عدد رقم 3 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أَبْشَالُوم والثورة ... ودروس هامة (2صم15-18)  
المشهد الثامن: في أورشليم مرة أخرى
(2صم16: 15-17: 23)


في هذا المشهد نرى عجلة التدبيرات الإلهية تدور، وفي دورانها تأتي بأبشالوم إلى أعلى قمة النجاح والقوة، وتنزل بداود إلى القاع.  لكنها تستمر أيضًا في الدوران، ويبدأ داود – بالنعمة المُطلقة - في الارتفاع مرة أخرى، وأبشالوم في الانخفاض حيث لا يعود يقوم من الدينونة التي يستحقها.  وحقًا «الرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي.  يُهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَيُصْعِدُ.  الرَّبُّ يُفْقِرُ وَيُغْنِي.  يَضَعُ وَيَرْفَعُ.  يُقِيمُ الْمِسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ ... وَيُعْطِي عِزّاً لِمَلِكِهِ، وَيَرْفَعُ قَرْنَ مَسِيحِهِ» (1صم2: 1-10).

أطاع ”حُوشَاي الأَرْكِيّ“ داود، وعاد إلى أورشليم في نفس التوقيت الذي دخل فيه أبشالوم إلى المدينة، بدون أية مقاومة (2صم15: 37؛ 16: 15).  ونجح حُوشَاي بسرعة في اكتساب ثقة أبشالوم، وبدأ بتملقه قائلاً: «لِيَحْيَ الْمَلِكُ! لِيَحْيَ الْمَلِكُ!».  ولما قال له أبشالوم: «لِمَاذَا لَمْ تَذْهَبْ مَعَ صَاحِبِكَ؟»، أجابه حُوشَايُ: «الَّذِي اخْتَارَهُ الرَّبُّ وَهَذَا الشَّعْبُ وَكُلُّ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ فَلَهُ أَكُونُ وَمَعَهُ أُقِيمُ».  وهذه الكلمات لا تنطبق إلا على داود.  فكان حُوشَايُ يقصد داود في قلبه، لكنه أراد أن يتملق أبشالوم الشرير الذي قَبِلَ كلمات الملق بسرور.  وكانت هذه أول خطوة في استجابة الرب لصلاة داود: «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ».

وهذا المشهد في أورشليم مليء بالدروس الأدبية النافعة:
أولاً: «اَلْغِشُّ فِي قَلْبِ الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ فِي الشَّرِّ، أَمَّا الْمُشِيرُونَ بِالسَّلاَمِ فَلَهُمْ فَرَحٌ ... الصِّدِّيقُ يَهْدِي صَاحِبَهُ، أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَتُضِلُّهُمْ» (أم12: 20، 26)، والأشرار يشيرون على بعضهم «بِفِعْلِ الشَّرِّ» (2أخ22: 3؛ 2صم13: 1-5؛ 16: 20-22).

ففي البداية أشار أخيتوفل على أبشالوم أن يفعل أمرًا بغيضًا قائلاً: «ادْخُلْ إِلَى سَرَارِيِّ أَبِيكَ اللَّوَاتِي تَرَكَهُنَّ لِحِفْظِ الْبَيْتِ، فَيَسْمَعَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ أَنَّكَ قَدْ صِرْتَ مَكْرُوهًا مِنْ أَبِيكَ، فَتَتَشَدَّدَ أَيْدِي جَمِيعِ الَّذِينَ مَعَكَ».  فهذه الفعلة سوف تكون إعلانًا وقحًا بأن كل ما يملكه داود أصبح ينتمي الآن لأبشالوم، وإظهارًا لكل إسرائيل أن الفجوة بينه وبين أبيه ما عادت تُعبر، ولم يعد ثمة أمل في إصلاحها، وذلك ليُقوي قلبهم على التمرد على مسيح الرب (قارن من فضلك تك35: 22؛ 49: 4؛ 1مل2: 13-25). 

