَيِّده وملكه طوال غيابه ورفضه.

وعندما قال داود لمفيبوشث وصِيبَا أن يقتسما الحقل، جاء جواب مفيبوشث في منتهى الإخلاص والنبل: «فَلْيَأْخُذِ الْكُلَّ أَيْضًا بَعْدَ أَنْ جَاءَ سَيِّدِي الْمَلِكُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِهِ» (2صم19: 30).  وهذا يُبرهن فرحة مفيبوشث الكبيرة برجوع الملك بسلام واستعادته للعرش.

والمشهد مليء بالدروس الأدبية النافعة:

الدرس الأول: حذار من الانحدار:

في صموئيل 15: 32 وصل داود إلى قمة جبل الزيتون.  وفي الحقيقة إنه لم يكن فقط جغرافيًا على قمة جبل الزيتون، ولكنه كان روحيًا في القمة أيضًا، حيث سجد لله، مترنمًا ببعض ترنيماته ومزاميره، ومتمتعًا بالشركة مع الله.  ولكن الوصول إلى القمة شيء، والاحتفاظ بهذه القمة شيء آخر.  والمؤمن يظل في أمان طالما هو في مناخ الشركة الواعية مع الرب، ولكن هجر مكان الشركة، والابتعاد عن محضر الرب، والسير وراء الجسد بميوله ورغباته، يحمل أكبر الخطر على حياة المؤمن الروحية.  والشيطان دائمًا يُشدد الهجوم ضد المؤمن لكي يجعله يرتحل عن القمة الروحية، ويهمل شركته مع الرب، ويتكل على الجسد.  وهذه هي بداية الانحدار «إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (1كو10: 12).

وفي نهاية الأصحاح الخامس عشر نلمح بداية ارتحال داود عن القمة.  والارتحال عادة يؤدي إلى الانحدار.  فنحن نجد داود يتَّكل على الحكمة البشرية، ويلجأ إلى الأساليب الجسدية، والحيل الإنسانية، فيُشير على ”حُوشَايَ الأَرْكِيِّ“، وعلى صادوق وأبياثار الكاهنين، أن يلجأوا إلى المواربة والخداع والتظاهر بأنهم عبيد أمناء لأبشالوم، بينما هم في الحقيقة جواسيس لداود!

وفي هذا كان داود الملك – في الحقيقة – يتصرف بطاقة الجسد، باحثًا بأفكاره البشرية الذاتية عن طريقة يُبطل بها مشورة أخيتوفل، بدلاً من ترك الأمر برمته بين يدي الرب، ليستجيب صلاته التي رفعها: «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ» (2صم15: 31).

ولعل تحوّل داود عن القمة الروحية، ولجوئه إلى المواربة والخداع والأساليب الجسدية، هو ما يُفسر لنا تصديقه أكاذيب صِيبَا، وتسرعه في حكمه المتعجّل على مفيبوشث؛ فالإنسان الروحي – وليس الجسدي – هو الذي يحكم حكمًا صحيحًا «الرُّوحِيُّ ... يَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ لاَ يُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ» (1كو2: 15).  هنا مربض الفرس – أيها الأحباء – فلأننا لسنا روحيين، فإننا نحكم - حسب الظاهر – حكمًا ليس صحيحًا.

ليتنا نُدرب أنفسنا على الوجود الدائم في محضر الرب، والتمتع بالشركة الدائمة الغير منقطعة مع سَيِّدنا المجيد، ونتعود الاتكال الكامل على الله ملجأنا، ونثق فيه وحده الثقة المطلقة، فلا نتكل على الجسد، ولا على الحكمة البشرية، ولا نتكل على الرب بنصف القلب، وعلى خططنا بالنصف الآخر (قارن من فضلك يعقوب في تكوين 32، 33).


عزيزي المؤمن:

«تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ.  فِي كُلِّ طُرُقِكَ اعْرِفْهُ، وَهُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ.  لاَ تَكُنْ حَكِيمًا فِي عَيْنَيْ نَفْسِكَ» (أم3: 5، 6)، «وَتَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ.  سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي، وَيُخْرِجُ مِثْلَ النُّورِ بِرَّكَ، وَحَقَّكَ مِثْلَ الظَّهِيرَةِ» (مز37: 4-6).


                                                                              (يتبع)                                                                  


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com