ولكن هذا في الوقت نفسه كان جزءًا من تأديب الله الذي نطق به ناثان النبي: «آخُذُ نِسَاءَكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقَرِيبِكَ، فَيَضْطَجِعُ مَعَ نِسَائِكَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الشَّمْسِ.  لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هَذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ» (2صم12: 11).  وهذا ما تم بالحرف عندما ترك داود عشر نساء سراري لحفظ البيت «فَنَصَبُوا لأَبْشَالُومَ الْخَيْمَةَ عَلَى السَّطْحِ، وَدَخَلَ أَبْشَالُومُ إِلَى سَرَارِيِّ أَبِيهِ أَمَامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ» (2صم16: 22).

ثانيًا: «لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ.  بَقِيَّةُ الْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا (بقية الغضب تحجزها)» (مز76: 10).  والله الذي يجعل غضب الإنسان يَحْمَدُهُ، سمح – طبقًا لمتطلبات حكومته - بتنفيذ مشورة أخيتوفل بخصوص سراري داود، لإتمام الكلام الذي قاله ناثان النبي، وأما الآن فقد حجز – بالنعمة - بقية الغضب، ولم يسمح بإتمام مشورة أخيتوفل بخصوص توقيت الهجوم على داود، وفي كيفية تنفيذ هذا الهجوم.  فقد أعطى مشيري أبشالوم، أخيتوفل وحوشاي، مشورة متضاربة.  فكانت مشورة أخيتوفل: «دَعْنِي أَنْتَخِبُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَأَقُومُ وَأَسْعَى وَرَاءَ دَاوُدَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَآتِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتْعَبٌ وَمُرْتَخِي الْيَدَيْنِ فَأُزْعِجُهُ، فَيَهْرُبَ كُلُّ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ، وَأَضْرِبُ الْمَلِكَ وَحْدَهُ.  وَأَرُدُّ جَمِيعَ الشَّعْبِ إِلَيْكَ» (2صم17: 1-3؛ قارن 2صم16: 14).  فإذا تم القضاء على داود، سوف تنتهي الثورة فورًا، ويُصبح أبشالوم ملكًا.  وقوبل اقتراح أخيتوفل الدموي بقتل مسيح الرب بالاستحسان من أبشالوم ومن كل شيوخ إسرائيل (2صم17: 4).  ولكن أخيتوفل لم يحسب حسابًا للرب الذي يحب داود.

عندما أخبر أبشالوم حُوشَاي بمشورة أخيتوفل، أفاد حُوشَاي أن أمر قتل داود ليس بالمهمة السهلة كما افترض أخيتوفل، لأن داود كان محاربًا جبارًا محاطًا برجال ذوي بأس، وأكمل حُوشَاي كلامه بأن داود لا بد أن يكون مختبئًا في مثل ذلك الوقت، فهو خبير في الهرب، وقال: «لِذَلِكَ أُشِيرُ بِأَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْكَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ ... وَحَضْرَتُكَ سَائِرٌ فِي الْوَسَطِ» (2صم17: 11).  فالاثنى عشر ألف رجلاً الذي تكلَّم عنهم أخيتوفل لن يكونوا كُفَاةً في مواجهة داود ورجاله.  فعلى أبشالوم أن يحشد كل رجال إسرائيل لكي يهزم أبيه بقوة الكثرة العددية. 

إن مشورة أخيتوفل لو تَمَّت لكان من شأنها القضاء على داود، ولذلك فعندما أشار حُوشَاي على أبشالوم بحشد هذه القوة الغفيرة، كان الهدف هو كسب الوقت.  فكلما تأخَّر أبشالوم في المواجهة، كلما تحقق هدف حُوشَاي الحقيقي بصورة أفضل، وهو أن يمنح داود وقتًا لكي يجهز صفوفه، ويختار أنسب الأماكن للقتال.  وهذا كان عكس تمامًا خطة أخيتوفل: «أَقُومُ وَأَسْعَى وَرَاءَ دَاوُدَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ».  هذا بالإضافة إلى أن حُوشَاي اقترح على أبشالوم أن يذهب بنفسه للحرب «وَحَضْرَتُكَ سَائِرٌ فِي الْوَسَطِ»، ويبدو أن هذا أثار زهو وغرور وكبرياء أبشالوم.  وهذا ما أدى إلى مقتل أبشالوم في النهاية.  فلو كان أبشالوم استمع لمشورة أخيتوفل، لَمَا ذهب إلى الحرب، وكان سيبقى آمنًا في أورشليم.  ولكن بقبوله مشورة حوشاي بالذهاب بنفسه للحرب، فإنه ذهب لموته.

ثالثًا: «قَلْبُ الْمَلِكِ (بل ومغتصب المُلك أيضًا) فِي يَدِ الرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ، حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ» (أم21: 1):
فليس حُوشَاي هو الذي استطاع إبطال مشورة أخيتوفل، بل هو الرب «فَإِنَّ الرَّبَّ أَمَرَ بِإِبْطَالِ مَشُورَةِ أَخِيتُوفَلَ الصَّالِحَةِ، لِيُنْزِلَ الرَّبُّ الشَّرَّ بِأَبْشَالُومَ» (2صم17: 14).  فالرب هو الذي أعطى حُوشَاي المشورة، وهو الذي أقنع أبشالوم بها.  فأنقذ الملك من خلال مؤامرة حُوشَاي الذي تصرف كجاسوس لصالح داود.  والله كلي السلطان «يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ» (أف1: 11).  فـإن «الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ» (دا4: 17).  حسنًا أن نعرف أن الله دائمًا يتدخل لأجل حماية وخير شعبه.  فالله استخدم مشورة حوشاي في إنقاذ داود. 

رابعًا: «حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا» (مت6: 21): «كَانَتْ مَشُورَةُ أَخِيتُوفَلَ الَّتِي كَانَ يُشِيرُ بِهَا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ كَمَنْ يَسْأَلُ بِكَلاَمِ اللهِ» (2صم16: 23)، لكن الرب قرر أن يقهره ويُحطمه.  لذلك رفض أبشالوم مشورته وأهمل كلمته.  ونظرًا لأن شُهرته بالحكمة كانت هي كنزه الثمين، بل كل شيء بالنسبة له، لذا فهو يسقط الآن من عليائه شخصًا مدنسًا مهانًا ومُحطمًا.  فبمجرد أن رأى مشورته تُحتقر، وعدم قدرته على تنفيذ رغبته بقتل الملك، ذهب وخنق نفسه، ليذكرنا بيهوذا الإسخريوطي الذي شنق نفسه بدوره؛ فليس فقط أن كليهما خان الصديق والسَيِّد؛ بل أيضًا كلاهما مات منتحرًا، وماتا بسرعة فائقة، وكلاهما شنق نفسه!

أيها الأحباء:
هل هناك شيء في حياتنا إذا مُسَّ فإن حياتنا تُمسّ معه، أم أن حياتنا هكذا مرتبطة بالمسيح حتى أننا نستطيع أن نحتمل خسارة كل شيء بجانبه؟  ما هي الكنوز التي ندخرها يومًا بعد يوم؟  وأي كَرْمٍ نقوم بخدمته؟  أين تتركز الرغبة المُسيطرة علينا؟  هل الرب يسوع يجذب رغبات القلب ويوقظ محبتنا وتكريسنا؟  هل نستطيع أن نقول مع الرسول بولس: «لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ»؟  أم هناك شيء من هذا العالم هو النبع المسيطر على قلوبنا؟  حسن لنا أن نضع هذه الأسئلة أمام قلوبنا المسكينة، ونمتحنها هكذا في محضر الرب.

لقد خطَّط أخيتوفل لقتل داود وحده، ولم يعمل حسابًا لإله داود الذي سُر به (2صم22: 20).  لذلك فإن أخيتوفل هو الذي مات في هذا الأصحاح (ع23)، وتبعه أبشالوم الشرير (2صم18: 15)، وأما داود فقد ظل حيًّا إلى أن «مَاتَ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ وَقَدْ شَبِعَ أَيَّامًا وَغِنىً وَكَرَامَةً.  وَمَلَكَ سُلَيْمَانُ ابْنُهُ مَكَانَهُ» (1أخ29: 28).
                                                    (يتبع)
                                   
 


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com